}

نور الدين فاتحي: بعد الأحمر لا بد من الأزرق

أشرف الحساني 19 مايو 2018
نور الدين فاتحي فنان تشكيلي مغربي من مواليد مدينة المحمدية سنة 1962، حاصل على دبلوم الدراسات التشكيلية من المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بفرنسا. يشتغل الآن فناناً تشكيلياً وأستاذ مادة الفنون التشكيلية في التعليم الإعدادي، ويعتبر أحد الأسماء التشكيلية المهمة في المشهد الفني المغربي، راكم عدداً من المعارض الفنية في كل من المحمدية، الدار البيضاء، مراكش، طنجة، فرنسا، ألمانيا، أميركا، رومانيا، كندا، مصر.. ما يجعله اليوم في طليعة الفنانين التشكيليين المغاربة، ولا سيما جيل الثمانينيات في المشهد التشكيلي المغربي، وما رافق هذا الجيل من تفجر في المادة والشكل، وهو جيل ظلت الذات تشكل أحد مواضيعه وملاذاته الكبرى، سواء تعلق الأمر بالتشكيل أو الأدب. كما زكّى تجربته الفنية بعدد من المقالات النقدية في جملة من الصحف المغربية والمجلات العربية وتوّج ذلك بكتابين نقديين: في التشكيل الحداثي: مفاهيم وأجناس (2002)، بيان ما بعد موت الفن: تشكيل الجمال والمعنى (2009).

 

*الفنان نور الدين فاتحي لنستهل هذا الحوار بمعرضك الفني الفردي الأخير الذي يقام هذه الأيام بفيلا الفنون في مدينة الدار البيضاء. ماذا يمكن أن تقول للقارئ والمشاهد العربي عن هذا المعرض الاستعادي لتجربتك الفنية التي راكمتها عبر سنوات طويلة من الاشتغال؟

معرض "مكاننا ملتقى الأفكار والمنابع والحضارات"، هو معرض بانورامي/ استعادي للفترة المتزامنة بين 2006-2017 فترة ثانية سبقتها أولى اشتغلت فيها على علاقة التاريخ بالإبداع الفني من خلال الأسطورة، والتي بدأت بمعرض "الخيال التاريخي" وكان معرضا ثنائيا صحبة الفنان الصديق شفيق الزكاري بعيد نهاية دراستنا بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بديجون-فرنسا وعودتنا إلى المغرب. وقد نظم المعرض من طرف المعهد الثقافي الفرنسي بالدار البيضاء سنة 1986. بعد هذه الفترة انشغلت بإنجاز أعمال استجابة لدعوات تلقيتها من بيناليهات آسيوية: تايوان، اليابان، تايلاند. إلى جانب مشاركتي المتكررة بترينالي شامليير بفرنسا. خلال هذه الفترة بدأت إنتاج تصاميم أزياء لماركات عالمية خولت لي اقتحام مجالات إبداعية واكتشاف تقنيات جديدة ساهمت إلى حد كبير في تطوير معالجتي للشكل واللون والمادة.

إلا أن الأحداث الكبرى التي عرفها العالم إثر حدث 11 سبتمبر/ أيلول وما ترتب عليه من اصطدامات ومواجهات عقائدية ثقافية سياسية عسكرية جعلتني أعيد التفكير في الأفكار التي خزنت في شعوري وحتى في لاشعوري، إذ طرحت أكثر من سؤال حول الدوافع الحقيقية لهذه الحركة التاريخية الجديدة، إن كانت جديدة حقا، والتي أرادت تكوين حضارة قائمة على المفهوم الواحد والفكر الواحد والتوجه الواحد الأوحد. إثر هذه التساؤلات جاء معرض "وجها لوجه" أو النظر بعين الآخر الذي ضمه رواق باب الكبير بالرباط. في الفترة نفسها كنت أواجه معاناة مرض زوجتي رحمها الله، مرض كان له وقع كبير على اختيار وتوظيف عناصر دون غيرها وألوان دون أخرى فكان معرض "استراحة السماوات" الذي جاء على إثر وفاتها، والذي نظم من طرف أحد الأروقة بشامليير فرنسا تحت رئاسة نجل الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان.



"استراحة السماوات" رغم طابعه التشخيصي فله أبعاد إنسانية وجودية إقليمية، اتخذت أشكالها الخاصة وتكويناتها المركبة ولونها الأحمر الصارخ في معرض "خيمياء المنفيين" والذي جاء نتيجة الربيع العربي، الذي زاد في قسوة الخريف وشدة الشتاء وجفاف الصيف في الوطنين العربي والإسلامي على حد سواء.

بعد الأحمر لا بد من الأزرق وما يحمله من هدنة وتفكير في الذات وإرجاع الأشياء إلى منابعها، عملية لم تخل من خلط وتراكم للعناصر والأشياء والمواد، أمام هذا الوضع سعيت إلى خلق انسجام بين كل ما هو متنافر وكل ما لا يمكن جمعه أو توحيده أو توفيقه: معلقة عبيد بن الأبرص، قصيدة سعيد عاهد، رسومات ليوناردو دافنشي ورافاييل، الخط العربي، كواكب ومجرات وأغصان وزهور، دولار أميركي، القنب الهندي، جبال الريف... كلها عناصر لا تتوافق ولا تتجاور إلا في لوحاتي، ولكنها وجدت مكانها في ذهن المشاهد، كما لاحظت من خلال زيارتك لافتتاح المعرض، لأنها موجودة مسبقا في ذهني شعوريا.

ما يهمني الآن في هذه التجربة ليس إبداع صور وإنما كيفية تناول هذا الزخم من العناصر المصورة التي تعرض على أبصارنا أينما اتجهنا، صور ليست بريئة دوما ولا محايدة ولا فارغة المعنى أو الرسالة.

*من أتيحت له زيارة المعرض يكتشف عن كثب ذلك العشق الكبير للموت في أعمالك والمتجسد عبر تركيبات العمل واللون الأحمر الصارخ في وجوه المشاهدين، فضلا عن تلك الأيادي التي يخيل إلي أنها تطلب المساعدة، كيف استطاع نور الدين فاتحي أن يلتحم بمادته الفنية وأن يخلق لنا هذا العالم الذي ظننت في لحظة ما أننا فعلا أموات؟

لا أحد يعشق الموت قبل الموت، لكن بعد الموت فالمسألة قد تختلف، لكننا لا ندري شيئا عن هذا المصير، لذلك يجب أن نعمل على تحسينه. كما سبقت الذكر فقد عشت تجربة الموت عن كثب، زوجتي رحمها الله توفيت بين يدي، فعلى الرغم من ألم المرض لاحظت علامات الراحة والاطمئنان على وجهها وهي تفارق الحياة لتعانق عالما آخر أكثر جمالا، رغم أنها كانت لحظة جد صعبة في حياتي. شخصيا لا أخاف الموت ولا أتجاهله، لكني أعشق الحياة وأتأسف على اللحظات التي نقضيها في كراهية الذات وكراهية الآخر، وأتحسّر على الطاقة التي تبذل في محاولة القضاء على المختلفين عنا في المعتقد أو العرف أو الثقافة أو السياسة، في حين أن الله عز وجل خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف، والتعارف هنا يقضي الاختلاف وهو مبني على التقاسم والتبادل.

لكن... لكن الأمور تتدحرج في اتجاهات أخرى، تزرع فيها الكراهية وينتشر الحقد بين البشر، وتتعالى أصوات الأنانية وتبرز علامات الكبرياء والتعصب للذات أو الهوية أو الانتماء الضيق، في حين لا انتماء يعلو على الانتماء إلى البشرية بمفهومها الواسع. هذه الانزلاقات تسببت في حروب عدة، الحرب العالمية الأولى ثم الثانية ثم الثالثة فالحرب الباردة، ونحن اليوم على أبواب الحرب الباردة الثانية الحامية الوطيس في بغداد وتونس ومصر وطرابلس وحلب.. . الموت والخراب من أبرز مواضيع القرن 21 في الفن المعاصر كما في الآداب وباقي الفنون، فلا يمكن تجاهلهما وأنا الآن منهمك في تحضير مسودة معرض جماعي حول الموت في التشكيل المغربي المعاصر.

أما الأيادي التي تنتشر على سطح اللوحة، تقول قولها بدل الفم الصامت، ولا تطلب شيئا، أياد تستنكر، تحتج، تهتف، تنظم شعرا وترتل آيات، تناجي بها خالقها عما وصلت إليه الإنسانية من شتات في الفكر والبصر والبصيرة. لذلك فهي أياد تعلن عن سقوط التوجهات الكبرى، فلا يمين ولا يسار ولا وسط، وعليه فالحرب الباردة الثانية ستكون متميزة ومليئة بالأحداث المفاجئة، أحداث شبيهة بحلقة لفيلم دراكولا، الذي قد يظهر حتى نهارا، مستفيدا من آخر المستجدات العلمية في تكييف الزمن والمكان والذات.

*لا أحد ينكر ولع الفنان نور الدين فاتحي بأجساد ليوناردو دافنشي الحاضرة بقوة في أعماله الأخيرة، لماذا ترغب في أن تقيم هذه العلاقة الحميمية مع تراث الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي أو مع الماضي ككل؟ ثم ما الحكمة التي يمكن أن نستشفها من نقل تراث غربي واستثماره داخل فضاء اللوحة العربية، خصوصا مع الجسد باعتباره هوية ليست مشتركة؟

حقيقة لست مولعاً بأجساد ليوناردو دافنشي ولا به. لقد ظهر رسم "رجل فيتروف" الذي خططه ليوناردو حسب العدد الذهبي الذي وضعه المهندس فيتروف، والذي أصبح نموذج البناء الفضائي بمفهومه الواسع والتفكير الفلسفي والعلمي، وظهور هذا الرسم على سطح أعمالي كعنصر يحرض على التفكير فيما وصلنا إليه الآن، فقد لاحظت أن مفهوم العالمية والتوجه الواحد بدأ التأسيس له منذ عصر النهضة، وذلك من خلال طمس الهويات والحضارات الأخرى وما قام به مفكروها وفنانوها من اكتشافات مذهلة وهائلة خدمت الإنسانية. وما تعطيل الحركات الكلاسيكية والدخول في مرحلة الحداثة ثم ما بعد الحداثة إلا محاولة أخرى مضافة لحجب الجذور المتنوعة والمتعددة للحضارة المعاصرة، اطرح سؤالا على الطلاب الأوروبيين والأميركيين والآسيويين عن الفارابي وابن سينا وابن رشد والكندي وغيرهم، بل تصفح كتبهم فقد لا يفيدك "كولومبوهم" في العثور على آثار أحد العلماء المسلمين، لست أنا الذي أقول هذا بل كتبهم هي التي تقول.


بهذا يتضح أن تلقيحا عمليا بعناصر دافنشية، الغرض منه تحريض المتلقي للتفكير في وضع اختزله على سند اللوحة ضمن بناء تشكيلي مستمد من مفهوم الفن الإسلامي القائم على الاحتواء، أي احتواء فنون الشعوب المختلفة، علما أن الفن الإسلامي متعدد الأوطان فهو عربي، أندلسي، فارسي، آسيوي.. . من ثمة لا يمكن الحديث عن نقل تراث غربي واستثماره ما دامت العملية لا تتعدى وضع عناصر محددة تتبدل وتتغير وتتعدد وتتحول حسب المواضيع والثيمات والمفاهيم المحددة لكل معرض. هذا ما جعل الزائر لمعرض "مكاننا" يعيش الاختلاف من قاعة إلى قاعة ليس فقط على مستوى الموضوع المطروح، بل أيضا على مستوى العناصر والتكوين والمواد والألوان والأسلوب.

في ما يخص النقطة الأخيرة من سؤالك والمتعلقة بالجسد وهويته غير المشتركة، فقط أصبح مطروحا بشدة لما عرفناه من تحولات اجتماعية كبرى، تحولات جاءت نتيجة الهجرة والاغتراب والاعتقال والنفي، وكذلك الانفتاح على الآخر من خلال وسائل الاتصال الجديدة وما يصاحبها من أسئلة موقع الأنا والآخر في خريطة العالم. من هذا المنزل فأجسادنا مشتركة اليوم في الهوية أكثر من البارحة، ففي نفس الحيز الفضائي تجد سورياً وصينياً وعراقياً يمارسون تجارتهم في حي تجاري ما ليتحول الحي بدوره إلى هوية تحجب ولو إلى حين هوية الهجرة.


*ينتمي نور الدين فاتحي بمنطق "المجايلة" إلى جيل الثمانينيات في المشهد التشكيلي المغربي المعاصر، نظرا لتعدد الرؤى والمعاجم الفنية البصرية التي ينهل منها رواد هذا الجيل، فالذات تشكل بكل حمولاتها المرجع الأول الذي ينهل منه المبدع، سواء تعلق الأمر بالأدب أو التشكيل. كيف إذن ترى وتقيم خصوصيات هذا الجيل داخل المشهد التشكيلي المغربي مقارنة مع الأجيال الأخرى؟

لعب جيل الثمانينيات دورا أساسيا في تطور التشكيل المغربي المعاصر، فبعدما كان محاصرا في اتجاه تصويري تمثله مدرسة تطوان وآخر تجريدي تمثله مدرسة الدار البيضاء، جاء هذا الجيل ليجدد معنى المفاهيم ويصحح التوجهات ويرفع عنها كل التباس، إذ أصبحنا لا نسمع بفن تجريدي وآخر تشخيصي، بل بتجارب ذاتية تعمل على الوعي بالتاريخ وتنخرط فيه دون التخلص من حمولاتها أو تتبرأ من ماضيها، الذي هو ماض متعدد ممتد على حاضر مركب سائر نحو مستقبل يلعب فيه الفن دور المحرض على التخيل والخيال الواعي، لذلك نجد أن الجسد قد احتل مجالا مهما في تجارب فترة الثمانينيات باعتباره جسرا للتحول الحضاري. وإذا ما عدنا إلى مرحلة ظهور هذا الجيل سنلاحظ أنه جيل المقاومة، لأنه لم يجد من يسانده أو يدعمه، بل العكس فقد كان يمثل لسابقيه جيل تمرد، علما أنه أول جيل متخرج من مدارس عليا للفنون الجميلة وحامل لشهادات متخصصة. وما نقوله عن التشكيل يجري على الشعر، فبحكم علاقتي مع شعراء هذه الفترة، أي الجيل الثالث في المشهد الشعري المغربي المعاصر، واشتغالي معهم، كنا نناقش هذا الوضع باستمرار. لذلك فإن معرض "وادي المخازن" الذي افتتح بالمركب الثقافي في المحمدية سنة 1992 والذي زاوجنا فيه (صحبة الفنان المغربي شفيق الزكاري) بيت الشعر والتشكيل، هو محاولة تحديد وتجديد خصوصيات هذا الجيل.

وبالمناسبة نحن الآن في اتصال بجهات معينة للخروج بمعرض ومؤلف يضم أعمال فناني الثمانينيات. هذا المشروع الذي جاء نتيجة حديث دار بيني وبين شفيق الزكاري فبدأت دائرته تتوسع، كما لقينا ترحيبا ووعودا من جهات معينة، لكن رغم ذلك هنالك تأخر لا ندري سببه، وأملنا أن ينخرط شعراء وكتاب هذه الفترة لتحصل على المكانة اللائقة بها وبأصحابها.

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.