}

فاروق يوسف: الكتابة تحرر المرء من قيود الغربة

أشرف الحساني 27 ديسمبر 2019
حوارات فاروق يوسف: الكتابة تحرر المرء من قيود الغربة
"سوق الفن في العالم العربي تُدار بطريقة مريبة"
للناقد الفني العراقي فاروق يوسف، الذي يقيم حاليا في لندن، مكانة متميزة داخل كارطوغرافية النقد الفني العربي، بسبب غزارته وإلمامه الكثيف بالتجارب الفنية العربية ومواطن اشتغالها، ثم حرصه الدؤوب على أن يتنزل الفن العربي المعاصر مكانة محترمة داخل جغرافيات الفن الغربي ومؤسساته، محاربا كل أشكال الابتذال الفني التي قد تروج لها بعض المؤسسات الفنية، خاصة وأن كتابات فاروق لا تتجه مباشرة صوب العمل الفني لتحليله وإبراز ثرائه الجمالي وقيمته داخل السياق التاريخي والاجتماعي الذي أنتجه، بل يمارس دوما كتابة متموجة تقوم على تشريح سياسة الفن ومؤسساته، بكل منطلقاتها العملية والوظيفية، التي يعمل على تشخيص أعطابها وممارساتها اللافنية من اقتناء وعرض. وإلى جانب كتبات نقدية من قبيل "سيرة اللامرئي في الرسم"، "ثلاثون سنة من الرسم"، "الفن في متاهة: الفن العربي بين المتحف والسوق والفنون المعاصرة" صدرت ليوسف جملة دواوين شعرية ويوميات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "أناشيد السكون"، "الملاك يتبعه حشد من الأمراء"، "لاجىء تتبعه بلاد تختفي"، "نصف حياة"، "فسيفساء الجمال الدمشقي".

بمناسبة فوز كتابه الجديد "شاعر عربي في نيويورك: على خطى فدريكو غارسيا لوركا في مانهاتن" قبل أيام قليلة بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة التي يمنحها المركز العربي للأدب الجغرافي ارتياد الآفاق، في صنف اليوميات، أجرينا الحوار التالي مع الناقد الفني العراقي فاروق يوسف:

(*) غادرت العراق باكراً أو هرباً من جحيم السياسة في ذلك الإبان في اتجاه السويد كوطن جديد. كيف يمكن أن يصير المنفى واللجوء وطنا بديلا وأقل رحمة من أوطاننا الحقيقية؟
- بالكتابة. من خلالها وعن طريقها يمكن للمرء أن يتحرر من القيود الجاهزة، قيود الذكرى وقيود الغربة على حد سواء. لقد قدر لي أن أكون كاتبا، لذلك استلهمت حرية الكتابة في خلق وطن بديل. بالنسبة للكاتب فإن الغربة ليست قاسية كما هي بالنسبة للإنسان العادي. ذلك لأنها تصبح مجرد قناع ثان للحقيقة.

وهي حقيقة تملك من الوجوه ما لا يمكن أن يكفي قناع واحد لإخفائها. هي حقيقة الكائن المتمرد على مكانه وزمانه. كانت الكتابة بالنسبة إليّ حلا مثاليا للعبور بين الأزمنة كما بين الأمكنة. لقد كتبت أكثر من عشرة كتب تنتمي إلى "الأدب الشخصي" الذي هو مزيج من الأنواع الأدبية كلها مع مراعاة الحرص على الاعلاء من شأن "الاعتراف" باعتباره واحدة من أعظم ثمار الحرية.

 

كل شيء مارسته يصدر من الشعر
(*) تكتب الشعر وأدب الأطفال وأيضا النقد الفني، ولو أن كتاباتك الفنية ظلت سمة بارزة تطبع المسار الكتابي لدى فاروق يوسف، الذي أضحى اليوم إحدى العلامات البارزة في داخل الكتابة النقدية العربية. لماذا هذا الانشطار المعرفي، وكيف تعيش ذلك في ذاتك كمبدع؟
- كما يمارس المرء حياته الطبيعية بكل تنوعات أحوالها وتعدد أهدافها. مضى زمن طويل على تلك الممارسة التي أغنت حياتي ونسيت كيف تشابكت الأنواع الأدبية لدي. وعلى العموم فإن كل شيء مارسته كان ولا يزال يصدر من الشعر. ولعي بالإيقاع يزيد من قدرتي على التأمل بطرق متعددة. كانت النتيجة أن أؤمن بجملة سلبية من نوع "أنا هكذا". ما كنته وما أنا عليه الآن كان نتيجة طبيعية لما تعلمته بعد أن كنت دائما كائنا يعيش اختلافه باعتباره جوهر وجوده. كنت ولا أزال مختلفا لا لأنني اخترت الاختلاف بل لأن ثقافتي بركائزها الأولى جعلتني كذلك. وبسبب تعدد الأنواع الأدبية التي اشتغلت عليها فقد كنت دائما أنظر إلى الحقيقة بطرق مختلفة، فيها الكثير من الاستفهام الشعري.   

 

(*) فزت قبل يومين بجائزة ابن بطوطة في صنف اليوميات عن كتابك "شاعر عربي في نيويورك: على خطى فدريكو غارسيا لوركا في مانهاتن" ماذا يمكن أن تقول للقارئ العربي عن هذا الكتاب وعوالمه؟
- خلال زيارتي الأولى إلى نيويورك كنت قد عزمت على أن احتفي بها بطريقة أخاذة. لذلك استمعت إلى نصيحة صديقي الشاعر نوري الجراح وحملت معي كتاب لوركا "شاعر في نيويورك" لكي أقرأه في الطائرة. فإذا بي أقتنع بأن يكون ذلك الكتاب دليل سفري إلى مانهاتن. قررت أن أتبع لوركا في تحركاته اليومية التي انعكست شعرا. كنت أشعر أحيانا بأني أمشي وراء شخص أعرفه وحين أجلس مثله في الحانة التي كان يستمع فيها إلى موسيقى الجاز أتلفت فلا أجده. كان يتسرب مثل هواء فيما تبقى أبياته الشعرية أمامي كما لو أنها كائنات مرئية. كانت تجربة عيش مباشر لكن في حركة مستمرة بين زمانين. لم تكن العملية يسيرة. الفاصل بيننا تسعون سنة. تغيرت أشياء كثيرة. أضيفت وانمحت. كان هناك هارلم أخرى في زمانه، غير أن الأبخرة لم تختف. شيء من إيحائه الشعري كان يتحكم بحركة قدمي. رحلة ممتعة ومتعبة في الوقت نفسه. شهر من البحث عن شبح لا يتذكره أحد. غير أنني خرجت من تلك الرحلة بكتاب كان مسرحا لتلاقي تقنيات فنية كثيرة بسبب تنوع ما رأيت من صور وما سمعت من أصوات وما شممت من روائح وما لمست من جدران وما تذوقت من أطعمة. لقد صرت في النهاية كلما أنظر في المرآة لا أرى وجهي بل وجه لوركا. كنت سعيدا بتلك النتيجة.

 

مفهوم السفر
(*) جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة جائزة مهمة واستطاعت في السنوات القليلة الماضية أن تجذب عددا من الكتاب والباحثين والمحققين داخل الوطن. إلى أي حد يمكن لهذه الجوائز أن تكسر جرح العزلة الذي بات يعيشه المثقف العربي من فرط تبعية عمياء للثقافي للسياسي؟
- هناك كتابة جديدة ولدت مع تغير مفهوم السفر. مَن يسافر لا بد أن يكشف أن الملايين تسافر في الوقت نفسه. لذلك صار كل شيء ميسرا وفي الوقت نفسه تتطلب الكتابة جهدا خاصا إذا ما تعلق الأمر بسفر واقعي تقوم به الملايين. وإذا ما كانت الأرض قد اكتشفت فإن طريقة النظر إليها لا تزال مفتوحة على المجهول. منذ سنوات وأنا أعيش في مدن، كل سكانها غرباء. لم تعد تلك الصفة ثقيلة. غير أنها لا تزال في حاجة إلى تفكيك أسرارها لكي تكون واضحة. وهو ما يمكن أن تساعد عليه الكتابة.

ومثلما هناك كتب سياحية يتم الاهتداء من خلال خرائطها على الأماكن فإن المرء يحتاج إلى خرائط للروح. تلك الخرائط في إمكانها أن تقلل من العذاب الذي يشعر به الغريب. كتب الرحلات اليوم هي مزيج من السيرة الشخصية وسيرة المكان. سيكون علينا دائما أن نرى الشخص الذي يكتب بكل ما ينطوي عليه فعل الرؤية من معرفة. كتب السفر ممتعة. هذا صحيح غير أنها في الوقت نفسه قد تكون مؤلمة لأنها سفر إلى الداخل أيضا.    

 

(*) الساحة التشكيلية العراقية اليوم من أغنى التجارب الفنية داخل الوطن العربي، وأتحدث هنا عن التجارب الجديدة التي برهنت على نضجها الفني داخل مؤسسات فنية عالمية، خصوصا الفنانين الذين أتيحت لهم فرصة مغادرة العراق صوب فرنسا وأميركا وألمانيا. كيف ترى وتقيم الإرث التشكيلي العراقي لجيل السبعينيات والثمانينيات مع التجارب الجديدة؟
- ليس صحيحا تماما ما توصلت إليه سيدي من قناعات. هناك تجارب فنية عربية معاصرة يمكن النظر إليها بتقدير عال بسبب ما تنطوي عليه من معالجات شكلية وتقنية فذة. هناك فن جديد في المغرب وتونس وسورية والسعودية.

وكما أرى فإن ما يحدث في الواقع يفرض معايير جديدة في النظر إلى التجربة الفنية العربية. كان العراقيون يوما متقدمين غير أن الوقائع تتغير. يتبعها تغير في المزاج النقدي. أما عقدة التفوق فلا مكان لها في التجربة الحية. هناك جزء صغير من الممارسة النقدية يستند إلى التاريخ. غير أن التاريخ ليس كل شيء. لقد تعرض العراق إلى انهيارات كارثية لذلك لم يكن في إمكان الفن التشكيلي أن يحافظ على مستواه. يمكن القول إن التشكيل العراقي يمر اليوم بأسوأ مراحله. الرهان الحقيقي يكمن في الثورة الشبابية التي ينبغي أن ننظر إليها باعتبارها بداية لنهوض جديد سينعكس على أداء العراقيين في كل المجالات. وهم شعب خلاق ومبدع وقادر على اختصار الزمن. 

بوصلة المؤسسة الفنية العربية مكسورة  
(*) بحكم سفرك الكثير وتنقلاتك داخل أقطار عربية ودولية مختلفة فضلا عن مشاركاتك الدائمة بندوات علمية وتنظيم معارض والكتابة الدائمة حول الفن، كيف ترى واقع الفن العربي المعاصر داخل المؤسسات الغربية؟
- أعتقد أن السؤال المناسب يتعلق بواقعه داخل المؤسسة الفنية العربية. وهو واقع لا يسر. لذلك فإن النتاج الفني العربي مقطوع الصلة بالعالم بسبب تخلف المؤسسة الفنية العربية. كما أنها غير مهتمة كليا بتنشيط الفن وتحسين صورته في العالم. هناك سوء فهم يقف ما بين تلك المؤسسة وبين قدرتها على الأداء الحسن. يتعلق ذلك بعدم استيعابها لوظيفتها التي هي ليست فقط وظيفة خدمية بل هي أيضا وظيفة بحثية يمكن من خلالها التعرف على معطيات الواقع التشكيلي الراهن والعمل على تكريسها ورعايتها وتبني الظواهر من خلالها. ينبغي على المؤسسة أن لا تكون مجرد مكب لما ينتجه الفنانون بل هي أيضا مصفاة. ذلك لن يتحقق إلا من خلال تطوير الوعي الفني لدى منتسبيها. على سبيل المثال هناك مؤسسات كثيرة في مصر معنية بالشأن الفني غير أنها مثقلة بالموظفين الذين لا يجدون لوجودهم فيها أي معنى. وهناك في المقابل إنفاق مالي هائل في دول أخرى يذهب لإقامة معارض عالمية لا تترك أثرا لها في الواقع. بوصلة المؤسسة الفنية العربية مكسورة.   

 

(*) صدر لك مؤخرا كتاب مهم عنوانه "الفن في متاهة: الفن العربي بين المتحف والسوق والفنون المعاصرة". كيف يمكن للفن أن يكون في متاهة وهو تعبير صارخ تجاه عنف الواقع وقلق التاريخ وقهر للجغرافيا؟
- المتاهة المقصودة هي متاهة السوق وبالأخص حين صارت المزادات الفنية طرفاً مهما فيه. المزادات كما هو معروف في العالم ليست جزءا من السوق الفنية الثابتة غير أنها لدينا صارت هي الأصل وهو ما دفع الفنانين خطأً إلى اعتماد أسعارها.

إضافة إلى ذلك فإن أسواق الفن في العالم العربي تخضع منذ أكثر من عشرين سنة لمزاج غامض ولا يمكن سبر غوره بسبب انغلاقه على أسراره الغامضة. الفن الحقيقي مستبعد من نشاط تلك السوق بحيث صار الفنان غريبا يبحث عن جهة تتبناه وتنصفه. إضافة إلى ظاهرة تحكم الخبيرات الأجنبيات بمفاتيح تلك السوق وهن من وجهة نظري مجرد مروجات لما يمكن أن يدر عليهن من أموال بعيدا عن القيم الثقافية. وهو أمر لا يحدث إلا في العالم العربي. سوق الفن في العالم العربي تُدار بطريقة مريبة لا علاقة لها بالقيم الجمالية الرصينة التي يطرحها الفنانون الحقيقيون. هناك تجارة رخيصة تمارس عنفا يتزايد مع الوقت في ظل صمت يمارسه الفنانون أنفسهم خوفا على مصالحهم.

 

(*) داخل الكتاب تتحدث عن عدم قدرة المؤسسات الفنية العربية على مدى تاريخها في العناية بتاريخ الفن العربي، ما السبب في نظرك؟
- يوم كانت الأنظمة السياسية العربية قوية كانت تلك المؤسسة جزءا من جهازها الدعائي الذي لم يرحم أحدا. وهو ما جعل للفن وظيفة تقع خارج مساحته الخلاقة والابتكارية. ذلك أثر على مستوى الأداء لكنه لم يضرب النوع غير أن ضعف المؤسسة كان وبالا هو الآخر على الفن. بحيث صارت المؤسسة تخضع لمعطيات السوق التجارية، صارت المؤسسة جزءا من السوق، خاضعة لمعاييره. العلاقة بين الفنانين والمؤسسة كانت ولا تزال مضطربة ولم نستطع إقامة مؤسسة فنية تكون قادرة على أن تفهم وظيفتها في ظل معايير تحفظ للفن كرامته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.