}
عروض

"عصور دانيال في مدينة الخيوط".. رحلة البطل المهزوم

زهير كريم

13 سبتمبر 2022





أعتقد أن فضيلة سرفانتس في "دون كيخوته" ليست الشخصية ذات الميزة الهزلية التي شكّلها الإفراط في الجدية أمام صورة العالم، وليست النزعة الهدّامة للبناء الأخلاقي الصلد للعصور الوسطى، بل في تقديمه لشخصية عبّرت في اضطرابها عن نزعة جادة وملهمة للتطهير من العقدة، كاشفًا لقضية تتعلق بكون السرد هو المختبر الأكثر خطورة في عرض المفاهيم والقضايا الإشكالية، وأنه ظاهرة اجتماعية شديدة الالتصاق بالمسكوت عنه. هذه هي الإشارة المهمة كما أعتقد في فن الرواية بشكل عام. أمّا الروائي المصري أحمد عبد اللطيف، في روايته الجديدة "عصور دانيال في مدينة الخيوط" (دار العين، 2022)، فقد استطاع أن يُحدث الشعور عند القارئ بخطورة الكتابة، لأنه وبمزيج من الفانتازيا والواقع، قدّم، من خلال شخصيته الرئيسية، عرضًا أقرب إلى التراجيديا بدون ابتذال، داخلًا في منطقة تنطوي على عنصر المأساة التي نتحمل نحن مسؤوليتها جميعًا. لا يتعلق الأمر بحكاية بطله دانيال وحسب، بل بآلاف الحيوات المنتهكة على خط الزمن، فاتحًا نافذة على مساحة تننفس فيها الديستوبيا، ومستلهمًا في جزء من نصه سلطة الأخ الأكبر بحسب تعبير جورج أورويل، من خلال هيمنة الأرشيف على مصائر الناس في المدينة الفوقية، التي يتحول سكانها في النهاية إلى دمى تحرّكها خيوط.

لا يمكن، رغم هذه الإشارة، الاطمئنان عند قراءة هذا العمل لما يمسكه القارئ من طرف خيط، دون أن يجمع خيوطًا عديدة اعتمدت عليها النسيجة النصية. في البداية يمكن القبض على الزمن باعتباره بطلًا لهذه الحكاية، فالعصور التي يتحدث عنها الراوي منفصلة ومتصلة ببعضها، وهي تشكّل التحولات أو الانسلاخات في ذات البطل للعودة بالنهاية إلى ذاته: عصر دانيال الطفل قبل الحادثة، عصر ما بعد الحادثة، وعصر الأرشيف وما رافقه من عمليات قتل متسلسلة، وأخيرًا عصر دانيال الذي تخلص من ظلاله كلها برصاصة، منهيًا في تلك الحركة حياة كل دانيال آخر شغل مساحة العصور السابقة.

لكن هل تخلص دانيال فعلًا من ظلاله كلها؟ هذا ما سوف نمسكه عند استلامنا الخيط الآخر، لا أقصد الحبكة، وهي قضية مركزية تتعلق بالسيرة المخزية للعالم في اغتصاب الأطفال، ليس الخيط الذي يتعلق بالفانتازيا، المساحة الأسلوبية التي كانت تتداخل وتنفصل عن طبيعة حكي دانيال عن نفسه وعن ظله، وليس خيط الدمى التي تتأرجح في فضاء مدينة يغمرها الخزي أو الانتقام، ولكن الخيط الرئيسي هو فعل الكتابة نفسه، سيرة دانيال التي كتبها على شكل تقرير، إذ يظهر في أرشيف آخر النص باعتباره اليد التي حركت الأحداث كلها. إنها شيء يشبه مغامرة سيرفانتس في أن البطل فيها هو رواية دون كيخوته، وأن الكتابة في الحالتين هي نزعة تطهيرية، سواء كانت أخلاقية أو خلاصًا من تصورات قديمة عن العالم.






الزمن/ الذاكرة

يبدأ الراوي من العصر الرابع، أو أيام دانيال الأخيرة، ليصف لنا كيف أن الدمى فتحت الشبابيك لترى مشهد المذبحة في الساحة، أربعين جثة عارية ومذبوحة، بينما الراوي كان قد اكتشف كل شيء قبل أن تستيقظ المدينة. حصل في العتمة على حقيبة كانت مع الجثة المختلفة، الشخص النحيل الذي اسمه دانيال، المقتول برصاصة وليس مثل الآخرين المذبوحين، يفتح الحقيبة عند الفجر، بينما الدمى تفتح في الوقت نفسه الشبابيك لتطل على الساحة التي جرت فيها المذبحة. يبدأ بقراءة الأوراق التي وجدها في حقيبة القتيل، وهي عبارة عن تقرير دانيال عن نفسه، والذي أنهت رصاصة آخر عصوره، والرصاصة هي التقرير نفسه، لأنه في اعترافه حوّل حياته السابقة إلى أرشيف.

الحكاية في نص أحمد عبد اللطيف تجيئنا على شكل جرعات متداخلة، كما لو أنه في كل عصر يعدنا بالكشف عن المزيد في العصر الذي يليه، في العصر الثالث يقدم لنا دانيال كاتب الأرشيف معلومة عن أربعين ذبيحًا شاهدتهم الدمى، في صباح 23 فبراير/شباط، بداية العصر الأخير من عصور دانيال الظل، الساكن في مدينتين علوية وسفلية في الوقت نفسه، قبل أن يظهر لنا أن الرواية التي يقرأ فيها هي قصة عن زوجة اختفى زوجها، هي زوجة دانيال المقتول وهي تتسلم طردًا بعد اختفائه فيه ملف عن قصة حياته، الملف  نفسه الذي كان قد عثر عليه في حقيبة دانيال الآخر المقتول، والذي كتبه داخل شقته في الطابق الخامس، المقابلة لشقة دانيال القارئ في الطابق السادس.

لقد جرت وقائع تلك الليلة بعد ثلاثة أيام هطلت فيها الأمطار، أغرقت المدينة، انقطعت الكهرباء والماء واضطربت الأحوال، وأدى هذا الأمر إلى وقائع مربكة انتهت بليلة مظلمة استيقظت الدمى بعدها على مشهد المذبحة، وكان دانيال الراوي شاهدًا وشريكًا، إذ هبط في العتمة ليحصل في النهاية على حقيبة دانيال الميت برصاصة. سوف يقرأ لنا أوراقه تحت عنوان "دانيال في الأرشيف". بهذا الحدث ينتهي العصر الرابع، لتبدأ قصة أخرى لدانيال آخر، والذي يقول عنه الراوي: لكن دانيال هو قدَري هو شبحي هو جسدي ودانيال هو القطعة التي مني غير أنها منفصلةٌ عني (ص 49). إذ لا يمكن للقارئ أن يتجاوز الإشارة التي يحاول الراوي بثها، في أن هذه المدينة تحتاج إلى التطهير من الخزي، وأن هذا التطهير لن يحصل إلا بالخروج على هيمنة المؤسسة التي تتحكم بمصائر المدينة الفوقية، والتي تعرف كل شيء عن البيوت، وهي نفسها التي تحمي الشيخ المغتصب وأشباهه.

الكاتب كراوٍ وقارئ

يظهر في نهاية هذا النص أن دانيال الكاتب يدوّن سيرته ليحفظها في أرشيف المدينة السفلية، بهذا الفعل سوف يتخلص من الذكرى المؤلمة، الاغتصاب الذي تعرض له عندما كان في العاشرة، ثم جرائمه التي كان المحرض لتنفيذها هو الانتقام، هكذا يتخلص من عدد كبير ممن يعتقد أنهم نسخة واحدة للشيخ الذي انتهك جسده. لقد جرت الأحداث العنيفة منها، القتل والذبح والاغتصاب، مقابل الأبديات الصغيرة التي رافقت الطفولة، داخل مختبر الكتابة نفسه، منسوجًا بخيوط المخيلة التي تتدلى في فضاءات المدينة. في الصفحة 109، يقول الراوي: "كل الذين قتلتهم أحياء". هنا يعلن للقارئ أن ما حدث لم يحدث بالفعل، بل داخل الرواية التي كان يقرأ فيها، والتي كتبها دانيال آخر معتمدًا في حبكتها على الأوراق التي سوف تحفظ في أرشيف المدينة السفلية، إنها سيرة تشير إلى الخراب الذي يمكن أن يحدث الآن وغدًا كما حدث لأشباه دانيال من قبل، لأن الندبة النفسية لدى البطل هي نفسها لدى الجميع، إنهم شظاياه، والانتهاك الذي شمل جسده وروحه هو انتهاك للجميع، وسيرته هي سيرة الآلاف. لذا يبدو دانيال في الرواية إشارة أخلاقية ترافقها الرغبة بالتطهر من خلال الانتقام، أكثر من كونه شخصية سوية، بل إن السرد نفسه يعبر عن اضطراب الراوي مخلوطًا بعدم الفهم الذي يرافق عادةً الأطفال أمام الوقائع المحيرة، مسنودًا بالضياع في ذوات متعددة، أصل وظل، بين الآدمي الذي من لحم ودم وبين الدمية، حتى تبدو انتقالات الحكي الحادة مبررة، فهي قفزات نفسية للعبور من صلادة الواقع وقسوة المدينة، إلى مدينة الخيوط المشدودة، والتي يتأرحج منها سكان المدينة الدمى: بعد الحادثة بات دانيال يرى نفسه كدُمْيَة. كان يرسم في (إسكتشات) رسم صورته ذاتها: "دانيال النائم على السرير بعقدة حول رقبته وخيط ممتد إلى السقف. ويد تمسِّد الخيط بالسبَّابة والإبهام. دانيال السائر في طريق متصل بنفس الخيط. دانيال يأكل. دانيال يبكي. دانيال يقرأ. وفي كل أحواله كان الخيط عنصرًا أساسيًّا في اللوحة". "في تلك الأيام كنت أخرج مع دانيال. لم يكن يتكلم إلا بالكاد. لكنه يشير لرجل ويقول إنه دُمْيَة. هذه البنت دُمْيَة. هذا الولد دُمْيَة. هذه المرأة دُمْيَة. وكان يشير إلى أعلى ويسألني هل ترى يا دانيال الخيوط".





بناء مُركّب

اعتمد المبنى الحكائي لعصور دانيال في مدينة الخيوط، على مستويين من ناحية عرض السيرة الشخصية للبطل، المستوى الأول هو الحدث الواقعي الذي يشكّل قلب الحبكة، والثاني يرتفع بقوة الخيال مشدودًا بخيوط إلى الأول، فيه توظيف لطاقة الفانتازيا لخلق حالة من الاتزان بين الصلابة التي يمثلها عدم الفهم وعدم القدرة وبين الحرية التي يمنحها الخيال.

لا يمكن تجاوز العتبات النصية، العنوان أولا وما يليه، كونها إشارات، أو مفاتيح لفهم هذا النص الذي لا يبدو منذ الصفحة الأولى سهلًا، ويظهر للقارئ بعد كل فصل أنه صعب بالفعل، اعتمد فيه الراوي على تقديم جرعات من الأسرار هي يمثابة نوافذ يكتشف فيها القارئ بعد كل فصل جزءًا من الحادثة، والتي انطوت على نوع من الانتقام في قتل الشيخ الذي يعلّم الصبية القرآن في المدرسة الدينية.  وما حصل لدانيال يتعلق بانشطار الذات، والذهاب بعيدًا بالمخيلة محاولًا استعادة طفل ما قبل الحادثة، والذي يعلن الراوي حنينه إليه في إحدى العتبات النصية، ويشير له بعتبة أخرى بدانيال النبي باعتباره حصل على المعرفة، مؤكدًا نجاته من عقوبة الملك بفضل المعرفة التي حصل عليها بتفسير الأحلام. هنا تكون الكتابة هي المعرفة، وهي الخلاص. فموظفو الأرشيف الأربعون هم من يمسكون بمصائر سكان المدينة الفوقية، يعرفون أسرار حياتهم وحتى أحلامهم، ودانيال واحد منهم: "إن ورقة بيضاء ليست مثل ورقة سوداء ولو قال الميزان عكس ذلك وفي الشارع رأيت خيوط الماريونيت فوق رؤوس العرائس ورأيت اليد التي تحرِّكها وتأملت كيف تضاءل حجم الناس ليتخذوا حجم الدُّمَى ولو كانت كبيرة الحجم".

واعتبارًا من الصفحة 190 وحتى 231، يحاول دانيال الراوي الانفصال عن  ظلاله تقريبًا. يظهر وحيدًا، خارجًا من تعدده ليروي بضمير المتكلم عن نفسه التي غادرت الحلم، متخليًا عن الفانتازيا، يستدرج ضحاياه وهو يشير إلى ذاته الواعية دون أن ينسى الإشارة بوعي إلى الشخصيات الأخرى التي رافقت طفولته وصباه، والتي سعى طوال الوقت لقتلها، كما لو أنه يحاول استبدال ثيابه الملوثة، وزمنه الملوث بآخر جديد سوف يبدأ معه سيرة جديدة: "أفكر الآن كَمْ شيء ميت في حياتي ينبغي دفنه من دون أن أدفنه".

في الفصل المتعلق بالانتقام، كان يمكن للحكاية أن تنزلق إلى حبكة بوليسية، لكن أحمد عبد اللطيف، وبذكاء ووعي، استطاع أن يشير فقط، ثم ينقل القارئ بسرعة إلى المشهد الافتتاحي، مصرحًا بأن جميع المقتولين أحياء، وأن لا شيء يحدث خارج الكلمات المحفوظة في أرشيف دانيال الشخصي: "مسافر في قطار بلا قِبْلَة أنزل في كل محطاته بلا استثناء وأعاود ركوبه كأنه مصير لا يمكن تجنبه وفي كل محطة أترك جثة ومع كل جثة أشعر بأني حققت نوعًا من العدالة حتى لو أصابني ذلك باكتئاب ومخاوف والآن أنا في محطة جديدة محطة ضيقة ومهجورة وجدت نفسي فيها بعد أن صارت يدي اليسرى بخمس أصابع تشبه خمسة أنصال وصار زوار أحلامي قتلى وموتى".

هكذا ينفصل دانيال عن زمنه عندما يغلق أرشيفه برصاصة، ولكن هل نستطيع حقًا التخلص من الماضي، من حزننا وآلامنا، يحدث ذلك في الكتابة ربما، عندما نتحول إلى شخصيات في حكاية. في الصفحة 168 يقول الراوي: "حين مات أبوه مات أبي. وحين ماتت أمه ماتت أمي. وحين تزوج تزوجت. وخلال سنوات لم نعُد أصدقاءً كما كنا. تقطَّعت بيننا الجسور. أراقبه من بعيدٍ كأبٍ يحرس ابنًا. من دون أن يتدخل في شؤونه. وكان يتجاهلني كأنه يريد التخلص مني. فهمتُ مع الوقت أن عدوَّنا الحقيقي هو الشخص الذي يعرف نقيصتنا. الشخص المطَّلِع على سرِّنا المخزي. وكنت أنا بالنسبة إلى دانيال هذا العدو".

أخيرًا، أعترف أن رحلتي مع دانيال كانت ممتعة وقلقة في الوقت نفسه، في لحظة ما شعرت كما لو أني داخل متاهة، لكني اكتشفت مبكرًا أيضًا أنها من النوع الذي يقدم لك العلامات دائمًا بشرط أن تواصل التقدم، وأن لا تشعر باليأس او نفاد صبر، إنها رواية تحتاج إلى بعض الصبر لتذوّق طعمها الذي سوف تكتشف في النهاية أنه لذيذ ويستحق الجهد.

*كاتب من العراق.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.