}

الفنان العراقي علي رشيد: النقد لم يواكب التجارب الجديدة

أشرف الحساني 2 يونيو 2018
حوارات الفنان العراقي علي رشيد: النقد لم يواكب التجارب الجديدة
الفنان العراقي علي رشيد

ينتمي الفنان التشكيلي علي رشيد إلى المدرسة الفنية العراقية، بما تتميز به من تجارب فنية تنأى بنفسها عن بعض التجارب الفنية العربية، التي لم تستطع أن تجدد نبع مائها وطرائق اشتغالها لتفتح لنفسها مساراً فنياً جديداً و"نظيفاً" لا نجد فيه أي صدى أو اجترارا مباشرا لبعض التجارب الغربية. تتوافر المدرسة العراقية، اليوم، على الكثير من التجارب الفنية الطلائعية. يكفينا أن نشير هنا إلى تجربة سنان حسين وما تحفل به من سريالية ممزوجة بسخرية سوداء عن ما آل إليه الوطن العربي بعد شمس الربيع العربي. وفي هذا السياق الجمالي المتميز نفسه، تبرز تجربة الفنان التشكيلي علي رشيد، كأحد أرقى الأسماء الفنية العراقية، من خلال قدرته المتميزة في العمل على المادة واللون. إنها لوحات تذكرني بقصائد الشاعر سعدي يوسف، حيث تصير الجمل قصيرة والصور مباغتة والكلمات تنضح بالغياب. قليلة هي الأسماء العربية مثل علي رشيد، التي نجحت في التعامل مع المادة واللون إلى هذه الدرجة، التي تجعل من العمل الفني يشبه التلاشي، ويعطي للمشاهد صفة الحضور والغياب في آن واحد، وهو الأمر الذي أتاح لرشيد حضوره المتوهج من خلال معارض فنية كثيرة في كل من العراق، ليبيا، إسبانيا، إيطاليا، هولاندا، ألمانيا، أميركا، الهند، المغرب وغيرها من الدول، فضلا عن جوائز مهمة أهمها حصوله على المرتبة الأولى في السمبوزيوم الدولي- باول ريكارد الخامس في فرنسا.

هنا حوار معه حول تجربته:

* لنبدأ هذا الحوار بخطواتك الأولى في عالم الأشكال والألوان، ماذا يمكن أن تقول للقارئ عن بداياتك الأولى وكيف تكوَّنت؟

الطفولة هي المبتدأ، والخطوة الأولى في تشكيل الوعي البصري من خلال فطرة حب الاطلاع، والبحث، ومراقبة البيئة، والتقاط حدود الأشكال، وأسرار تكوّنها. أنا هنا أتحدث عن الطفل بعموم المفردة، وهذا مشترك عام في الطفولة. هذا الطفل التوّاق إلى إعادة تشكيل محيطه، قادني إلى التواصل مع المكان من خلال استنساخه بصريا، ومحاورة أشكاله. فجاءت الرسوم الأولى زاخرة بالفنتازيا، ومستغرقة بالخيال. ولحسن حظي كان معلمي لمادة الرسم في المدرسة الابتدائية خريجا لمعهد الفنون الجميلة "العريق" وفياً للدرس، فقاد خطواتنا الأولى نحو سعة أكبر في التعبير، وهذّب مداركنا في النظر إلى الموجودات ومحاكاتها. هذا العطش إلى تعلّم الرسم جعلني منتبها وجدانيا للقيم الجمالية، واكتشاف تكنولوجيا اللون ورموزه. كلّ ذلك قادني إلى قناعة بأن الفن هو الطريق الذي سيرسم مستقبلي، والذي لا حياد عنه.





 الشغل على البياض

* زائر معارضك الكثيرة يلمس قدرتك على التقشف في العلامة واللون الواحد إلى درجة التلاشي والاندثار، كيف يبني وينسج علي رشيد علاقته الحميمية مع المادة والموضوع؟ 

 

أنا أشتغل على البياض (القماش) بالبياض (لون)؛ لأنني وجدت في هذا اللون السعة التي أنشدها. ما أن أرى القماشة مجردة أمامي حتى يخيّل إليّ أنني أبصر فيها عوالم متعددة، وعناصر ضامرة، عليّ البحث عنها، ودلالات تتجسد في اللون، وحوارا خفيّا أحاول الولوج إلى قيامته. هذا الحس الوجداني جعلني متقشفا في البوح، مستعيرا ذهاب المتصوفة بالعبور بالقليل إلى الفكرة وثرائها، إلى الحدس، والتأمل، والتساؤل. كلّ ذلك جعلني حذرا من أن أجرح هذا البياض بالضجيج، أو أن ألوّثه بالتكرار. حين أشتغل على البياض أبدأ من الهدم لهذا الشاخص المتخيل، فأحيل الأشكال والعناصر إلى دلالاتها، وأحيل الظاهر إلى الأثر. الأثر المتمثّل في النقطة، والخط، والكتلة المستترة، هو الذي سيقودنا إلى جوهر العمل. لا مركز محددا في اللوحة، ولا سطح بيّناً، بل سطوح متعددة تحيل إلى البحث عن علاقات مختلفة تجعل المتلقي أمام مرآة تعكس لحظته هو، زمنه المتشابك مع زمن العمل، ولحظة المشاهدة. المادة تفرضها اللحظة أيضاً، ولكنني أحاول أن أستخدمها بتقشف، وبساطة تتيح لها ابتكار لغة شفافة، موجزة، بأبجدية تشير إلى ما لا يرى.

* وأنا أستمتع بمشاهد لوحاته والاستمتاع إلى هسهساتها يخيل إليّ أن علي رشيد يضمر شيئا ما خفيا داخل اللوحة. ولعل فكرة الإيحاء والإشارة التي تتعمدها تفضح ذلك، ما نوع العلاقة التي تطمح أن تبنيها مع المشاهد أو القارئ، باعتبار أن اللوحة بمثابة نص متعدد العلامات والقراءات؟

 

خلال أي تجربة تتولّد العديد من الاستفهامات، والأسئلة، والمقاربات التي تثير جدلا حول العلاقة بين التجربة الشخصية والفن بعمومه. فالتساؤل قادني إلى البحث عن ماهية جديدة تتيح لي الخروج من الصيغ الجمالية البحتة التي تشكّل هدفا للعديد من الفنانين إلى صياغة دلالات مغايرة تحيل إلى علاقة أكثر اتساقاً بين الفنان ومحيطه. علاقة تجعل النتاج الفني موحياً بمعان جديدة تتغير مع الزمن. كذلك قدرة النص على استنباط دلالات متغيرة ترتبط بتغير الزمان، والمكان، والمتغيّرات النفسية للآخر (المتلقي)، فتقوده نحو قراءات متعددة تتجاوز لغة الفنان، أو كما يسميها لوسيان غولدمان (الأبنية العقلية المتجاوزة للفرد). من هذا الاستنتاج أصبحت لديّ حاجة إلى البحث عن المتلقي "هذا الغائب في بنية العمل الفني" بسبب شيوع ثقافة النظر الحيادي، أو التلقي الثابت. 

حاولت أن أجعل مسؤولية الآخر توازي مسؤولية الفنان في قراءة النص البصري، وتفكيك دلالاته، ليبقى العمل الفني محافظاً على تجاوز الثبات. لهذا تجاوزت في تجربتي ما يمكنني تسميته بالثرثرة (كثافة اللون، والأشكال المتعددة) في بناء العمل، لأمنح العمل أكثر من صوت (حوار) يقود إلى ديمومته. هذا الهدف أحالني إلى الزهد الذي يتكئ على البياض ليومئ إلى الأثر، والغائب، واللامرئي بدلاً عن الظاهر، والمشخَّص، والمرئي. 

 فضل الرواد

* إلى أي حد استطاعت التجارب التشكيلية العربية الجديدة أن تجترح لنفسها مسارا فنيا وجماليا مغايراً عن التجارب الرائدة لجيل الرواد، كضياء العزاوي، عباس الصلادي، فريد بلكاهية مثلاً؟

هنالك تجارب عربية معاصرة، وشبابية خصوصاً، تقف أمامها بذهول. تجارب تنتمي إلى "الفن اليوم" بكل تجلياته، وهواجسه. في استخداماتهم للخامة، أو في طرحهم لأفكارهم. تجارب غيرت الصورة النمطية للعمل الفني، وطرق تعبيره، وأبعاده الجمالية. هذه التجارب لم تأت من فراغ، فهي استفادت من تجارب الرواد، وما بعد الرواد في الفن العربي الحديث. فالتجارب الرائدة ساهمت في بناء ذائقة المغامرة لدى الفنانين من الأجيال اللاحقة، ودفعت بتجاربهم نحو الاكتشاف، والتجريب. لكن للأسف لم تحظ العديد من هذه التجارب بالاهتمام على مستوى النقد العربي والذي يفتقد لمنهجية نقدية واضحة إلا القلة منه، حيث بقي مشغولا بقراءاته المتكررة، والمملّة لتجارب بعينها، ربما لأن النقد العربي لم يتمكن من اللحاق بهذه التجارب، أو تقاعسه عن مواكبتها. كذلك لم تحظ هذه التجارب بفرص العرض، أو تداول أعمالهم في السوق، أو المزادات العربية، والتي يسيطر عليها في الغالب رأس المال الذي دخل الفن انطلاقا من مفهوم الربح السريع بعيدا عن قيمة المنتج، أو موهبة الفنان. لهذا نرى تصدّر أعمال لفنانين في المزادات، وقاعات العرض، أو "الآرت فير" بدافع من ثقافة الإشاعة، أو صناعة النجوم، على الرغم من فقر ما يقدم في أغلب الأحيان مقارنة بنتاج العديد من الفنانين المغايرين الذين يشتغلون على مشروعهم بحمية، وصمت فرضه واقع المشهد العربي المربك الذي ما زال يعمل على النصف الممتلئ من الكأس، غير عابئ بما قد تقدم من تجارب مهمة، تثري واقع التشكيل العربي لو فكر في امتلاء المشهد بنصفه المغيّب. 


 
أشكال فنية تتحرر من قيودها

* ماذا عن التجارب الفنية العربية، التي استطاعت أن تخرج من إسار اللوحة المسندية بمفهومها التقليدي إلى أشكال فنية تعبيرية أخرى؟

من حق الفنان أن يسعى إلى الطريقة، أو أشكال التعبير، التي تخدم مشروعه البصري. هنالك تجارب خرجت عن اللوحة المسندية بحثا عن فضاء أوسع، أو مفاهيم جديدة لبناء شكل العمل من خلال كسر أبعاد اللوحة، أو تضمين العمل الفني أبعادا إضافية تساهم في ترسيخ إيحاءات متعددة للخطاب البصري الواحد. هذا الابتكار خلق تضمينات كسرت الهوة بين الفنان وجمهوره، وقرّبت المسافة بين الفن وبين اليومي والمعاش. لأنني أرى أن كلّ تحوّل معاصر في الفن يجعل الفن جزءا من المفردة الحياتية للناس قريبا من تأملاتهم، لأنه يتعامل بأدواتهم، ويتشكل بما هو مألوف لديهم. على العكس من اللوحة المسندية التي بقيت لقرون حبيسة جدران فاقمت القطيعة بين الناس والمنجز الفني. الأعمال التي خرجت عن أشكالها التقليدية خرجت أيضا من مكانها التقليدي والمحصن إلى أمكنة ترسّخ مشاعتها. 

* فزت قبل سنوات بالجائزة الأولى في السمبوزيوم الدولي- باول ريكارد الخامس في فرنسا، ماذا تعني لك هذه الجائزة كفنان تشكيلي عربي؟

على الرغم من فوزي بأكثر من جائزة، لكن قناعتي الشخصية تذهب إلى أن الجوائز في الفن هي نوع من التكريم للتجربة، وليس لتفوق العمل على سواه. لأن الجائزة التي تمنح لعمل معين ترتبط بذائقة ورغبات اللجنة المانحة، وبالتأكيد لو اختير أشخاص آخرون للجنة لربما منحوا الجائزة لعمل آخر مغاير في التعبير والبناء. جاءت أهمية جائزة "باول ريكارد" كما ذكرت أنت أنها منحت لفنان عربي من بين فنانين من دول أوروبية متعددة بما فيها فرنسا، وإنكلترا، وبولندا، وبلجيكا ودول أخرى. وعلى الرغم من أنني أؤمن بأن الفن أكبر من أن تحتويه الجغرافيات، لكننا كفنانين من أصول عربية نحاول من خلال الفن أن نوصل رسالة مغايرة عن عالمنا العربي. رسالة تختلف عما هو مرسوم في أذهان الغرب عنه. 

 

* كيف تقيّم من زاويتك كفنان تشكيلي الحس الجمالي لدى المجتمع العربي؟ ثم ماذا عن كيفية تلقي وتعامل المجتمع العربي مع الصورة اليوم بشتى أجناسها (تشكيلية، سينمائية، فوتوغرافية)؟

 

الحس الجمالي لأي مجتمع يعتمد على النتاج الفني، وتجاربه المتحررة من الأنماط السائدة. لأن حراك هذه التجارب كلّها يصبّ في صالح المشهد التشكيلي العربي، وكذلك في تفعيل الذائقة البصرية لدى المتلقي، الذي سيحاول بدوره التفاعل مع هذه التجارب، وفهمها، ومسايرة تطورها. أي تحول إيجابي في طرائق الفن، ونتاجه، والكيفية التي يقدّم فيها سيساهم في خصوبة الثقافة المجتمعية، وتهذيب الذائقة لدى الفرد. أجد أن المجتمع العربي أصبح أكثر اهتماما بالفن، ومواكبا لتجاربه، ومدركا لتحولاته. المجتمع العربي اليوم مرتبط بالصورة، وخيالاتها، مسرف في تفسيرها، وتأويل دلالاتها، وترويض مراوغتها. فهو يتعامل مع أنماطها المختلفة بذائقة بكر، وعفوية ذهنية. لذلك تجد المجتمع العربي منحازا للصورة أكثر من النص، لأن الصورة تتناص معه، كونها لا تعبر عن حال المبدع فقط، بل عن حاله أيضا. 

 * زائر العراق يكاد يلمس تنوع الفنون ذات الأشكال الهندسية المتموجة التي تطبع العمارة العراقية بمساجدها وزواياها وقصورها وقبابها وأسقفها المزينة والمرصعة بالفسيفساء والزليج، ومردّ ذلك إلى الحضارات الكثيرة التي تعاقبت على العراق، والتي أتاحت له هذا الزخم الفني المتفرد مقارنة بدول عربية أخرى. لماذا في نظرك ظل هذا الفن ذا طابع تراثي ولم يمس حياتنا العمرانية المعاصرة بشيء؟ ثم لماذا في نظرك لم يستفد العرب ككل من هذا التراث العراقي القديم الباذخ فنيا في حياتهم العمرانية، والتي باتت اليوم بمثابة صناديق مفرغة من جماليات العمارة كما هو الشأن عند الغرب؟

كانت العمارة العراقية نتاج ازدهار الحضارة، والتفوق الفكري، والمخيال الخصب ومنجزها الذي يمتد لخمسة آلاف عام من هذا الفن المبتكر. حتى إن صناعة الآجر الرافيديني كان بمثابة فتح كبير بالنسبة لتاريخ العمارة في العالم، فدخل في بنيتها، وأثّر في متانتها. وشكل العصر العباسي ذروة هذا الازدهار. بل إن العراق كان في صدارة الدول العربية في تنشيط نمو هذا الفن في العصر الحديث، خصوصا في خمسينيات القرن الماضي. والعمارة في نظري من أهم الفنون، بل هي الأب الروحي للفن، وازدهارها مرتبط بمشاعة المعرفة، والعلوم، والفلسفة، والاستقرار السياسي. لكن فساد الأنظمة، والإهمال، والصراعات الإقليمية، وشيوع الأمية الفكرية، والعلمية، ساهمت في خراب الذائقة وارتداد عصر العمارة "الفن" لصالح عمارة الاستهلاك التي نبعت من ذهن استعماري سابق. ففي كتابه "الاستشراق الحي الجديد الاستعماري المتحضر النظيف الذي يمثل العقل والسلطة، محتاج أن يعرض في مقابل ما هو همجي وغير منظم وقذر". بهذا المنطق أهملت الأحياء القديمة بمبانيها التراثية لتتسيد العمارة الغربية هويتها الاستعمارية المتجهمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.