}

حسين الواد: الناقد الذي فتنه الشعر القديم والنقد الحديث

شكري المبخوت شكري المبخوت 6 يونيو 2018
هنا/الآن حسين الواد: الناقد الذي فتنه الشعر القديم والنقد الحديث
حسين الواد


حين طلب منّي حسين الواد، قبل سنة تقريبا، أن أكتب مقدّمة لأعماله الأكاديميّة الكاملة داخلني شعور ملتبس مبهم. فمن جهة كنت أعرف، وأنا الذي قرأ له كتبه جميعا والكثير من مخطوطاته التي نشرت والتي لم تنشر، أنّ جمع هذه البحوث سيمكّن القرّاء الجادّين المتعمّقين من نظرة شاملة على مشروعه النقديّ المتميّز. ولكنّني رأيت في ذلك، من جهة أخرى، ما يدعو إلى التشاؤم. فالأعمال الكاملة تجمع، في العادة، لمن توقّف عن الكتابة بسبب الوفاة. وها هو حسين الواد، وهو في أتمّ قدراته وفي مرحلة من النضج المعرفيّ والفكريّ كبيرة، ينهي بيده مسارا ثريّا من البحوث والتفكير النقديّ والتجديد ومتابعة تيارات النقد وقضايا الأدب وأسئلته. وبالفعل أنشبت المنيّة أظفارها في جسده يوم 2 يونيو/حزيران 2018 (ولد سنة 1948).

الناقد ومشروعه

صدر حسين الواد في ما كتب على امتداد ما يفوق الأربعة عقود ونصف عن رؤية ظلّت تتدقّق من كتاب إلى آخر ومن مغامرة بحثيّة إلى أخرى. وينسى الكثيرون أنّ حسين الواد هو أوّل من عالج نصّا أدبيّا قديما بالمنهج البنيويّ (البنية القصصيّة في رسالة الغفران سنة 1972 وصدرت سنة 1975). فدشّن مرحلة جديدة في النقد العربيّ الغارق وقتها في الانطباعيّة والنقد الإيديولوجيّ، ولم يستطع أن يتجاوز، في أحسن الحالات، خطاب النقد التاريخي ومنجزاته القليلة بعد أن تجاوزه الزمن. كان السؤال وقتها كيف نبني علما بالأدب؟ وهو ما جرّه إلى الاهتمام بالأدبيّة ما هي؟ وأين تكون؟ وباللّغة حين تتّخذ هيئة الأقاويل غير الإبلاغيّة ما خصائصها؟ وما وظيفتها؟

بيد أنّه سرعان ما تفطّن إلى أنّ النصّ ليس بناء مغلقا معزولا عن المجتمع ومؤسّساته والتاريخ وتقلّباته. فدرس مفاهيم التأريخ للأدب عند العرب والمناهج التي اصطنعوها، ليطرح أسئلة لم يعهدها النقد العربيّ. فللنصوص حياة في المجتمع ومنازل تحتاج إلى أن تعرف. فهي ضروب من الأقوال ينتجها أعوان اجتماعيّون في سياقات للإنتاج متحوّلة ولها طرق في الانتشار بين الناس، فهي تذاع وتقرأ وتنقد ولها أنماط متعدّدة في الوجود الاجتماعيّ. وليس يخفى ما في كتاب "في تأريخ الأدب: مفاهيم ومناهج" (صدر سنة 1980) من نقد صريح للبنيويّة ومراجعة للحاصل منها.

ولمّا كانت الأفكار عند الواد تصدر عن رؤية واحدة، فقد خرج من البنية في الأدب إلى الأدب في المجتمع، فتولّد مشروع مغامرته الثالثة، وهي دراسة التقبّل من خلال الشروح والكتابات النقديّة القديمة عن المتنبّي. فنرى الأدبيّة في البنية النصّيّة، فالأدبيّة في المجتمع، ثمّ الأدبيّة لدى جمهور القرّاء، ولكنّ اللاّحق عنده لا يلغي السابق، بل تترابط الدوائر والحلقات ويظلّ التوجّه العامّ واحدا.

نظريّة التقبّل والشعر القديم

وصل حسين الواد إلى التقبّل وقضاياه الجماليّة وهو يكتب "تاريخ الأدب..." ناقدا مقيّما. فقد وجد أنّ صلة الأدب بجمهور القرّاء مسألة لا مناص منها في فهم الأدبيّة التي تتأثّر بتبدّل الأذواق من عصر إلى عصر. فليس الجمال في النصوص، على ما نتبيّن في كتابه عن تاريخ الأدب، سمة مطلقة. إنّها مظهر معياريّ تنتقى على أساس منه النصوص فتسند إليها صفة الأدبيّة وقد تفقدها بتغيّر تلك المعايير. فحياة النصوص رهينة قرّائها. ولكنّه انصرف عمّا تؤكّده الدراسات في علم اجتماع الأدب من علاقة خارجيّة بين القرّاء والنصوص ليخوض مغامرة الكشف عمّا يوجد في كتابات القرّاء الفعليّين من علاقة صميمة وتجربة في القراءة معرفيّة وذوقيّة، متوسّلا ببعض المفاهيم والتصوّرات التي ارتبطت بنظريّة التقبّل.

ولا بدّ للقارئ المنصف لأعمال حسين الواد الكاملة أن يحلّ كتاب "المتنبّي والتجربة الجماليّة عند العرب" (صدر سنة 1991)، وهو أطروحته لدكتوراه الدولة، محلّه الرفيع في أعلى مراتب التجلّي المعرفيّ والعلميّ من دون مبالغة. إنّه من الكتب المعالم في نقد الشعر القديم لا أعرف له نظيرا في صفاء الرؤية ونفاذها.

 وأكبر ظنّي أنّ هذا الكتاب لم يقرأ القراءة التي هو جدير بها بما تضمّنه من احتمالات في تجديد النظر إلى تجارب الأسلاف في الشعر ونقد علمائهم له وما رأوه من أسرار الشعر وخصائص التجربة الجماليّة في التعامل معه.

ففي "المتنبّي والتجربة الجماليّة عند العرب"، جملةٌ من الأفكار تتّصل بسرّ الشعر كما فهمه العرب ووظيفته في المجتمع. فلغة الشعر عند القدامى تدكّ المرجع لتستقلّ عن اللغة العاديّة. فلا يلتمس مرجعها في الحياة الواقعيّة، وإن أوهم بصلته بالمألوف من الحياة فتأتي الدلالة فيه جمعا. واشتقّ الواد من هذه الخاصّيّة في اللغة الشعريّة وظائف الشعر وفعل اللّغة الشعر في الواقع. فهذه اللغة في مسار إبداعها تتّجه على عكس المسار الذي تتّخذه لغة التواصل العاديّة من الملموس إلى المجرّد. فتجعل هذه الحركة البانية للّغة المصوّرة الشعرَ يعيد تسمية الأشياء بما يثري اللغة ودلالتها ويثير الفكر والحواسّ على نحو يقتضي أن يقوم التفاعل مع الشعر على قران المعرفة بالمتعة والذهن وبالوجدان.

وتكتسب لغة الشعر، شأنها شأن العلامة اللّغويّة إذ تستقلّ عمّا تحيل عليه، قدرة أكبر على الإحالة على سياقات جديدة لم تكن قادرة على الإحالة عليها. فالشعر لا يدلّ على سياقه التاريخيّ دلالة مباشرة، فهو ينعتق من إساره بما يمكّن له من الانفتاح على سياقات تداوليّة لا يقيّدها قيد زمانيّ فيجد فيه كلّ قارئ معنى محتملا يستخرجه على سبيل الاختيار. وهذا ما يجعل اللّغة الشعر مؤثّرة في سياق قولها وفي سياقات عديدة متجدّدة.

حداثة المنهج وتملّك التراث

لئن ارتبط اسم حسين الواد بالتحديث في النقد الأدبيّ، فإنّ في المسألة أمرا دقيقا. فمن المفارقات عنده أنّ الاهتمام بالمناهج الحديثة والتصوّرات المستحدثة للأدب كان موجّها لدرس التراث الأدبيّ العربيّ. فهذا المفتون بمراجعة النظريّات من بنيويّة وشكلانيّة فاجتماعيّة فجماليّة تاريخيّة، مفتون بالقدر نفسه، كشأن المتأدّبين الحقيقيّين، بالرصيد الجماليّ والشكليّ العربيّ. فالقديم عنده فرصة سانحة لمراجعة الفروض والطروحات الحديثة في الدرس الأدبي. ثم هو يكشف عن أسرار في عيون التراث طمستها المواقف المسبقة والمسلمات.

لقد فطن الواد، في ما نقدّر، إلى أنّ التراث الذي لا تعيد الثقافة، أيّ ثقافة، تملّكه باللّغة التي توصّل إليها العلم يجعل أهلها قاصرين عن فهمه وفهم الذات الثقافيّة فيستحيل عبئا ثقيلا. ولا حداثة، إذا رمنا أن نكون في قلب عصرنا الثقافيّ، من دون إدراج التراث ضمن معنى وجودنا المعرفيّ والرمزيّ الراهن. فبذلك نتمايز عنه ونعيد توظيفه لتحقيق الانتماء.

 وحين اكتشف الواد نظرة القدماء إلى الشعر في علاقته بالمرجع والتقاليد وإلى خصائص اللّغة الشعريّة وموقفهم من الجودة ومعايير الحسن ووظيفة الشعر الاجتماعيّة وأبعاد التجربة الجماليّة القائمة على اقتران المعرفة بالمتعة، رأى في ضمنيّات القول النقديّ لدى شيوخ العلم بالشعر قديما (أي الشرّاح) وجها من التراث يصلنا بأرقى التصوّرات الحديثة عن الشعر. فليس التراث الأدبيّ إبداعا ونقدا متحفا نزوره لننبهر بروائعه أو نردّه بظهر اليد، ولكنّه يدعونا إلى التلطّف في فهمه حتّى نسائل به معرفتنا ونثريها منه.

وعلى هذا يكون بحث الواد الحقيقيّ والهاجس المتردّد في كتاباته هو الوصول إلى الخاصّيّ المفرد المميّز، وإن توسّل إليه بنظريّات قدرها أن تكون بحثا في الكلّيّات وبمناهج لم تصنع لنقول بها المخصّص المفرد.

 أفليس في هذا بعض سرّ الأدب الذي تعلّقت به همّة الواد: كيف يكون الفرديّ مشتقّا من المشترك اشتقاق لغة الفنّ من لغة التواصل؟ وكيف نبلغ الخاصّ في أدقّ دقائقه وما لدينا من وسائل لبلوغه لا يقع في الأغلب الأعمّ إلاّ على العامّ؟ وكيف نبني معرفة بالأدب معقولة مفهومة مقنعة، والحال أنّ المادّة التي يشتغل عليها المتأدّب ذو الذوق المرهف كلام لا كالكلام وخيال في خيال، لا مرجع يحتكم إليه في صدقه وكذبه، واحتمال لا يصاغ في معادلات تتكهّن به توفّر للقول النقديّ شرطا أساسيّا من شروط العلم؟

هذه ملامح من تجربة الواد النقديّة التي بلورها على التدريج في أعمال أخرى كثيرة أبرزها، علاوة على ما ذكرناه، "في مناهج الدراسات الأدبية" (1984) و"مدخل إلى شعر المتنبي" (1991) و"تدور على غير أسمائها: نظر في شعر بشار بن بُرد" (1997) و"اللّغةُ الشِّعرُ في ديوان أبي تمام" (1997) و"جمالية الأنا في شعر الأعشى الكبير (2001) و"شيء... من الأدب واللغة" (2004) و"نظر في الشعر القديم" (2009).

الروائيّ الذي لم ينه مشروعه

قبل سنة تقريبا، حين عرّضت لحسين الواد في لقاء شخصيّ بشيء ممّا جال في خاطري من التطيّر جرّاء عزمه على إصدار أعماله الكاملة، أجابني بأنّه لم يعد يعتبر نفسه معنيّا بالبحث النقديّ. فالنقد عند العرب يتراجع منذ مدّة حتى في الجامعات مثلما شرّح ذلك في كتابه "حرباء النقد" (صدر سنة 2011). ولكنّه أكّد لي أنّه سيواصل مشروعه الروائيّ الذي سيتفرّغ له تمام التفرّغ. فالرواية عنده هي الجنس الأقدر على بسط حيرته المعرفيّة وأسئلته الجماليّة. فحدّثني يومها عن المخطوطات التي تحتاج إلى "تنظيف" لتخرج إلى الناس، ومنها روايته الأخيرة التي صدرت هذه السنة قبل شهرين بعنوان "الغربان"، في معرض تونس الدولي للكتاب.  وهي رواية قائمة على تأمّل تونس بعد الثورة وتحليل ما يعتمل فيها من تيّارات وتردّد وحيرة.

ومن المؤكّد أنّ هذا الجانب الثاني من تجربة الواد في الكتابة يحتاج إلى وقفة خاصّة. فقد أصدر باكورة رواياته "روائح المدينة" سنة 2010، ففازت بأهمّ جائزة للرواية في تونس وهي الكومار الذهبي (سنة 2011)، وأصدر جزءا ثانيا منها بالعنوان نفسه سنة 2015. ثمّ فازت روايته الثانية "سعادته... السّيد الوزير" (سنة 2011) ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة إعلاميّا "بالبوكر" سنة 2013. ومازالت على مكتبه مشاريع أخرى لمّا تنجز، وروايات جميلة أخرى لمّا تكتب، وكتبٌ قيّمة كانت في طريقها إلى المكتبة العربيّة لولا أن بعثرتها يد المنيّة الغادرة فحرمت منها قرّاءه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.