}

مذاق الجبنة

زهير كريم 2 مارس 2018
قص مذاق الجبنة
لوحة للفنان المصري سمير فؤاد

ذهب رجل بدعوة إلى معرض للفن، شاهد الأعمال التي في الصالة كلّها، وتوقف لوقت جيد عند بعضها، تحدث مع المدعوين الآخرين بحماسة عن الفن، وهنّأ الفنان عندما صادفه يتحدث إلى امرأة مسنَّة بخصوص إحدى اللوحات، صافحه بحرارة وامتدح بعض الأعمال، مشيراً بإصبعه  إلى واحدة هي الأكبر حجماً، قال عنها: عمل عظيم، لكنه أيضاً - وهذا هو لبُّ الحكاية - أكل بعد جولته جبنة من بين أنواع عديدة كانت موضوعة على الطاولة، جبنة تبدو عادية كأيّ نوع  آخر، في البداية تخيّلها مجرد شرائح من الخبز الأسمر، ولكن الشيء الذي ذاب في فمه لم يكن ذا مذاق عاديّ، أخذ قطعة أخرى لكي يفهم بالضبط سرَّ هذا التفاعل غير التقليدي بين لسانه والمذاق الذي تكوّنت بسببه عاطفة غامضة على لسانه، فمنح هذا الشيء اسماً - الطعم  العجائبي -، ثم بعد أربع شرائح تشكل لديه رأيّ لا سبيل إلى الشك فيه، أن لحظة اكتشافه هذه استثنائية لحاسة الذوق، وأن هذا النوع قد تجاوز كل المقاييس عندما يتعلق الأمر بالخريطة الغذائية للبشر، بل هو شيء مثاليّ وأقرب إلى الحلم منه إلى مجرد جبنة لذيذة.

ثم مرت مشاعره، أثناء ذلك، في مراحل تصاعدية من التوتر والحماسة، على النحو الذي تخيّل فيه أن شيئاً ما سيحدث له، شيئاً مزعجاً بسبب هذه الحماسة التي لا يبدو لتصاعدها حدود. تساءل عن الأسس الفلسفية التي ألهمت المنتج، فقادته إلى صناعة شيء مخدِّر كهذا لحاسة  الذوق، بل وحتى لحواس أخرى، ثم حدّث نفسه، ولا بد أن الآخرين شاهدوا الحركة المرتجفة  لشفتيه: هل كان فلاحاً ذا مخيلة نقدية لم تهدأ أبداً حتى قدمت مثل هذه التحفة الغذائية، أو ربما هو صاحب مصنع، لكنه من النوع الذي يتمتع بحس سليم تجاوز بواسطته كل التقاليد التي خضعت لها هذه المهنة، أو ربما هو عالم غذائيات، نعم لا بد أن يكون عالماً عظيماً، وذا خبرة أساسها ثقافة حداثوية، بالقدر الذي يجعل رؤيته في الصناعة تعتمد على تخريب كل ما هو سائد من أفكار مستهلكة، ولن أشك قط في أن الذي صنع هذا الشيء يمتلك حاسة فنان شديدة الرهافة. وعلى كل حال، أكل الرجل من الجبنة بنهمٍ شريحةً بعد أخرى، وكان يغمض عينيه في مرحلة من مراحل الانتشاء، واقفاً بخشوع، وحدهما فكّاه كانا يتحركان ببطء وبدون مبالغة، ولم ينتبه إطلاقاً إلى أنه، منذ نصف ساعة، لم يغادر الطاولة، غير مبالٍ بالأنواع العديدة من الشراب والفاكهة والمكسرات، لقد كان منشغلاً بكامل وجوده بهذا المنتج الغامض، كما لو أنه أمام عمل فني خارج كل قاعدة للتلقي ومنفلتاً من كل الأسس النقدية، حسناً، لقد كان قلقاً بدون شك، وينقصه بالفعل انضمام شخص آخر، شخص يتمتع بحس سليم يساعده على تبرير هذه الحماسة، رصد الحاضرين واحداً واحداً، لكنه لم يجد على ما يبدو في فحصه السريع، من يصلح كشريك يتقاسم معه هذه النشوة، وكان يحتاج بالفعل في تلك اللحظات النادرة، إلى أن يخلص لنتيجة  قاطعة في أهمية اكتشافه، استدعى كل المذاقات المخزونة في ذاكرته، ثم أكل قطعاً صغيرة من الأنواع الموضوعة كلها، خاصة تلك التي لم يجربها من قبل، جبنة اسمها "أنثى الفيل" كانت ذات رائحة غير مريحة، "عجينة  البقر"، جبنة لزجة لم يتقبلها أيضاً، وهناك جبنة صلبة  ومالحة جداً اسمها "رخام الجنوب"، لم تعجبه، أكل من "ورماندي"، "بروج القديمة"، "مكرونة جوراسيان"، "زهرة نامور"، "فردوس الماعز"، وفي النهاية تأكد أنه ليس واهماً، وأن ما صنعته الصدفة في هذه اللحظة لا يتعلق بمجرد نوع لذيذ لم يجربه من قبل، الأمر لا يتعلق أبداً  بالجبنة، بل بالنشوة التي تمنحها الأسرار لإيقاع الحياة الرتيب، وفي الحقيقة، لم يكن الرجل الذي ذهب للمعرض، من النوع الذي يفضل الاحتفال وحده باكتشاف مثل هذا، اقتطع شريحة كبيرة، دسها في جيب سترته، امرأة نظرت له باستغراب، أجابها بنظرة غير مريحة، ابتسمت كما لو أنها تطلب المغفرة عن تطفلها، قابلها بابتسامة في النهاية وقال لنفسه: المسكينة لا تعرف بالطبع أن لساني، بل فمي، كل معدتي، دمي، بل أعماقي البعيدة تترنح الآن من السكر، لقد تناولت شيئاً نادراً، أما هؤلاء الذين أكلوا من نفس الجبنة، أعتقد أنهم يعانون من مشاكل خطيرة تتعلق  بحاسة الذوق، بل إنهم مصابون بعسر التلقي. وفي غمرة هذه النشوة، لم يفكر، مثلما قرأ الأسماء كلها، أن يهتم أيضاً بمعرفة اسم جبنته، ربما لم يكن لها اسم، وهذه صفة الأشياء الغامضة التي لا يمكن تفسيرها، أو لأنه كان هائماً في حقول نشوته، لكنه ارتكب أثناء ذلك خطأه الفظيع، الخطأ الذي كلفه الكثير من الجهد والخسائر المادية.

 وعندما دسّ شريحة في جيبه، كان يفكر بضرورة ألا يحرم عائلته الصغيرة من هذه المتعة، وفي الحقيقة لم تكن سوى ذريعة وحسب، فهو يحتاج، على نحو مصيري، إلى أن يشاركه أحد الحديث عن الجبنة، وأن يكون الحديث متشعباً وصادقاً وعميقاً، لم يكن يعجبه كذلك أن يكون المهووس الوحيد بهذا الشيء، كان يريد أن يدفع عن نفسه تهمة أنه مجرد حالم بطريقة مضحكة، وبالفعل كانت تلك الليلة مشحونة بالعواطف، إذ إن العائلة كلها، ولوقت متأخر، غرقت في حلم لذيذ، أرجأ الجميع كل حديث وركزوا بحماسة على فكرة أن هذا النموذج السحري يمنح حاسة الذوق بعداً صوفياً وعاطفة صافية، إنه شيء يستطيع أن يؤثر في تاريخ العلاقة بين حاسة الذوق، على وجه الخصوص، والأشياء ويصنع آلية جديدة للتلقي.

 

- رغم أنه يشكل خطراً.

قالت الزوجة، وأضافت:

-نعم، كما يحدث مع الأعمال الفنية العظيمة، المقطوعات الموسيقية التي توصف بأنها مقطوعات عبقرية، أشياء مثل هذه تصبح عائقاً أمام تجريب الأنواع الأخرى، فمثل هذا الشيء، يتغلغل في الوجدان ثم يصير مع مرور الوقت معياراً داخلياً، قيمة طاردة لا يمكن تفكيك نسيجها.

وفي تلك اللحظة التي كان الجميع يستمع فيها لهذا الخطاب، شعروا بشيء بين الخوف والإحساس بالفخر، لكن نظرات الرجل كانت مشحونة بعدم الفهم، أو أنه يحاول إيجاد رتق لتغطية هذه الثغرة الخطيرة في الموضوع. 

- خطر؟ هل يمكن أن توضحي أكثر!!

تساءل الزوج وقد ظهرت في صوته مشاعر الكائن الذي يسمع صوتاً مقلقاً في حوار يقود إلى النهايات، صوتاً مؤثراً كما يحدث عند مجيء العاصفة التي سوف تحطم كل شيء.

- نعم.

قالت الزوجة، ثم شرحت ذلك بشكل موسع.

- في المستقبل، سوف نفشل جميعاً في استقبال مذاقات أنواع أخرى، هذه الجبنة فيها المعنى الدقيق للشعرية الصافية، لا يتعلق الأمر بحاسة الذوق، وحسب، انظر إلى شكلها من الخارج، هذه القشرة التي تشبه لوحة ساحرة، والملمس أيضاً حين تمرر طرف إصبعك عليها، صوت ذوبانها على اللسان، لقد سمعته، كانت تصدر صوتاً قاسياً في موسيقاه حين تذوب، ورائحتها، نعم رائحتها كذلك.

حسنٌ، حدث ذلك منذ ثلاث سنوات، وخلال فترة طويلة أعقبت هذا الاكتشاف، تكاتفت حواس العائلة للبحث عن الجبنة، وكانت الزوجة تؤنب كل يوم زوجها لأنه لم يسأل القيمين على إدارة المعرض عن اسمها ومصدرها، لقد سأل بالفعل صديقه الفنان، وصديقه سأل مدير القاعة ولكن دون جدوى، بحثت العائلة في الأسواق الأسبوعية، في السوبر ماركت، بعلاماته التجارية المتنوعة (كارفور ـ ليدل، كولارايت، دوليز، اوكاي، يورو سبار، ماتش، كورا)، تصفحوا  مجلات الإعلان التي توزعها مجاناً شركات الأغذية، وفي مواقع الإنترنت، جربوا أنواعاً كثيرة تشبهه بشكله الخارجي ولم يحصلوا على شيء، (جبنة كودا بأنواعها، خمرة المارشال، أغنية  الراهب، صباح وواترلو، تفاحة الليل، الذائبة، المزارع السعيد، ثمرة الحب)، وكان الرجل مستعداً لكل شيء، ولم يمنع نفسه قط من سؤال الموظفين في الأسواق، وفي كل مرة كان يعيد القصة، سردها مئات المرات.

-دعيت إلى معرض للفن، شاهدت اللوحات وتحدثت مع الحضور، هنأت الفنان، لكنني أكلت جبنة هناك، لم أعرف اسمها، لقد اختلطت عليّ الأشكال فلم أعد أعرف على وجه الدقة شكلها  الخارجي، لقد بحثت في كل مكان، في بلجيكا وفرنسا، في هولندا ولوكسومبورغ، في  الماركات التجارية الموجودة في الأسواق الكبيرة والصغيرة، بحثت كذلك عنها في الأنواع التي تنتج في القرى بشكل محدود، جربت البحث حتى بين الأنواع التي تنتج في المعابد، إنها جبنة بيضاء، أعرف أنك ستقول: هل تسخر مني أيها السيد، فالجبن معظمه أبيض. لكنها جبنة لها قشرة  تشبه الخبز الأسمر: الحقيقة أن أنواعاً كثيرة لها قشرة تشبه الخبز الأسمر. يقول الموظف، وهو ينظر بريبة إلى الرجل الذي لا يبدو عليه الاتزان!

 ثم مع مرور الوقت، ضعفت حماسته بسبب اليأس، وكانوا قد اشتروا، خلال فترة البحث أنواعاً عديدة غالية، ظنوا في البداية أنها النوع المطلوب، لكنهم يصابون في كل مرة بالخيبة، جربوا كل المذاقات حتى لم يعد ثمة سبيل إلى الشك في أنهم لن يحصلوا إطلاقاً على نوعهم الساحر، ثم نسيت العائلة - بسبب تراكم طبقات من المذاقات المختلفة على ألسنتهم - الطعم الأسطوري لجبنتهم الأصلية، واندثر مذاقها تحت طبقات من النسيان، لكن الرجل دعي، في يوم ما، إلى أمسية شعرية بمرافقة الموسيقى، استمع للقصائد وهز رأسه مراراً، تعبيراً عن إعجابه بالعزف، صفق في النهاية بحرارة كما صفق الآخرون، وفي الوقت الذي تحرك فيه الجمهور إلى طاولة  في عمق الصالة لتناول كأس من الشراب وبعض المأكولات الخفيفة، وقعت نظرة الرجل على جبنته، ولفترة وجيزة لم يستوعب هذه المصادفة، أراد أن يشهق - لقد وجدتها - لكنه قال في محاولة لمقاومة ما سماه الترسبات المرضية للأساطير في العاطفة الجمعية: إنها نوع آخر وحسب ، ويبدو أن ما أبحث عنه ليس سوى حلم، نعم حلم ولا تفسير يناسب هذا الأمر سوى  أنه حلم، نعم، من المؤكد أنه حلم، ومن الواضح أننا، أنا وعائلتي، لا نريد أن نصدق أنه كذلك. لكنه، ورغم هذا التفسير، لم يمنع نفسه من الاقتراب، ومنذ أن صارت الشريحة الصغيرة على لسانه، دق قلبه، كما لو أنه لم يكن هنا، بل لم يكن في أيّ مكان آخر، انفصل عن العالم ليجمع كل قواه من أجل الحصول على نفس الشعور القديم، وأن  يقوّي إيمانه بالصدفة الحنونة التي سوف تعيد له كنزه. قطع شريحة أخرى، وكان قلبه مضطرباً بالفعل، ويده ترتجف في الوقت الذي قرر فيه أن يدس الشريحة في فمه، أغمض عينيه، وبدأ، على نحو بطيء، يمضغ هذا الشي، ومنذ اللحظة التي تسلل بها المذاق إلى حواسه، ابتسم، دس يده في جيبه ليخرج هاتفه  ويتصل بزوجته، لكنه أرجأ القيام بهذه الحركة، اقتطع شريحة أخرى ولم يتوقف عن الأكل حتى مرتّ إحدى الشابات التي يبدو أنها من القيِّمين على إدارة الأمسية. 

-من فضلك آنسة، ما اسم هذه الجبنة، ومصدرها؟!

وفي تلك الليلة، لم يجلب شيئاً إلى العائلة، قال لهم، غداً صباحاً، سوف أذهب إلى المحل، اشتري كرة كبيرة، وسوف نأكل حتى يصيبنا الخدر.

حدث هذا قبل ستة أشهر، ذهب الرجل بالفعل إلى المحل الذي يبيع الجبن بكل أنواعه، لكنه عندما عاد إلى المنزل، لم يسأله أيّ من أفراد العائلة بخصوص الجبنة الحلم، وهو أيضاً لم يقل  إنه مرّ بالمحلّ في ذلك الصباح، رآها من خلف الزجاج، دخل المحلّ وقرأ الاسم بشكل واضح، تأكد من بياضها، وقشرتها، وحتى رائحتها:

-إنها مجرد جبنة وحسب. قال الرجل لنفسه، ابتسم للبائع وخرج.

 

*كاتب عراقي يقيم في بلجيكا

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.