}

رحيل سيزا قاسم: دعت لدمقرطة الحكم وإحقاق إنسانية الإنسان

إيهاب محمود 16 يناير 2024
هنا/الآن رحيل سيزا قاسم: دعت لدمقرطة الحكم وإحقاق إنسانية الإنسان
سيزا قاسم

 

بعد شهور تقريبًا من إتمام عامها التاسع والثمانين، رحلت الأكاديمية والناقدة المصرية الدكتورة سيزا قاسم. إنها إحدى أبرز المتخصصين في الأدب المقارن، وأكاديمية متفردة أخلصت لعلمها فكانت نموذجًا يحتذى به طوال سنوات من العطاء، ورحلت تاركة للمكتبة العربية العديد من الكتابات المُهمة في هذا التخصص، بحسب تعبير وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني في نعيها لقاسم.

انشغلت قاسم عبر رحلتها بفكرة الكيف لا الكم، فلم تكن غزارة الإنتاج هدفها بقدر ما انصب تفكيرها على الهم الإنساني بأن تعبر الأعمال الأدبية عن آمال الإنسان وطموحاته، وتفتح له في الأفق نافذة يجد فيها الخلاص، لذا جاءت كل أعمالها بمثابة ثورة في مجالها، تهدم قديما وتشيد جديدا على أنقاضه.

فُتنت قاسم بابن حزم منذ اللحظة الأولى التي قرأت فيها "طوق الحمامة" في السبعينيات. وفي دراستها للكتاب، خلصت إلى إمكانية استحضار هذا الأثر في زمننا المعاصر، معتبرة أن رؤية ابن حزم الفلسفية من أساسيات قراءة التراث العربي، فقد كان، بحسب رؤيتها، أول وأفضل من قدم منهجًا نقديًا للعهد القديم: "كانت رؤيته الفلسفية عميقة، ومنهجه نبذ التقليد، وتحرير الإتباع، وهذا ما يجعلنا نصنف تراثه في دائرة الأدب، الذي يمكننا استحضاره والاستفادة به في أي زمان، وأي مكان".

انشغال قاسم بالهم الإنساني كان متقاطعًا ومتفاعلًا مع التطور التكنولوجي الهائل الذي شهده العالم خلال السنوات الأخيرة، حيث كانت تؤمن أنه في ظل الطفرات الحديثة للتكنولوجيا، لا بد من أن نشعر بالقلق على مستقبل الإنسان، فعلى الرغم من أهمية التطور التقني والعلمي، لكل شيء إيجابيات وسلبيات، وأهم هذه السلبيات تهميش الأدباء والشعراء. التطور يأخذ الإنسان إلى منعطف مجهول يجعل من الصعب استشراف مستقبله في ظل السباق التكنولوجي، والطفرة التي تطرأ على العالم.

كانت قضية الهجرة من المحاور التي تشغل بال قاسم، حيث ترى أن القضية المركزية، في علاقتنا الثقافية بالغرب، أصبحت أكثر من أي وقت مضى، مرتبطة بالهجرة، وتداعياتها السياسية تؤثر في مضمون قراءة المجتمع الغربي لنا. واعتبرت أن الأمر يعتمد بشكل كبير على الثقافة الفردية لكل مهاجر، حيث يمثل الوعي هنا عاملًا مهمًا وفعّالًا للغاية. فتأثير المجتمع الغربي في شخص ذي ثقافة ووعي محدودين يكون غير تأثيره في شخص مثقف وواع. بالتالي يشكل المثقفون، في هذا الصدد، أداة نقل للثقافة إلى الغرب... "نستطيع القول إن الهجرة مرآة إيجابية تنقل للشرق ما هو بحاجة إليه"، كما ترى قاسم.

دافعت سيزا قاسم كثيرًا عن حق الإنسان العربي في المعرفة، وكانت تؤمن أن تزييف المعرفة وحجبها، وفرض منظور الأيديولوجية السائدة على المجتمع من خلال ما تسميه القمع المعرفي، من المشكلات الجوهرية التي يعاني منها المجتمع العربي، ومن ثم يقع العبء على الأدب في أن يفضح هذا الزيف وأن يكشف النقاب عن الحقيقة.

ولهذا دانت في أعمالها النقدية الاستبداد والتسلط والقمع والظلم الاجتماعي، داعية إلى دمقرطة الحكم وإحقاق إنسانية الإنسان، وكانت لديها الشجاعة النقدية التي لا تخضعها لعبادة الأصنام الثقافية، وتجأر بصوتها في وجه الجميع مهددة بخرق حد الصمت، ومنددة بالسكوت الذي يتساوى مع الاشتراك في الجريمة.

كانت لقاسم طوال الوقت انتقادات للحركة النقدية العربية، ففي نظرها، تحتاج الحركة النقدية العربية إلى متابعة دائمة للأعمال الأدبية، وهذا إن لم يحدث بشكل منظَّم ومنتظم، تنتج عنه فجوة كبيرة، حيث يحتاج كل من الإبداع والنقد إلى الآخر، لكن معظم الكتاب، في نظر سيزا قاسم، لا يدركون أو لا يقدّرون ذلك. والحركة النقدية في عالمنا العربي تحتاج إلى كثير من التطوير والدعم. برأيها، الحركة النقدية الأدبية تشهد تراجعًا كبيرًا، إذ تمر شهور طويلة دون أن نقرأ عملًا نقديًا واحدًا. والناقد مثل المبدع، لا بد أن يكون في حالة مزاجية معينة لكي يقدم نقدًا بناءً مكتمل الأركان، وهذه المزاجية تجعله يختار عملًا ما، ويتجاهل الآخر، ونحن لا نملك حركة نقدية متواصلة.

والدكتورة سيزا قاسم باحثة وأستاذة النقد الأدبي في الجامعة الأميركية، مواليد 8 كانون الأول/ ديسمبر عام 1935، ومن أبرز كتبها "بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ"، وهو طبعة منقحة لرسالتها الجامعية "الواقعية الفرنسية والرواية العربية في مصر من عام 1945 حتى 1960"، والتي تقدمت بها عام 1978 للحصول على درجة الدكتوراه من كلية الآداب في جامعة القاهرة، كما تُعد الراحلة أحد ألمع الأسماء العربية الذين تخصصوا في دراسة الأدب المقارن المعاصر والتراثي. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.