}

حرب الإبادة على غزة: عودة إلى عقيدة "الجدار الحديدي"

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 14 أكتوبر 2023
هنا/الآن حرب الإبادة على غزة: عودة إلى عقيدة "الجدار الحديدي"
من مظاهرة تضامنية مع غزّة (13/10/2023/ Getty)
في خضم توحّش حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة جسدًا وبشرًا، لا تغيب عن أذهاننا قطّ بضع إشارات من الماضي القريب والبعيد إلى ما يحدث الآن، والتي بالاستناد إليها في الإمكان اعتبار أن ما يجري تطبيقه ميدانيًا هو "ثمرة" مُخططات مودعة في الأدراج. وربما يجدر بهذا الشأن أيضًا أن نستعيد استخلاص أحد أساتذة الألسنية في الجامعات الإسرائيلية الذي أكد قبل عدة أعوام أن "البربرية الإسرائيلية الحديثة"، حسبما تجسّدت مظاهرها في آخر الجرائم التي يرتكبها الاحتلال في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، هي البربرية الإسرائيلية القديمة ذاتها، ولكن من دون خجل، نظرًا إلى أن "مستنقع الاحتلال يخلع شكلًا ويرتدي آخر. فهو هنا منذ أعوام طويلة، ونحن غارقون فيه إلى درجة أصبح من الصعب معها أن نرى التغيّرات الحاصلة فيه"!، وبطبيعة الحال قبل مستنقع الاحتلال هناك مستنقع الصهيونية المسؤول عن نهب وطن الفلسطينيين بعد تطهيره عرقيًّا من أهله الأصلانيين.
والحرب الإسرائيلية الحاليّة على قطاع غزة ("السيوف الحديدية") ليست الأولى، فهي واحدة من سلسلة حروب عدوانيّة متواترة منذ خطة فك الارتباط الإسرائيلية عام 2005 والتي أعقبها الانقسام الفلسطيني في حزيران/ يونيو 2007. ووقعت الحرب الأولى، إثر تلك الخطة، في الفترة بين 27 كانون الأول/ ديسمبر 2008 و18 كانون الثاني/ يناير 2009، وأسميت إسرائيليًا "عملية الرصاص المسبوك". وفي ذلك الوقت كتبنا، في معرض التطرّق إليها واستنباط دلالاتها، أنه من ناحية القراءات الإسرائيلية المتعددة، فإن المعلق السياسي والعسكري الإسرائيلي عوفر شيلح (أصبح فيما بعد عضوًا في الكنيست الإسرائيلي عن حزب "يوجد مستقبل" برئاسة عضو الكنيست وزعيم المعارضة الحالي ورئيس الحكومة السابق يائير لبيد، ثم استقال من هذا المنصب) كان أول من أشار إلى كون تلك الحرب تندرج في إطار "عقيدة أمنية جديدة" في إسرائيل تبلورت في الآونة الأخيرة. وفحوى هذه العقيدة الجديدة، وفقًا لما قاله، هو أن تتصرف إسرائيل باعتبارها "دولـة هوجـاء" في مقابل "أعداء يتبنون إستراتيجيا الاستنزاف وإطلاق النار عن بُعد". وبكلمات أخرى "أن تردّ (على مصادر إطلاق النار) بعملية عسكرية كبيرة ووحشية، بغضّ النظر عن عدد الضحايا في صفوفها!" (صحيفة معاريف، 28 كانون الأول/ ديسمبر 2008). وعقب إشارة شيلح هذه أكد أكثر من معلق سياسي وعسكري إسرائيلي أن جانبًا من التطبيقات المفرطة في وحشيتها لهذه العدوانية الإسرائيلية الهوجاء في غزة مُستوحى قلبًا وقالبًا من "مقاربة الحرب الروسية في جورجيا"، خلال آب/ أغسطس 2008، والتي تقف في صلبها عقيدة أن "كل شيء في الحرب مُباح"!. وذهب المعلق العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت، أليكس فيشمان، إلى حدّ القول إنه من الآن فصاعدًا ما عاد في إمكان الجنرالات الإسرائيليين، الذين سبق أن تحدثوا بلهفـة عن الأساليب التي استعملها الزعيم الروسي فلاديمير بوتين خلال حربه على جورجيا، إلا أن يتحدثوا باللهفة نفسها عن أداء الجيش الإسرائيلي في القطاع.




ولم يكن عسيرًا الاستنتاج في ذلك الوقت أن تلك العقيدة مُستلة في العمق مما اصطلح، قبل فترة وجيزة من تناولها بالشرح والتحليل، على تسميتها بـ "استراتيجيا الضاحية" أو "عقيدة الضاحية"، والتي كان قائد المنطقة العسكرية الشمالية في الجيش الإسرائيلي في ذلك الوقت، الجنرال غادي أيزنكوت، أول من تحدّث بشأنها (أيزنكوت أصبح لاحقًا رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، وهو الآن عضو في الكنيست، وبالتزامن مع نشر هذا المقال أضحى وزيرًا في حكومة الطوارئ الإسرائيلية التي تتولى إدارة شؤون الحرب الحاليّة على قطاع غزة وأعلن عن تشكيلها يوم 12 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي بعد انضمام تحالف "المعسكر الرسمي" إليها).
وورد حديث أيزنكوت في سياق مقابلة أدلى بها إلى صحيفة يديعوت أحرونوت بتاريخ 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2008. ومما قاله في هذا الصدد: "أنا أسمي ذلك عقيدة الضاحية. وفحواها أن ما حدث في حي الضاحية الجنوبية في بيروت، خلال حرب لبنان الثانية عام 2006، هو ما سيحدث أيضًا في أي قرية لبنانية يطلقون النار منها على إسرائيل. فسنفعّل ضدها قوة غير متناظرة، ونتسبّب بضرر ودمار بالغين. وسيغدو الحديث، من ناحيتنا، يدور حول قواعد عسكرية، لا حول قرى مدنية". وردًا على سؤال فيما إذا كان هذا يعني أنه يوصي هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي والمؤسسة السياسية في إسرائيل بإنزال أقصى العقوبة بأي قرية لبنانية تُطلق نيران منها؟، أجاب أيزنكوت: "هذه ليست توصية. إنها خطة، وقد تمّ إقرارها". وطبقًا لما قاله هذا الجنرال فقد منيت إسرائيل، خلال حرب لبنان الثانية، بإخفاقين "الأول- عدم تقصير أمد الحرب. والثاني- إتاحة المجال، طوال 33 يومًا، لشنّ هجمات بالصواريخ على إسرائيل ولإطلاق النار على نطاق غير مسبوق منذ حرب الاستقلال" [حرب 1948]. أمّا النتيجة التي يتوصل إليها فهي ما يلي: يجب أن يتم حسم الحرب المقبلة، في حالة اندلاعها، بسرعة وقوة ومن دون أي اعتبار للرأي العام العالمي. فـ "لدينا القدرة على القيام بذلك. ولدينا قوة كبيرة، بالمقارنة مع ما كان. وليست لديّ أي أعذار لعدم تحقيق الأهداف التي سأُكلف بإنجازها!".

امرأة فلسطينية جريحة تنتظر العلاج الطبي إثر قصف قوات الاحتلال (13/ 10/ 2023/ Getty)

بطبيعة الحال ثمة إمكانية للتطرّق إلى حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة من نواحٍ كثيرة، غير أن هذه الناحية تحديدًا تبقى، في رأيي، الأشدّ أهمية في الوقت الحالي، نظرًا لما تعنيه من تداعيات في الزمن الراهن، قد تترتب على مضي إسرائيل نحو المزيد من العدوانية الهوجاء، سواء إزاء الشعبين الفلسطيني واللبناني، أو إزاء سائر الشعوب في منطقة الشرق الأوسط. ولا يقل أهمية عن ذلك، في الوقت نفسه، أن هذه الناحية تشفّ عن جوهر إسرائيل في أعين قادتها، ماضيًا وحاضرًا وأيضًا مستقبلًا.
وإذا ما شئنا تأصيل الأشياء، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن من الوقائع الواردة أعلاه بشأن هذه "العقيدة العسكرية الإسرائيلية"- التي وصفت قبل 15 عامًا بأنها جديدة- هو كونها منشدّة إلى مبدأ أصلي من مبادئ إسرائيل منذ إقامتها، بل وحتى قبل ذلك أيضًا، وهو مبدأ "الجدار الحديدي". وكان زعيم "التيار التنقيحي" في الحركة الصهيونية، زئيف جابوتنسكي، هو الذي سكّ هذا المبدأ في عشرينيات القرن العشرين الفائت في صيغة "رؤيـا" لا أكثر، غير أن الممارسات اللاحقة لخصومه من تيار العمل، وفي مقدمهم أول رئيس للحكومة وأول وزير للدفاع ديفيد بن غوريون، أكدت أن هذا المبدأ شكل أساسًا لتحليل نظرية الأمن الإسرائيلية. [كتب جابوتنسكي، خلال الفترة المذكورة، مقالين شكلا أساسًا لفهم النظرية الأمنية الإسرائيلية منذ ذلك الوقت وحتى الآن. وقد حمل المقال الأول عنوان "على الجدار الحديدي (نحن والعرب)"، فيما حمل الثاني عنوان "فضيلة الجدار الحديدي"].  
ووفقًا لنص جابوتنسكي نفسه فقد كانت الفكرة الكامنة وراء "الجدار الحديدي" بسيطة في رأيه، ومؤداها ما يلي: لا توجد سابقة تاريخية تخلّى فيها شعب ما طواعية عن وطنه، ولذلك فإن عرب "أرض إسرائيل" (فلسطين) لن يتخلوا أيضًا عن أرضهم لصالح "الييشوف اليهودي"، بل سيبذلون قصارى الجهد من أجل إلحاق الهزيمة بمجتمع الاستيطان اليهودي، ومنعه من التوسّع في البلد. وفي ظل هذه الظروف هناك طريقة واحدة لحمل العرب على التسليم بوجود أغلبية يهودية وسلطة يهودية في البلد، هي حرمانهم من امتلاك القدرة على تصفية "الكيان اليهودي" بالقوة، وأنه فقط إذا أيقن العرب أن محاولة فرض إرادتهم بالقوة هي أشبه بعبور "جدار حديدي" يستحيل اختراقه، فسوف يكونون عندئذٍ مستعدين للتسليم بالسيطرة اليهودية على "أرض إسرائيل"!




وفي رأي عضو الكنيست الإسرائيلي السابق، البروفيسور يتسحاق بن يسرائيل، وهو جنرال في الاحتياط وترأس "برنامج الدراسات الأمنية" في جامعة تل أبيب ويعتبر من أبرز الخبراء في الشؤون الأمنية الإسرائيلية، فقد أدرك بن غوريون أن أي انتصار ستحرزه إسرائيل على العرب سيكون مؤقتًا، وأنه سيكون في إمكانهم، بحكم ما يمتلكونه من موارد بشرية ومادية، إعادة بناء جيشهم وشنّ حرب جديدة ضد إسرائيل كل خمسة أو عشرة أعوام حتى لو أبيد جيشهم بأكمله في الجولة السابقة. وهذا يعني عمليًا أن نهاية القصة ستأتي فقط إذا انتصر العرب وهُزمت إسرائيل. وبناء على ذلك فقد انصرفت الجهود كلها، أولًا، نحو بناء جيش كبير قياسًا مع الحجم الطبيعي لدولة إسرائيل. وبدلًا من احتفاظ الدولة، كما هو مألوف في سائر الدول الطبيعية في العالم، بنحو نصف في المئة من رجالها في الجيش، فإن إسرائيل تحتفظ بنحو خمسة بالمئة، ومن هنا يمتلك الجيش الإسرائيلي عددًا من الجنود والطائرات والمدافع والدبابات... إلخ يفوق ما تمتلكه دول عظمى. وقد أدى ذلك، في حينه، إلى طرح السؤال التالي: كيف في إمكان الدولة أن تبني جيشًا أكبر بعشرة أضعاف (بالمقارنة مع حجم وتعداد إسرائيل) من أي دولة أخرى، من دون أن يؤدي ذلك إلى انهيار الاقتصاد الإسرائيلي؟. وكان الجواب هو: بواسطة إقامة جيش لا يتقاضى أفراده رواتب... وأن يكون المكوّنان الرئيسيان للجيش معتمدين على جنود خدمة إلزامية (لا يتلقون أجرًا) وعلى تشكيلات احتياط (لا تكون مُجندة بشكل عام)، على أن يتم سد باقي الفجوات بواسطة "ميزة التراث اليهودي، الذي يربي على التفوّق والثقافة الواسعة والنظرة النقدية والمتشككة حيال العالم"... أما "الجدار الحديدي" فسوف يُشيّد تدريجيًا، بواسطة ما وصفه يغئال ألون بـ "الردع المتراكم"، الذي يمكن أن يتحقق إذا ما انتصرت إسرائيل في كل جولة حربية على أعدائها بصورة لا تقبل التأويل.  فقد ساور بن غوريون ورفاقه الأمل في أنه وبعد بضع جولات من هذا القبيل، سيبدأ قسم من أعداء إسرائيل بالخروج من دائرة الحرب. وبهذا الشكل بُنيت نظرية أمنية خاصة تقوم على مفهوم "الحسم"، الذي قد لا يوجد مثيل له في النظريات الأمنية لدى الدول الأخرى. ومن شأن الحسم في كل جولة قتالية بين إسرائيل وجيرانها أن يتحوّل في تراكمه إلى "ردع" يشكل "جدارًا حديديًا". واستنادًا إلى ذلك في الإمكان القول إن "الحسم" و"الردع" يشكلان حجري الزاوية في نظرية الأمن الإسرائيلية، أولًا ودائمًا.
وفي رأي بن يسرائيل فقد تجلت هذه النظرية الأمنية، بمرور الأعوام، باعتبارها قصة نجاح رائعة ومدهشة. وبنظرة إلى الوراء يتبيّن أنها كانت فعالة أيضًا بشكل مدهش، إذ واجهت إسرائيل بالفعل كل خمسة إلى عشرة أعوام جولة عنف وحرب جديدة نجحت فيها كلها (ربما باستثناء حربي 1973 و 2006) في أن تخرج منتصرة بشكل اعتبرته حاسمًا. وكانت مصر هي أول الدول العربية التي خرجت من دائرة الحرب والصراع، وتبعتها الأردن. وقد نجحت إسرائيل في ذلك كله من دون أن تتسبب بانهيار اقتصادها. بل على العكس، فقد شهد اقتصادها تطوّرًا ونموًا.
طبعًا من السابق لأوانه الآن تناول تداعيات الحرب الحالية على غزة فيما يتعلق بعنصري "الحسم" و"الردع"، ولا بُدّ من العودة إليها في وقت لاحق في المستقبل. غير أنه ينبغي أن نشير أيضًا إلى أن الوعي الذي يقوم عليه الإجماع الإسرائيلي الآن، فضلًا عما يتصل بالعقيدة الأمنيّة وارتباطها بـ "الجدار الحديدي"، هو أن الفلسطينيين وحدهم يتحملون وزر أوضاعهم، وذلك بالتوازي مع إنكار دور الاحتلال ومسؤوليته تجاه كارثة قطاع غزة والقضية الفلسطينية عمومًا. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.