}

"محمد أمين حمودة": أزمة التشكيل العربي أزمة نقدٍ بالأساس

أشرف الحساني 8 أبريل 2018

إنّ المتأمّل للساحة التشكيلية العربية اليوم على اختلاف توجهاتها الفنية الجديدة ومشاربها وألوانها وتقنياتها، الحديثة منها والمعاصرة، تبدو له بتعبير الأديب طه حسين في كتابه "حديث الأربعاء" أشبه بحديقة جميلة وجذابة، لما يلفيه فيها من زهور وورود وفراشات تتنقل هنا وهناك، الا أنه بجانب هذه الزهور ثمة طحالب، وبما أن النقد الفني في وطننا العربي مغيب كما سبق أن صرحت بذلك سابقاً ويحتكم في جله الى الشخص بدل العمل الفني وما يفرضه من معاينة دائمة ومن فتنة فنية وجمالية وقيمة معرفية وفلسفية كبرى، تفرض سلطتها على المشاهد ليكون محصناً ذاته بجملة من التخصصات الأدبية والفنية والتاريخية والأنثروبولوجية، تساعده على الوصول إلى ماهية العمل الفني، وفك شفراته الملغزة من خلال عنصر مهم في القراءة التحليلية أو عتبة أولى وهي: التأويل.

ففي غياب هذا النقد عبر ما يمارسه من تحليل ومساءلة، تظل هذه الطحالب تتكاثر يوماً بعد يوم بشكل هستيري في هذا المعرض أو ذاك، وبشكل تنتفي معه قيمة الأعمال الفنية  العربية الحقيقية الرائدة. وعلى الرغم من كثرة هذه الطحالب تظل بعض التجارب الفنية ذات روائح جذابة تعبق في أنف المشاهد فلا يستطيع بذلك نسيانها، وهذا ما حدث معي بالضبط خلال رؤيتي لبعض الأعمال التشكيلية في إحدى المهرجانات المغربية داخل ركام مهول من اللوحات، التي تشي بنوع من القحط الفني. برزت لي أعمال التونسي محمد أمين حمودة ساطعة، فتتبعتها في صمت دون أن أفصح عن رغبتي في معانقتها والسفر في مجاهلها المتوارية كتابة، لأكتشف في الأخير أني أمام مشروع فني متميز ومتأصل ومتجذر في التربة العربية، إنها أعمال متوهجة بألوانها الطبيعية وبعلاماتها الخفية ورموزها المتشابكة عبر تقنية الكولاج، أعمال نقلتني في غضون دقائق خارج القاعة وفي قلبي شيء من الفرح. إنها تشكل في نظري نموذجاً للأعمال الفنية، التي بات يصطلح عليها  بالحساسية الجديدة في التشكيل العربي، أعمال لا تضاهيها إلا أعمال العراقي سنان حسين والسوري عادل داوود وغيرهم من الفنانين العرب، الذين جعلوا من المغايرة والاختلاف رمزاً لهم.

 

*الفنان محمد أمين حمودة، لنبدأ هذا الحوار بذلك السؤال الذي عادة ما يُطرح على المبدعين بمختلف مشاربهم الفنية والجمالية والمتعلق أساساً بتلك الرعشات الأولى، التي قادتك إلى أول لوحة، متى وأين؟

علي أن أروي لك حادثة أثرت فيّ بشكل كبير. كان ذلك في السنوات الأولى من طفولتي لأني مازلت أحتفظ بها في ذاكرتي والباقي ما روته لي والدتي. أصبت بمرض لفترة وكان بعض الأقارب يزوروننا للاطمئنان على صحتي وكان بعضهم يهدي لي بعض الهدايا. أهدتني زوجة عمي علبة أقلام فيها ما يعادل مائة لون وكتاباً كبيراً للتلوين. كان ذلك كنزاً واكتشافاً جديداً بالنسبة لي، تركت ما بقي من الهدايا. واعتكفت عل تلك الأقلام والكتاب. وبقي ذلك الشغف يتبعني واتبعه بمرور السنين. كنت أحب جمع الأوراق مهما كان نوعها والتي لم يكتب على قفاها شيء لأخربش فوقها وكانت محفظتي المدرسية دائماً مثخنة بها. بالدخول إلى الإعدادية كنت أبحث في الجرائد القديمة عن صور كاريكاتورية لأعيد رسمها على قفا تلك الأوراق التي أجمعها. ارتدت نوادي الأطفال ودور الشباب ودور الثقافة لأنعم بما لذ وطاب من الأصباغ والمعدات والأدوات التي يوفرونها لنا. كنت أشعر بسعادة قصوى وبأني أهم إنسان في العالم عند فوزي بمسابقات الرسم. ربما لم أفلح في شيء أو على الأقل لم أحب شيئاً بقدر حبي للرسم. أجريت مناظرة للالتحاق بمعهد نموذجي للفنون في العاصمة تونس. وبعد سنتين عدت إلى مسقط الرأس لاجتياز البكالوريا وأخيراً الالتحاق بالمعهد العالي للفنون والحرف بقابس وحققت بذلك أوّل الأهداف. ومازلت محتفظاً بذلك الشغف إلى اليوم.    


*الجيلالي الغرباوي، ضياء العزاوي، لؤي كيالي، عزيز أبو علي، عباس صلادي كل هذه أسماء عربية رائدة صنعت مجدَ ورقيَّ الفن العربي منذ بداياته الى اليوم. كيف ينظر  محمد أمين حمودة على مدار كل هذه السنوات إلى إرث هؤلاء الرواد اليوم؟ وهل مازالت مشاريعهم الفنية ومفاهيمهم الجمالية صالحة اليوم لمعانقتها إبداعياً؟

ربما سأنحاز بهذا السؤال إلى ما هو أهم من أن أجيبك عن نظرتي لهؤلاء الكبار. ومن أنا حتى أسمح لنفسي بشكل من الأشكال أن أبدي فيهم رأياً أو موقفاً. بيد أنه لدي موقف خاص حول هذه المسألة، موقف يراودني منذ فترة كبيرة: علينا لا فقط الاعتراف بهؤلاء الفنانين وعدم قتل من وافته المنية مرة أخرى، دعني هنا أختار لك مثالين مما تفضلت بذكرهم وهما كلّ من الجيلالي الغرباوي وعزيز أبو علي، اللذين ربما يشتركان في المأساة والمعاناة بشكل عام. أما الأول فحاول الانتحار مرّتين وفي الأخير وجد ميّتاً على أحد مقاعد ساحات باريس بعد أن عاش اليتم والفقر والخوف من الوحدة كل هذا لم يمنع الرجل أن يكون مفكراً بعمق في الفن ومنادياً بالتحديث والتجديد... أما الثاني لا تختلف نهايته عن سابقه وربما أكثر درامية وعنفاً. عندما عثر على جثته 45 يوماً بعد وفاته متعفنة مسجاة بين لوحاته في شقة له في إسبانيا. وما زالت الويلات تتهاطل على مثقفينا وفنانينا الى اليوم. الكل يعرف نهاية محمد حسين بهنس الأديب والفنان السوداني الذي وجد ميتاً في أحد ميادين مصر في 2013 من التشرد والجوع والبرد. ومازلنا نعيد نفس الخطأ ولا نتعظ مما حدث وسبق. علينا اليوم الاحتفاء بكل هؤلاء الأحياء منهم والأموات بكل أشكال الاحتفاء والاعتراف وبكثير من المحبة. وأن يقع تدريس أعمالهم وأخبارهم وأحوالهم. وهذا واجب الدولة والإعلام والمؤسسات والمجتمعات المدنية وغيرها حتى يعرف أطفالنا كبار فناني ومثقفي بلدانهم، اذ لا خير في أمة لا تعترف ولا تحترم نخبها ولا تحتويهم.

من الضروري اليوم- وأحدثك الآن كباحث وأكاديمي-، أن نعطي حيزا كبيرا لتدريس هذه التجارب التي أثرت أو على الأقل سجلت حضورا مهما في المشهد التشكيلي المغاربي والعربي. وأن نراجع أنفسنا ونبحث بشكل جديّ حول ما دار ويدور حولنا الآن وهنا، وصولا إلى أقاصي إفريقيا التي أعتبرها أرضا طيّعة تنتظر من يحفر فيها ويخرج ما في باطنها. لقد أدرنا لها ظهورنا وبقينا شاخصين لما يحدث وراء البحر والمحيط. لمذا نتطلع هناك وما حولنا لا يقل أهميّة؟ ألم يتأثر بيكاسو بالأقنعة الأفريقة والفن الافريقي؟ ألم يتأثر ماتيس بصنائع وجدها بين الجزائر والمغرب والذي كان يقتني الكثير منها خلال زيارته لبعض دول شمال افريقية؟ ألم يتأثر كاندنسكي وكلي وماكه بالنور والضوء والمناخ الذي وجدوه عندنا؟ لمذا نذهب إلى الأبعد لنصل بعد عناء فنكتشف أن الأقرب هو الأهم؟ 


*ماذا عن "الحساسية الجديدة" في التشكيل العربي؟

إن التقدم التكنولوجي الذي نعيشه اليوم أثر بشكل كبير على المشهد التشكيلي العالمي والعربي. تطوّر أساليب الاتصال والتواصل عبر الهاتف والحاسوب وغيرها. ألقى بظلاله على كل المجالات وهذا معلوم.

لقد تحوّلت صفحات التواصل الاجتماعي وبعض مواقع الانترنت إلى معرض افتراضي متاح لك متى شئت. نحن نستفيد كل يوم وكل لحظة من هذه النعمة، يكفي أن يحدثك صديق عن تجربة فلان الذي يعيش في أقاصي العالم وبمجرد نقرة على هاتفك الذكي تجد صور أعماله ومنجزاته دون عناء. لا يمكن للفنان أن يشتغل في عزلته لأنه سيكون الخاسر الأكبر ولن يستطيع التقدم، أكثر من هذا سيجد نفسه وحيدا فوق ربوة لا يعرفه  ولا يعرف أحدا، وسيعيد نفسه ويكررها فيتجمد الابداع فيه ولا يتقدّم ولو قيد أنملة. وإلّا فلماذا نحب زيارة المعارض والمتاحف؟

حسب تقديري، وقبل الإجابة عن ما أسميته "بالحساسية الجديدة" علينا أن نحدد المصادر التي نبتت منها هذه "الحساسية" التي سأحاول تبويبها في شكل نقاط:

  • اللقاء الافتراضي للفنانين: الذي مهّد للقاءات دولية تنظمها جهات تعمل على برنامج وأهداف واضحة يكون العمل فيه بشكل مخبريّ وتجريبي. ولا أتحدّث هنا، عن بعض اللقاءات التافهة والتجارية التي يحكمها منطق الشلّية والمحاباة، دون مقاييس ومعايير محددّة لاختيار الفنانين من جهة وتحديد مشروع وبرنامج واضح، تكون مخرجاته معرضاً ومقالاتٍ. في غالب الأحيان يكون هؤلاء الفنانين "متقاربين" إن صح التعبير من الجانب الجمالي للمنجز.
  • الأروقة المحترفة: التي تعمل على تبني الفنانين الشبان وتراهن على منجزهم وهم للأسف قلة قليلة. لكن ذلك لم يمنع من بروز أسماء جديدة لهم تجربة محترمة ومهمة.
  • البينالات والآرت فير: محطة مهمة واعتراف آخر بقيمة المنجز التشكيلي للفنان. بطبيعة الحال نتحدث عن البينالات المعترف بها.

كل هذا أفرز لنا زخماً كبيراً ونسيجاً تشكيلياً في المشهد التشكيلي العربي باختلاف المشارب والمفاهيم والمنطلقات المحركة لهذه المنجزات وطرق عرضها وتنصيبها. هذا لا يمنع من وجود التشابه والتقليد الذكي والأعمى لبعض التجارب الأصيلة كما أنّي من جهة أخرى أؤمن بتقاطع التجارب والتقائها كما سبق وذكرت.

*في نفس الطرح، هل في نظرك نتوفر اليوم على تجارب تشكيلية مغربية شابة استطاعت أن تجترح لنفسها أفقاً فنياً وجمالياً مغايراً عن التجارب التشكيلية الرائدة، كتلك التجارب العربية الشابة التي يمثلها سنان حسين في العراق وعادل داوود في سورية مثلاً، حتى نتشبث بهذا الوهم الذي يحلو لنا أن نسميه "الحساسية الجديدة"؟

لا أعتقد أن هذه "الحساسية الجديدة" وهْمٌ، بل العكس حقيقة فرضت نفسها أقرّ بها وأدافع عنها، وإلّا فنحن بصدد اجترار ما سبق. ثم أن على عجلة التاريخ أن تدور، وهذا لا ينفي امتداد السابق على اللاحق، أي أن "الحساسية الجديدة" أو بعضها هي امتداد آخر لتجارب عالمية مثل أنطوني تابييس و البرتو بوري وفرانسيس بايكن وغيرهم كثير. والبعض الآخر هي تجارب ولدت من رحم التربة التي نشأت فيها وهذا يفرض تناولاً خاصاً:  

أي أن عملية التقييم وحسب تقديري المتواضع لا تقتصر فقط على منجز واحد للفنان، بل على مساره ومسيرته ومجموع أعماله ودرجات التطور فيها. ثم التثبت الفطن إلى المحرّك الأساسي لهذا المنجز. الفنان ليس معزولا عن هذا العالم  وما يدور حوله. حساسيته المفرطة تجعل منه كائنا هشا. قوته الداخلية الدافعة تحثه على انجاز واستعادة تلك التراكمات اليومية ومنذ ولادته. إن ما حدث في بعض البلدان العربية من حروب وويلات وتهجير، يُعتبر سندا مباشرا وغير مباشر للمنجز التشكيلي العربي المعاصر. أنظر مثلا إلى أعمال سروان باران وعادل داوود وغيرهم الكثير. هؤلاء من طينة أخرى طاقة وشحنة كبيرة من العمل والإبداع والتفكير. لم يأتي ذلك من فراغ أو محض صدفة. هؤلاء الفنانين لا يتوقف لديهم نبض الإنتاج يوما وهذا لا يعني أن الهاجس في الكم بل العكس، سيملّ من كان هاجسه الكمّ، ولولا تلك القوة والغليان الداخلي الدافع للعمل لما كانت هذه الطاقة الجارفة من العمل. الكمّ إذًا مؤشر ومبشّر للكيف فأعمال عادل داوود اليوم ليست هي أعماله منذ ثلاث سنوات مضت. سروان أيضاً نزوع وهوس جديد متجدد مقارنة بما سبق من الأعمال. الرجلين في مرحلة أخرى من العلوّ والصعود. وعلينا الانتباه المسألة غير مرتهنة فقط بالجانب التقنيّ، فذلك تحصيل حاصل لا يختلف اثنان فيه. بل أبعد من ذلك بكثير نحو حفر في الداخل، في العمق، في الإنسان تحديداً. الفنان علي رشيد وما يقوم به الآن درجة أخرى من درجات التجلّي. قوة الاختزال لديه وصلت مراتب عُليَا من تطويع أساسيات التشكيل ومبادئه. الحساسية والوعي والقدرة على التخيّل والسيطرة على المسطح الأبيض للقماش بكثير من العمل ودراية بالاختزال. لقت كنت محظوظا بأن عرفت الرجل عن قرب بمراكش وتابعته من بعيد وقريب في لحظات حميمية مع القماشة العذراء. جهز نفسه ونزع قبعته وشمّر سرواله وبقي محافضا على كثير من الأناقة. يتبادلان الغواية، يدلق لونا وينصرف عنها. يعود إليها ويخدش جسدها في مناطق تغويه هو وتزداد هي بها بهاءً. يدير لها ظهره ويمشي. يأتي ليباشرها مرّة أخرى بكثير من العنف وكثير من الرقة. بعض من البقع خطوط أو آثار خطوط بتلقائية طفل وعلى قدر من صعوبة كهل مقلد لخط طفل. يتوقف ينزاح عنها، يميل برأسه يميناً فشمالاً يقترب ويزيد في توشيمها ببعض النقاط أو أشباه النقاط بين النقطة والبقعة، تمرين بصري على غاية من الصعوبة. ربما ستنتهي هذه الولادة الآن أو بعد قليل، مازلت أراه يتركها ويعود فقط ليراها مليا أو يلمسها أو يتحسسها أو يلفتها للحائط معلناً ولادتها لا نهايتها.                

 إن علي رشيد كغيره من الفنانين أثر بشكل كبير على مجموعة من معاصريه وفي مختلف الأقطار العربية. لذلك لا أميل شخصيا إلى التقسيم الجغرافي في الفعل الإبداعي، لأننا مشتركون ومتشابهون وبشكل كبير عموما في التاريخ والطبيعة والهواجس.

المغرب العزيز يشهد تطورا كبيرا في نسق التشكيل وتناولاته "حساسية جديدة" تُنبّئ بميلاد جيل بدأ ينحت مسيرة محترمة ومهمّة قطع فيها البعض أشواطاً جدّية. أحدّثك هنا عن مجموعة من الفنانين الذين أعرفهم عن قرب كالهيطوط والشردودي وحواتة وازغاي وأوصالح وزين العابدين الأمين وصالح التايبي وصالح التايبي وبشير آمال وغيرهم. الذين أضعهم ضمن ما اصطلحنا عليه بالحساسية الجديدة. بالرغم من اختلاف الأعمار بينهم.

هؤلاء كثيراً ما تجدهم مجتمعين في لقاءات ومعارض. إن ذلك الرابط الإنساني مهم جدا ويلقي بضلاله على تجربة كلّ فنان منهم. عليك أن تدخل ورشة عبدالله الهيطوط كيف تفهم من أي طينة قدّ الرجل، عليك أن تسمعه وهو يحدّثك عن ما يريد أن يفعل في صباغته عليك تقرأ ما يكتب وتسمع الموسيقى التي يسمعها وترى البوم الصور في هاتفه ولوحته الالكترونية فترى نوافذ من عالمه اليومي- أعماله، جزء من ملونته، خربشة على طاولة وخطّ متروك، جزء من حائط عرّاه الزمن ورسالة عاشق لمعشوقته، باب حديدي نخره الصدأ ولوثه بعض الصبية بفحم وبقايا علبة دهان. تفاصيل أشياء يمرّ عليها يوميا. بعضها يُخزَّن بتلقائية في ذاكرته وبعضها الآخر يخزّنها في ذاكرة هاتفه-. كلّها معدّات وأدوات عمل. عليك أن تقرأ وتستقرئ رسائله الأخيرة وأن تعرف ما يحب ويكره. حتى تفهم أي الفنانين هو.

ما زالت تلك العبارات التي كتبها في تقديم معرضه الأخير "إعادة تدوير الأنقاض" وترنّ في رأسي. "كنت أمكث طويلاً أمام لوحتي عاجزاً وصاغراً في حيرة كبرى، لا أعرف ماذا أترك، أو ماذا أدمر، لدرجة أنني أصرخ-أحياناً-وحدي: أنا لا أعرف شيئاً. ما عدا ذلك يا صديقي، فان الرسم قطعة من عذاب." ومن منا لا ينتابه هذا الشعور مراراً وتكراراً لكن لا يعلنه فالكل يزعم أنه فنان فذ لم يخلق مثله في البلاد.

عليك أن تتخلص من كل الشوائب السيئة والخبيثة في داخلك وأن تنسى كل ما تعلّمته وتبدأ من جديد وكأنك لم تعرف يوما. تمرينٌ روحيّ بامتياز- لن تنجح في أول مرة ولكن عليك تكرار الفعل وبشكل متواصل. إن فشلت ويئست اتركه وافعل شيئاً آخر أنت لم تخلق لهذا. وإن لم تيأس فقد خطوت خطوتك الأولى نحو السحاب وبدأت تتلذذ "قطعة العذاب". 

الصباغة عند الهيطوط قد لا تأخذ منه وقتاً طويلاً هو اليوم وكلّ يوم يجني ثمار فترة كبيرة قضاها يرسم في رأسه. لذلك فان الأصل ثابت والفرع متحوّل ومنفتح، انفتاح الرجل حينما تحدّثه عن فنون الطبخ والموسيقى. عالمه الكروماتيكي مخصوص به وحده مفرداته الغرافيكية تنتمي اليه ولّدها بمرور الزمن فاستأنست به واستأنس بها- فلا هو يغيّبها ولا هي تخونه. يحب الرماديات والبنيات مميّعة شفافة ويختار لنفسه بين هذا وذاك طريقا، لتفترش بطلاقة وتلقائيّة على القماش. كثير من البياض المتروك وكثير من البياض المطلي والباقي استعادات جديدة لما تُرك في ذاكرته منذ يومه الأوّل. الرجلّ آلة نهمة للعمل والصباغة، يحدّثك عن عمله الأخير وكأنه يحدّثك عن أول عمل نجح فيه وأعجبه بسعادة طفولية.

 أكاديمي، وفنان وبيداغوجي. مثقف وقارئ جيّد. من أين ستمسكه. عليك فقط تتبعه والنظر بصمت لكل ما يفعله بل وتجلّه اجلالا. قد لا تفهم ما يفعله- لا تنزعج- وتذكر اجابة بيكاسو في ذلك اليوم لأحد المتملقين "أنا لا أرسم للدجاج".

فؤاد الشردودي. طينة أخرى هدّام بنّاء في الآن نفسه وفي لمح البصر، ملحميّ ثوري، الفعل التشكيلي عنده مصارعة بامتياز، والورشة حلبة مصارعة. ذلك الأشعث الجميل يتحوّل إلى محارب ليس له إلّا أن يطرح خصمه (القماشة). يلقي بها أرضا ويخضعها وسرعان ما ينهال عليها بكل الأساليب المتاحة. لا يعترف بالمقدّمات بل يبدأ صلب الموضوع ودون سابق إنذار. التفاصيل ليست مهمة الآن المهم أن تنجح اللعبة وأن يشفي غليله وأن ينهي البياض. يغير الفرش الكبير منها قبل الصغير. وان وجدته باحثاً عن ما قلّ من الفرش حجماً- فاعلم أن المعركة قاربت على الانتهاء ليتحوّل الوحش إلى قط وديع يداعب فأرا صغيرا بعد إرهاقه. لتبدأ تفاصيله الصغيرة.

ما يبهرني في الشردودي أنه عصاميّ ربّما لم تحدده قوالب الفن وتيارات الفن الجاهزة. الرجل شاعر أيضاً. عندما سألته يوما عن شعره وصباغته أجابني "أنا أكتب الشعر وأصبغ بكثير من اللهو وإقبال مُحبّ للحياة". الشردودي العظيم اسم لامع يعرض في أعتى الأروقة بالمغرب والعالم العربي. وأعتبره أحد ركائز "الحساسية الجديدة" في المغرب.

مؤسف أن لا أعطي بعض التجارب الأخرى حقّها، لأن المجال لا يسمح أن نطيل أكثر حتى لا نرهق كاهل القارئ. لذلك سأحاول أن لا أطنب في النقطة الأخيرة حول ما يحدث في المغرب. وعلي التذكير أننا نتحدّث عن ما يجدّ اليوم والآن ولأني أعتبر نفسي متابعا بعض الشيء المشهد الفنّي المغربي من بعيد من خلال الانترنيت والكتب ومن قريب من خلال بعض الأصدقاء وبعض زياراتي إلى المغرب العزيز. وهذا رأي متواضع يخصني قد أخطئ أو أصيب.                   

 النقطة التي أريد أن أثيرها، تتمثّل في ذلك اللّقاء الحاصل بين أجيال الفنانين وذلك التواصل الذي أعتبره مثمراً على مدى قصير وصولاً إلى الأبعد. أعتقد أن هذا التواصل سيزيد في شرعيّة هذه الحساسية الجديدة. التي تلقى وستلقى رفضاً كبيراً من عامة المثقفين وبعض النقاد. والتاريخ هنا سيعيد نفسه شئنا أم أبينا. ما ينقص اليوم هو التفاف أكثر بين المؤمنين بهذه الحساسية لا فقط من فنانين- بل من كتاب ونقاد وشعراء- وأعتبر نفسي مدافعاً شرساً عنها.       


*اللوحة المسندية صارت اليوم أشبه "بالفن البدائي" عند البعض من النقاد أو دعاة مابعد الحداثة الذين لا يملون من تكرار بعض الأزعومات الفنية متناسين السياق الفني والجمالي والتقني الذي أفرز هذا الفكر الما بعدي في الغرب، كيف يرى ويقيم محمد أمين حمودة بوصفه فنان لوحة بامتياز تجربة الخروج من إسار اللوحة المسندية داخل سياقها العربي؟

ربما هو رأي من الآراء أو موقف يقتنع به بعضهم ولهم الحريّة في ذلك. كما أن لنا الحرية في اعتبار أن هذه الرؤية على قدر من المحدودية ونقص في النظر. صحيح أن "فن اليوم" أصبح منفتحا ولا تستطيع تحديده أو "تسويره"، وخرج عن إطاره التقليدي نحو أماكن بمواد وبطرق عرض أخرى وبالتالي ولادة تسميات وأنماط أخرى. إلّا أن هذا لا ينفي القطيعة التامة أو "موت اللوحة"، لأن الذائقة الفنيّة غير مقولبة ولا مدجنة. بل مختلفة اختلاف البشر وثقافاتهم. ولنتقدّم قليلا في فكرتنا. عندما نرى أكبر متاحف الفن الحديث والمعاصر في العالم اليوم. كما ستجد أنها مازالت تجهز جدرانها لتعلق عليها لوحات مسنديّة. دعك من المعارض الاستعادية لبعض معلمي الفن التي تنتقل من دولة إلى أخرى. 

اليوم في متحف بويمانز بروتردام تعرض أعمال كل من أنسليم كيفر، برام بوغارت، ريتشارد لونج، جوزيف بويز، باسكيات، جورج بازلت وسورا. كل هؤلاء الفنانين هم فنانو اللوحة المسندية بامتياز. أنا من محبّي أنسليم كيفر الذي غيّر بشكل ما طريقة عرضه التي تتراوح بين القماش وبين التنصيبة بحسب رؤيته المسبقة لعمله الفنّي- إلّا أنه لم يترك اللوحة الثنائية الأبعاد. أحجام عملاقة ولوحات مثخنة بالأشاء والمواد المتنوعة ومع هذا مازالت مسنديّة. تثير التسائل والريبة. حول حقيقة اللوحة وماهيّتها و اللّوحة بالتالي لا تنتفي مع المعاصر. إنها حمالة لأفكار ومفاهيم تتوالد كلّ يوم. امتداد آخر وتحيين لها. امتداد لمقولة برزت منذ عصر النهضة الى اليوم قالها ليوناردو دافنشي بعد أن فهم أن » « la pittura e cosa mentale اللوحة هي شيء عقلي أو ذهني أو مفاهيمي. هذا المفاهيمي ومثلما وجد مستقرّاً له في اللّوحة المسنديّة والأمثلة لا تحصى ولا تعدّ، لم يمنع أيضاً انعتاقه منها، وترجّله نحو تعبيرات أخرى. فتداخلت الأنماط بعضها بعضاً تحرّكها فكرة أو منطلق أو فلسفة ما.

سأعطيك مثالين أجد فيهما ضالتي للإجابة عن سؤالك :

منذ سنة أقيم معرض "علوّ" للفنان الفلسطيني منذر جوابرة بعد فترة إقامة فنية بتونس. أخرج لنا الفنان مجموعة من الأعمال التي لا تسطيع تحديدها. تخللتها تنصيبات وأداء وصور فوتوغرافية ولوحات مسنديّة وحتى تصميمات مصوغيّة... كلّها في معرض واحد تجتمع كل هذه الأنماط حول فكرة واحدة ومفردة واحدة. أتاح منذر لنفسه فرصة أن يقول ما يريد كيفما أراد وأن يضفي بلاغة و ترميزا دون أن يحدد نفسه وسط إطار واحد. وهنا أرى أن الرجل مارس كامل حرّيته الإبداعية بروح معاصرة.

بشار الحروب أيضاً فنان فلسطيني وفي معرضه الأخير "الحرب والرغبة" يقدّم فيه أشياء ولعباً مركّبة ومجمّعة ومجسّمات ثلاثية الأبعاد ولوحات. مشروع بصريّ معاصر منفتح المصرعين يسأل ويسائل ماهية الأثر الفني في مستوى أوّل وسؤال الإنسان في كلّيته في مستوى ثان وأخير. والفنانان يحملان مشروعاً بصريّاً هجيناً برسائل حضارية وبلغة فنّية بليغة وليست مباشرة.          


*النقد الفني العربي أضحى في مجمله يحتكم إلى الشخص بدل العمل الفني، وهو ما كنت قد اعتبرته في مقالة لي بالقدس العربي تزويراً وتضليلاً لتاريخ الفن العربي، مثيراً بعض الحساسيات العمياء من لدن بعض "النقاد" والفنانين داخل أقطار عربية مختلفة. كيف يتصور الفنان محمد أمين حمودة دور الناقد الفني اليوم، وكيف يتمثل مستقبله داخل المشهد الفني العربي خصوصاً؟

إن كانت هنالك أزمة فعلية في المشهد التشكيلي العربي، فهي بلا منازع أزمة نقد بالأساس. في ظل هذا الغياب، تتحوّل الساحة الى مرتع لأشباه النقاد والدخلاء. الطبيعة يا صديقي تأبى الفراغ. والدخلاء هم كل من تسوّل لهم أنفسهم الكتابة في تجربة أو تجارب فنّية أمام غياب الوسائل والأدوات الضرورية لتحليل وتفكيك العمل الفنيّ.

يعتقد البعض، ولأنه أديب أو فصيح أو شاعر متمكن من اللغة، فهو بذلك قادر أن يكتب في الفن والفنان. النقد هي المنطقة الوعرة والمحظورة في هذا المجال. فان سقط هو سقط معه التطور التشكيلي في عمقه وتدحرج نحو الحضيض ليفرز تقرّحات يصعب استئصالها.

الفعل النقدي اليوم يحكمه سلوك سيئ وفوضى عارمة. فالبعض لم يعرف حدوده بعد. منظومة كاملة من بعض أصحاب الأروقة إلى بعض الفنانين إلى البعض الآخر من النقاد. يعملون على صناعة "الفنان" فتقام له المعارض و تكتب له المقالات "النقدية" التي هي في حقيقة الأمر ترويجية. مثلما هو الحال لشركات الانتاج الموسيقية التي تصنع فنانين من ورق. وهذا خطير الى درجة ما لأن هذا الفنان سريعاً ما سينتهي. هنالك منظومة أخرى خطيرة. الكتابة بمقابل أو لأنك من جماعتنا ولأنك ابن فلان وقريب علّان، ولأنك ابن جهتي، ولأنّك جميلة وفاتنة..... هذه حقيقة علينا قولها وهذا ما يحدث بأدق تفاصيله وكلّها مغالطات للأشخاص والتاريخ.

كل هذه الأمور حدثت وستحدث لكن في المقابل هناك نقاد محترمون رغم شح عددهم في الأقطار العربية. وهناك أسماء شابة بدأت تظهر. حسب رأيي النص النقدي أيضا يجب أن يكون أصيلاً مثلما هو الحال بالنسبة للمنجز التشكيلي أو البصري. بمعنى أن يكون من يريد الكتابة النقديّة على دراية واسعة بالمجال الفنيّ عموما مثقفا قارئا جيّدا ملمّا بالتاريخ. تاريخ الشعوب وثقافاتها. شغوفا بزيارة المعارض والسفر ومطّلعا عن كلّ ما يحدث حوله ومحبا وهاويا للفن مسرحا وموسيقى ورقصا وسينما..... لان النقد كلّ هذا وذاك. أن يُنظر للمنجز التشكيلي في علاقته بكلّ من الفنان ومساره منذ البداية وصولاً إلى العمل الذي أمامه لا فقط ذلك، بل باعتبار الحيز الذي نشأ فيه والإطار المكاني والزماني وربطه بالظروف السياسية والاجتماعية المحلّية والعالمية. لأن الفنان ليس معزولاً عن هذا العالم.


*ناقد فني وجمالي مغربي

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.