}

"الوطن الحالي".. ماذا تعني كلمة وطن؟

يوسف وقاص 23 فبراير 2022
هنا/الآن "الوطن الحالي".. ماذا تعني كلمة وطن؟
ماسّيمو زامبوني وملصق ألبومه الموسيقي "الوطن الحالي"

 


لاقت كلمة "باتريا Patria" في الآونة الأخيرة رواجًا حدّ القداسة بين التيارات اليمينية المتطرفة، وذلك لكسب شريحة لا يستهان بها من المجتمعات الأوروبية، في سياق مواز مع التقوقع داخل الحدود الوطنية والعداء السافر للمهاجرين أو، بشكل عام، المختلف إثنيًا وعقائديًا. وكلمة "باتريا" (الوطن) تنحدر من أصول لاتينية، بمعنى "الأرض"، من باتريوس Patrius "أبوي"، وجاء في تعريف معجم "تريكّاني" الإيطالي أنها المنطقة التي يسكنها شعب والتي يشعر كل فرد من أفرادها بأنهم ينتمون إليها بالميلاد واللغة، والثقافة، والتاريخ، والتقاليد. اللافت في هذا التعريف هو التساؤل الذي يطرحه المعجم على لسان بترارك: أليست هذه إيطاليا، الوطن الجدير بالثقة، الأم الورعة والطاهرة التي تحمي هذا وذاك من أهاليَّ؟ وهو أيضًا "المكان الذي يشعر فيه المرء بالأمان"، عبارة غالبًا ما تكررت على نحو يضرب به المثل، وبنبرات مختلفة، حتى أنها ما أن يتذكرها الفارّون من بلادهم لتعسّف وطغيان حكّامهم، يمكن أن تكون ساخرة أو مريرة أو تحمل في طياتها مفارقة مؤلمة! وحسب المصدر الآنف الذكر، تعود هذه العبارة إلى الكاتب والشاعر والرسام الروماني ماركوس باكوفيوس (220-130 قبل الميلاد)، التي اقتبسها منه شيشرون، ثم تكررت على مرّ العصور على ألسنة كتّاب آخرين، بمن في ذلك الخطيب والفيلسوف والكاتب المسرحي الروماني سينيكا (4-19 قبل الميلاد). ومن اللافت للنظر أيضًا أن إسباغ صفة "أب الوطن"(باتر باتريا Pater Patriae)، كان لقب الشرف الذي يمنحه الرومان القدماء لرعايا الإمبراطورية لاستحقاق خاص، وبشكل أكثر تحديدًا، اللقب الذي مُنح للإمبراطور أغسطس في العام 2 قبل الميلاد والذي حمله بعد ذلك جميع الأباطرة، باستثناء تيبيريوس يوليوس، وتم اعتماده أحيانًا حتى في العصر الحديث، على سبيل المثال، عندما منحته جمهورية فلورنسا إلى كوزيمو دي ميديتشي، لرعايته للأدب والفن في عصر النهضة، وإلى فيكتور إيمانويل الثاني، لأن إيطاليا حقّقت وحدتها الوطنية خلال فترة حكمه. ثم تجلّت هذه الاستمرارية في القرن العشرين، عبر آباء كُثُر، من بينهم الزعيم التركي أتاتورك ومن جاراه فيما بعد من الزعماء العرب والأجانب، متأملين من خلاله خلودًا ما لبث أن تفتّت نثارًا إزاء فجاجتهم وتعاليهم على مطالب شعوبهم. إلا أن هذه الفكرة، أسوة بكل الأفكار العابرة للزمن، بدأ بريقها يخفت ويُعتقد أنها ربما ستفقد وهجها خلال العقود القلية القادمة، بعد أن تسببت، في عصر القوميات وترسيم الحدود، بحروب مدمرة وطموحات طغاة أرادوا من خلالها السيطرة على العالم بسكانه ومقدراته.

 

أسئلة..

ماسّيمو زامبوني  Massimo Zamboni، كاتب ومؤلف موسيقي، أحد مؤسسي فرقة موسيقى الپانك CCCP، أصدر في الفترة الأخيرة ألبومًا موسيقيًا بعنوان "الوطن الحالي"، حيث لاقى انتشارًا كبيرًا، وفوق كل شيء طرح العديد من الأسئلة حول عنوان الأغنية بالذات، وحول مفهوم الوطن بشكل عام وما ألمّ به من تغيير في الصميم إثر جائحة فيروس كورونا أو كوفيد 19، وقبل ذلك، نتيجة العولمة والثورة الرقمية، التي ألغت الحدود – نظريًا – أو على الأقل تخطتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

 

تقول كلمات الأغنية:

عظيمة المدن/ والجمال العظيم مُهان/ وافية السِنّ وخاوية الهِمّة، لكنّها مدن مُدَّعِية.

هيمَنة مَقْضِيّة/ تؤجّل ما يستلزم/ مواهب تنعم على نحوٍ سيء الوطن الحالي.

هذا عن النصف/ وبائس في نصفه الآخر/ بلد في التغيير يظلّ كحاله.

حدث عظيم/ عظيم في ظُلمة الانتظار.

التباس جسيم/ يفوق الشغف المتقّد.

سينتابه التغيير، أجل، سينتابه التغيير/ قبل أوان الصبح، حالما نستيقظ.

هذه الكلمة، باتريا (الوطن)، التي يصعب لفظها الآن دون أن تستحضر رؤى وأحلامًا ضاعت عبر الزمن، يجول بها ماسّيمو زامبوني في جميع أنحاء البلاد، وهو خائف ومحبَط. يسافر على الطرق السريعة المهجورة، مع استحالة التواجد معًا، والبيتزا الجاهزة التي يتناولها في عزلة مسندًا علبة الكرتون على ركبتيه. هذه هي الطريقة التي ولد بها مشروعه الموسيقي الجديد الذي يرصد الوضع الإيطالي الراهن، حيث "يسري جو من الخيبة في كل مكان". وتعريف "الوطن" أصبح رهينة للدعاية: "اليد على الصدر، جاهزين للموت ...". ومع ذلك، بعيدًا عن الصخب والضجيج، هناك "بلد يحلم ويعمل ويعاني ويدرس ويفاجئ". وهذه هي الطريقة التي قام بها مؤسس الموجة البديلة الإيطالية في الموسيقى، عازف الغيتار، الذي أحضر بصوت جوفانّي ليندو فيرّيتّي موسيقى البانك إلى سهول مقاطعة إميليا رومانيا في الشمال الإيطالي.

رجل الأعمال الصيني- الإيطالي فرنشيسكو ﭬو  



إزاء النقاش الذي تلا انتشار الأغنية، اقترحت جريدة الكورييري ديللا سيرا – لا ليتّورا على زامبوني أن يتحاور مع ثلاثة "أجانب استثنائيين":

تقوى بن محمد Takoua Ben Mohamed، رسامة كوميكس إيطالية من أصول تونسية، مجازة في إنتاج الفيديو وسينما الرسوم المتحركة من أكاديمية نيمو للفنون الرقمية في فلورنسا، التي انتقلت إلى روما عام 1999 مع والدتها وإخوتها ليجتمع شملهم مع والدها، المنفي السياسي الذي هرب من ديكتاتورية نظام بن علي. نشأت تقوى في إحدى ضواحي روما، في بيئة متعددة الأعراق التي ستؤثر على تعبيرها الفني وتساهم في تطوير "الرسوم المتحركة متعددة الثقافات". تفتخر تقوى بن محمد بإنتاج ضخم، مما جعلها معروفة ليس فقط في مجال القصص المصورة الصحافية، ولكن في الجامعات والمدارس، حيث استقطبت بفنها كل من البالغين والمراهقين، لقدرتها على استخدام لغة مرئية ذات تأثير فوري. كرست نفسها منذ ريعان صباها للصحافة المصورة، بهدف سرد الحقائق التي لا يعرفها الكثيرون من خلال رسوماتها، مثل العيش في مرحلة الطفولة في ظل الديكتاتورية أو العنصرية تجاه الأجانب، وحقوق الإنسان، كرد فعل على سرد معين في وسائل الإعلام، غالبًا ما يشوبه التبسيط والصور النمطية.

وتومي كوُتي Tommy Kuti (أبيوكوتا، نيجيريا، 1989)، رابِّر من أصول نيجيرية، انتقل مع عائلته إلى محافظة بريشيا وهو في الثانية من عمره، وينتمي بذلك إلى الجيل الثاني من المهاجرين. بعد تخرجه من جامعة كامبريدج في علوم الاتصالات، عاد إلى إيطاليا ليكرّس نفسه للموسيقى، وأصدر كتابًا بعنوان "إنه لأمر يضحكني – أن تترعرع ببشرة سوداء في إيطاليا سالفيني"، الذي يروي فيه قصته الشخصية كصبي أسود البشرة وُلد في نيجيريا ونشأ في حي القارات الخمس متعددة الأعراق في كاستيليوني ديلله ستيفييري، في محافظة مانطوفا. تومي يتحدث الإيطالية والإنكليزية بطلاقة، وهو اليوم مغني راب في إيطاليا. لكن هذا الكتاب هو أيضًا شيء آخر. إنه يعطي صوتًا لهذا الجيل الجديد، الذي يتميز بالحيوية والنشاط، وهم الإيطاليون الجدد، الصبية الذين غالبًا ما "يكتسبون خبرتهم" (أو بالأحرى يمارسون لعبة كسر العظام!) في مواجهة شبه يومية مع العنصرية الزاحفة.

ورجل الأعمال الصيني- الإيطالي فرنشيسكو ﭬو Francesco Wu، وهو مثل تقوى بن محمد، وصل إلى إيطاليا في سن الثامنة، وأنهى جميع مراحل دراسته في المدارس والجامعات الإيطالية، ويُعتبر في الوقت الحالي المرجع في اتحاد التجارة في ميلانو لرواد الأعمال الأجانب والرئيس الفخري لاتحاد رواد الأعمال الإيطالي الصيني.

يعتقد زامبوني، منطلقًا من الظروف الملحّة التي ألمّت بإيطاليا والعالم أجمع، أن اختياره لهذا العنوان المثير للجدل، كان بفعل الشعور بالوحدة الذي بدأ يطغى على حياة المرء في هذا البلد، ولا يتعلق الأمر بفيروس كورونا فحسب. فهناك من يشعر أنه فقد حق المواطنة، أو على الأقل المواطنة الفعّالة، أي الفرد المعتاد على المشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هؤلاء بدأوا يشعرون بعدم جدواهم، وأنه لم يتم الاعتراف بوجودهم، كأبناء المهاجرين من الجيل الثاني. وهي ليست مُطالَبَة، لأن كل واحد منهم يدبّر أموره بطريقة ما، إنه مجرد استياء وسخط. فهو يميل للزراعة، كتوجه وسلوك، ويكرس جزءًا كبيرًا من وقته للحقل، لذلك يكره التبذير، ويشعر بالأسى عندما يرى إمكانية مشاركة المواهب الفذة في حياة بلد بأكمله تذهب هباء الريح. ويضيف: "بدأت أفكر أنه من الصعب ألا تشعر بالقمع من قبل الدولة لألف سبب وجيه. في الوقت نفسه، فإن نطق كلمة "وطن" بات صعبًا للغاية بالنسبة لمعظمنا. أنا نفسي أجد صعوبة في التفكير ضمن هذا الحيز، حيز ’الوطن’. ثم دفعتني الصعوبة إلى مواجهة هذه الكلمة، بدءًا من النهج الذي استخدمه رجال المقاومة الإيطالية الذين أطلقوا على أنفسهم اسم ’الوطنيين’". ويتساءل بمرارة: "ماذا فقدنا؟ لماذا تلاشت كلمة وطن خلال سبعين عامًا إلى درجة أنها أصبحت شيئًا لا يمكن لفظه من مواطنيه ذاتهم؟ أعتقد لأننا رأيناها تُلفظ مرات عديدة من قبل أفواه خاطئة كثيرة، من قبل أناس استفادوا منها أو استخدموها للتستر على الظلم. لذلك فكرت في تخصيص أغنية لكل هذا، وهو ما يمنح الألبوم عنوانه، ويشكّل جزءًا من فكرة جمال البلد المُهان. فإيطاليا تواصل تقديم نفسها للآخرين كبطاقة بريدية، ثم تفتح عينيك، وتخرج إلى الشارع، لتدرك أن هناك جمالًا رائعًا لم نساهم في بنائه. كل الآخرين تقريبًا فعلوا ذلك من قبلنا. لكن لا يمكننا أن نكتفي بهذا. تنتهي الأغنية بقولها: سينتابه التغيير، أجل، سينتابه التغيير/ قبل أوان الصباح، حالما نستيقظ. إنها تقريبًا مثل أغنية ’بيلّا تشاو’ الذائعة الصيت: صباح يومٍ ما،/ أفقت من النوم،/ ورأيت وطني محتلًا،/ يا رفيقة، احمليني بعيدًا،/ وداعًا أيتها الجميلة، وداعًا.

 

تقوى بن محمد - رسامة كوميكس إيطالية من أصول تونسية 



ماذا تعني كلمة وطن؟

ولدى سؤال فرانشيسكو ﭬو ماذا تعني له كلمة وطن؟ وهل يشارك زامبوني الرغبة في استردادها؟ يجيب، دون أن يخفي انتمائه إلى وطنه الأصلي: "إن كلمة "باتريا" تشير في الواقع اليوم إلى القومية، وإلى أرض الآباء التي يجب الذود عنها بالسلاح، والحدود التي لا تزال مثار نزاع. هي بالتأكيد كلمة ذات وقع قوي لكنها تخاطر باستحضار أشياء خاطئة. فأنا أرى نفسي في المنتصف وكثيرًا ما أتساءل: أي "باتريا"؟ إيطاليا أم الصين؟ لا أحد من الاثنين؟ ربما كلاهما؟ حسب التعريف، الوطن واحد وحصري، وفي هذه الحالة يصبح بعيدًا عن متناول اليد. فهما بنظري موطنان يمكن أن يصلا حتى إلى حدّ الصدام في ضوء كل ما يحدث الآن في العالم، وهذا ليس بوهم، فمنذ فترة أبحر الأسطول الإيطالي إلى المحيطين الهندي والهادئ، ومع أنني أستبعد فكرة الصدام، إلا أنني أصرّ على الروابط، فإذا ما أزيل هذا الجزء الخاطئ من الكلمة، فأنا بالتأكيد لدي مشاعر قوية تجاه البلدين، الصين وإيطاليا". ولا يثنيه عن رأيه حتى حصوله على أعلى وسام شرف لمدينة ميلانو، وسام أمبروجينو الذهبي، مع اتحاد رواد الأعمال الإيطاليين والصينيين، بل يؤكد أنه إيطالي للغاية وصيني للغاية أيضًا، وفوق كل شيء "ميلاني" (نسبة إلى مدينة ميلانو) من أصول صينية. يقول بهذا الصدد: "من المهم أن نحافظ على هذا الكبرياء الصغير، الذي نحتاجه لكي نرتكز على شيء ما، إلى الجذور. ربما يكون ما نحتاجه، هو أن ننتمي إلى شيء ما، بدلًا من لا شيء. أقول هذا كوني إيطاليًا مئة بالمئة وصينيًا مئة بالمئة، دون الحاجة إلى أن أقسّم نفسي إلى قسمين. ثم لماذا عليّ أن أقسّم نفسي؟ إن مفهوم الوطن هو الشعور بالعاطفة الذي يظهره المرء تجاه مكان ما، أو تقليد، أو ثقافة، أو لغة ما، وهو مهم، لأنه يثري مغزاه. إذا قلنا إننا بلا وطن، يبدو الأمر كما لو أن كل شيء أصبح مسطّحًا بالنسبة لنا. بينما مفهوم الوطن كنقيض وهيمنة وتفوق، فهو شيء خطير وبعيد جدًا عن مفهومي".

بينما تقوى بن محمد تعتقد أن مفهوم الوطن يرتبط بمعنى شخصي للغاية. تقول، على سبيل المثال: "أنا لم أولد في إيطاليا، لقد وصلتها وأنا في الثامنة من عمري. لقد أمضيت طفولتي المبكّرة في تونس، كنت ابنة لمعارضين سياسيين لدكتاتورية زين العابدين بن علي. ويمكنك أن تتخيل أي نوع من الطفولة كانت: حرمان من وطني داخل وطني. أتذكر أنه في كل صباح، في المدرسة الابتدائية، كانوا يجعلوننا نغني النشيد الوطني بالرتل أمام الفصل. يتكون النشيد التونسي من قصيدة كتبها أحد أعظم الشعراء العرب في القرن العشرين (ربما تقصد أبو القاسم الشابي، مع أن أغلب كلمات النشيد كتبها مصطفى صادق الرافعي وأُضيف إليه بيتان شعريان للشابي) وهي قصيدة للحرية. بالنسبة لي، كان ذلك يعني ترديد قصيدة وطنية للغاية كل صباح، التي تحتفي بحرية تونس، كابنة لمعارضين سياسيين، وبالتالي حرمانها من الحرية. على الرغم من أنني كنت مجرد طفلة، إلا أنها تظل ذكرى حية للغاية بالنسبة لي. ثم اُقتلعتُ من تونس، وجُلبتُ إلى إيطاليا حيث كان عليّ أن أبدأ من جديد. لذلك لم أشعر مطلقًا بأنني في وطني، لأنني عشت لمدة 22 عامًا بدون الجنسية الإيطالية. حتى القَسَم الذي أقسمته في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي في مبنى البلدية للحصول على الجنسية، وجدته وطنيّا جدًا. هنا أيضًا، عشت دائمًا محرومة من وطني وبالتالي من هويتي. في إيطاليا ظلوا يخبرونني، بدءًا من ماركو، شخصية روايتي المصورة "صديقيَ الفاشيّ" موجود بالفعل: لن تنتمي إلى روما مثلي، لن تكوني إيطالية مثلي، انظري في المرآة، انظري إلى اسمك... لطالما كان يُنظر إليّ كشخص آخر، وعندما عدت إلى تونس، بعد اثني عشر عامًا من المنفى، بدأت اكتشف أنني الشخص الآخر هناك أيضًا. جدتي، عندما رأيتها مرة أخرى، كان أول ما قالته لي: لقد وصلت الإيطالية! أبناء العمّ والأعمام، عائلتي التي تحمل نفس جيناتي، لم يتعرفوا عليّ، كما لو كنت أجنبية جاءت من بعيد. لطالما عايشت هذا الشعور بعدم الانتماء. منذ صغري، كنت دائمًا أبحث عن إجابة على السؤال: "من أنا؟". ثم أدركت، في سن الثلاثين، أنني لا أريد الحصول عن إجابة. أسافر كثيرًا من أجل العمل، إلى آسيا، إلى أميركا، وأجد دائمًا أجزاء جديدة من نفسي أتعرف فيها على ذاتي، حتى في الأماكن التي تبدو بعيدة. بالنسبة لي، من المهم عدم الانتماء إلى أي شيء، ولكن بالمعنى الذي ذكره فرانشيسكو ﭬو من قبل: إن عدم الانتماء إلى أي شيء يعني بالنسبة لي أن أنتمي إلى كل شيء، وأن أكون في بحث دائم عن هذا اﻟ ’كل شيء’. الوطن مفهوم مهم، لقد ناضلت دائمًا للانتماء إلى تونس أو إيطاليا، وكان الحرمان منهما مصدر قلق مستمر. لقد ناضلت طوال حياتي من أجل هذه الكلمة، لأصل أخيرًا إلى هذه النتيجة: لماذا التماهي مع وطن واحد بدلًا من أوطان كثيرة؟ لدي أحفاد يحملون ثلاث جنسيات، وعندما تقام مباريات كأس العالم، تتعقّد الأمور، إذ دائمًا ما تكون ثمة مشكلة.

تومي كوُتي-  رابِّر من أصول نيجيرية  



"وماذا عن أن "الطفولة قد تكون وطننا"؟ كما يخلص إلى القول زامبوني.

"أعتقد أن هذه أيضًا إجابة ذاتية للغاية. الطفولة التي عشتها في تونس أثناء الديكتاتورية، عندما كانت الشرطة تنغص حياة والدتي باستمرار وبطريقة عنيفة للغاية، لا يمكن أن تكون منزلًا بالنسبة لي. الوطن بالنسبة لي هو روما، حيث عشت أفضل ذكرياتي، أو حتى أكثر ذكرياتي مرارة، مثل فصول العنصرية، ولكنها ضرورية لحياتي. وفهمت ذلك بالخروج من تونس وإيطاليا. عندما يسألونني من أين أنتِ، فإن الإجابة الأولى هي: من روما".

تومي يشارك أجزاء كثيرة من هذه الآراء. وبالنسبة له أيضًا فإن مفهوم الوطن له معانٍ مختلفة في مجرى الحياة. ولد تومي في نيجيريا ونشأ في إيطاليا. في سن السادسة عشرة كان محظوظًا بما يكفي لقبوله في بعثة تبادل ثقافي في الولايات المتحدة الأميركية حيث قضى عامًا في منطقة نائية في ولاية بنسلفانيا. يقول عن هذه التجربة: "حتى تلك اللحظة كنت مقتنعًا جدًا أنني شاب نيجيري. كنت أعود إلى المنزل وأتحدث اليوروبا، وأكل طعامًا أفريقيًا، وحتى طعامًا إيطاليًا، لكن نظرًا لأنني كنت استثناءً، فقد كنت مختلفًا، لاعتقادي أن التنوع يمثّلني، إلى أن قمت بهذه الرحلة. عندها بدأت تساورني الشكوك حول هويتي: حسنًا، أنا نيجيري، لكنني ذهبت إلى الولايات المتحدة قادمًا من إيطاليا. عندما أقدم نفسي لأميركي لا أستطيع أن أخبره أنني نيجيري، لأنني في الواقع قضيت حياتي كلها في إيطاليا ... كانت تلك هي اللحظة الأولى التي شعرت فيها بالانتماء إلى إيطاليا. كنت دائما ما أشعر بالضياع قبل ذلك. خيبات الأمل الغرامية خلال فترة المراهقة، والتجارب الصغيرة للعنصرية التي يمكن أن يعيشها المرء في محافظتي بريشا أو مانطوفا، لم تجعلني أشعر بالانتماء الشديد إلى هذا البلد. لكنني أدركت فيما بعد أن هذا البلد يتبعني أينما حللت. حتى عندما أتحدث الإنكليزية تطغى على لهجتي اللكنة الإيطالية قليلًا. مثل تقوى، عندما أذهب إلى نيجيريا، لا يعتبرونني واحدًا منهم.

"بعد المدرسة الثانوية، ذهبت للدراسة في الجامعة لمدة ثلاث سنوات في إنكلترا. كان يبرز هناك خطاب أوروبي تقريبًا. ويا للغرابة، أدركت أنني وبقية الشبّان من أصل لاتيني كنا نصبح أصدقاء بسهولة أكبر ممّا يحثّنا على التجمّع. لذلك عدت إلى إيطاليا بهدف منح صوت لجيل من الأشخاص مثلي، الذين نشأوا في إيطاليا، ولكن من أصول أجنبية، والذين لم يشعروا بأنهم مُمَثَّلون. لطالما اعتقدت أن هناك مشكلة في التمثيل الإعلامي. وجعلت نفسي نصيرًا لهذا الغرض: خرجت أغنيتي "الأفرو- إيطالي"، لأنني أردت أن أصرخ للعالم بأننا موجودون! أنا إيطالي من أصل إفريقي: كنت في حاجة ماسة لتأكيد ذلك. إنها مسألة فخر. منذ تلك اللحظة، قادني خطاب هويتي إلى الاعتقاد بأن مفهوم الوطن مُبالغ فيه، وأنه سيتم التغلب عليه على المدى الطويل. مع مرور الوقت وتعمّقي في الدراسة، اكتشفت أن أفضل ما في الفن والثقافة والاختراعات جاء من الاختلاط، من اتحاد العوالم، من التبادلات، من بوتقة الانصهار... لكننا أخطأنا رواية ذلك في الكتب، إذ أننا جعلناه يبدو كشيء يستثني الآخرين، وعندها بالضبط يصبح مفهوم الوطن ثقيل الوطأة ومدعاة للخوف".

******

إذًا ثمة مفاهيم كثيرة بدأت تتغيّر على أرض الواقع، ومنها مفهوم "باتريا" (الوطن). فالكثير من الكتاب والمفكرين بدأوا ينفرون من هذه الكلمة، وما فعله الكاتب والموسيقي الإيطالي ماسّيمو زامبوني ليس سوى طرف جبل الجليد، أو غيض من فيض، ويمكن أن يكون مثار نقاش لدينا أيضًا بعد محاولات جعل الوطن مفصّلًا على مقاس الطغاة.

(ميلانو)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.