}

في 2017: يمكن للكتاب الرائج أن يكون جيدًا!

أحمد ندا أحمد ندا 25 ديسمبر 2017
من أكثر الأشياء المستقرة في الوعي العام، هي أن الكتاب الرائج ليس بالضرورة جيدًا، والعكس. هكذا تعيش الكتب تحت وطأة هذه الثنائية "الرواج - الجودة"، رهان على اللحظة الراهنة، ورهان على التاريخ. حتى صار للثقافة حقلان يكادان ينفصلا: هما الثقافة الجماهيرية، والثقافة النخبوية. منذ أن دشن تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر لفكرة "صناعة الثقافة" في كتابيهما المؤسس "جدل التنوير" في أربعينيات القرن الماضي.

رأى أدورنو عبر تحليله لطبيعة النظام الرأسمالي والمتغيرات التي طرأت عليه أن الثقافة بمكوناتها المختلفة الفنية والأدبية والمعرفية ما هي إلا منتج مصنوع غير مادي، يستهدف إعطاء الشرعية الأيديولوجية للنظام الاجتماعي القائم وإعادة إنتاجه. بطبيعة الحال فإن الطبقة المسيطرة هي المستفيد الأول من عملية "تغريب الوعي واستلابه" وهو النتيجة الحتمية لصناعة الثقافة الموجهة. لذلك يرى "جدل التنوير" أن "الثقافة الجماهيرية" مفهوم زائف، فالثقافة الشعبية قد تم تسليعها منذ أن تحولت إلى عملية تبادلية من ثم فقد فقدت دورها التقدمي.

من هنا يرى أن "التنميط" أو التوحيد القياسي، هي عملية تفرض احتكارات صناعة الثقافة والتي عن طريقها تحدد الأعمال الناجحة أو الفاشلة، أي المادة الثقافية التي ينبغي تشجيعها. وهو ما يفرز في النهاية عددًا من الصور والأفكار النمطية، وهو ما يتطابق مع طبيعة النظام الرأسمالي الذي يرى الإنسان سلعة كغيرها من السلع، حيث يجب على العقول أن تتشابه ليسهل قيادتها.

منذ أن انطلق ذلك التحليل الاجتماعي الماركسي في العالم الثقافي، حتى صارت فكرة الثقافة الجماهيرية، بكل تجلياتها (البوب على سبيل المثال) الأمر الذي "يعيبه" المثقفون في المنتج الأدبي والفني. هكذا صارت ثنائية "الرواج والجودة" أكثر حَدية. بل إن المسافة وصلت إلى حد معاداة النخبة – تلقائيًا - لكل ما هو رائج لمجرد رواجه.

غير أن هذه النظرة بدأت حدّتها تقل في الآونة الأخيرة، خاصة مع سيادة أفكار منظري ما بعد الحداثة، ونقدهم لفكرة "القيمة" في نقد الأعمال الفنية، وبالتحديد ما ذهب إليه تيودور أدورنو، حين نعرف مثلاً أن نقده للفن الجماهيري، كان يقصد به الجاز والبلوز في مواجهة الموسيقى الكلاسيكية!

ماركيوزه، كان أكثر تسامحًا من زميليه، وهو صاحب الكتاب المهم "الإنسان ذو البعد الواحد" وفيه رأي أن تقييم ما هو ثقافي لا يمكن "تعميمه" إلا بأدوات براغماتية بحتة - كأن يكون الكتاب الناجح هو حاصد الأموال والفاشل عكس لك، فرأى أن المعيار العام لا يمكن أن يكون إلا ماديًا، بكل إجحافه. لكن في النهاية عوامل التقييم ذاتية ولا يمكن تعميمها.

هذا الجدل الثقافي، كان شغلاً شاغلاً في الثقافة العربية، خاصة في صناعة الكتب بعد أن صارت ظاهرة الكتب الأعلى مبيعًا "البيت سيلر" هاجسًا ملحًا في المحافل الثقافية، والهجوم التلقائي على كل ماهو رائج لمجرد رواجه. لكن عام 2017، شهد عددًا من العناوين التي نالت الحسنيين: حفاوة النخبة والجماهير، الرواج والجودة، بحسب كتابات نقدية عديدة. سوف يكون معيارنا حجم التغطية الصحافية وعدد القراءات على موقع "غود ريدز"، عنوانًا لكل نوع فني.

"كان غدًا" ملهاة المدينة ومأساتها

"كنت متأكدًا أن النقل الكرونولوجي المعهود سيضعف القصة، لا بل قد يسطحها ويجعلها مجرّد قصة عادية أخرى. كنت أودّ أن أراها مبهمة، وأن أعرفها في الوقت نفسه (…) عليّ تمزيق البنية القصصية وجعلها أشلاء. عليّ تشظيتها بمشوّشات تدخل القصة وترحل. تبدو في غير مكانها لوهلة، ثم تبدو في مكانها الطبيعي مع تتابع القصة".

عن دار الساقي، صدرت في ديسمبر 2016، الرواية الرابعة للروائي اللبناني الشاب هلال شومان. الرواية "شذرية" غير معنية بالبناء الكلاسيكي، بل إنها كما في الاقتباس السابق "أشلاء" يعيد ترتيبها كأنها قطع من "بازل" بغرض تفتيت سلطة الشكل. وكأن الروائي كما في "مخرجه السينمائي" بالاقتباس. يتمثّل روح كوينتين تارانتينو في فيلمه "بالب فيكشن" حيث لا مكان للسرد بشكله الطبيعي.

بيروت حاضرة أيضًا في خلفية الرواية مثل شريط موسيقي للسرد، حضورها في الأخبار "الحقيقية" التي تخترق السرد وتبني تصورًا عامًا له. لن يكون الحديث عنها مباشرًا محملاً بالنوستالجيا، بقدر ما هو في منمنمات الخراب اليومية. هكذا يحب المدينة ويسخط عليها في آن.

 

كيف تلتئم: مساءلة الأمومة

هو الكتاب السردي الأول للشاعرة المصرية "إيمان مرسال". صدر في بدايات العام الحالي. وكانت مرسال قد نشرت بعض فصوله قبل طباعته. ترقّب المشروع كان كبيرًا، وهو ما ظهر في التفاعل الكبير على المستويين الجماهيري والنقدي في حفل إصداره. ذلك أن الكتاب يعيد مساءلة فكرة الأمومة بكل حمولتها الكليشيهية. زاوج الكتاب بين إيمان مرسال الابنة التي فقدت أمها صغيرة، مرورًا بخوفها من فكرة الأمومة وأثرها النفسي عليها، انتهاء بعلاقتها بأبنائها وطبيعة سلطة "الحنان" الأمومية ونقدها وتقويضها. جامعة بين الشخصي والفكري والفني والعام، وهنا قوة الكتاب، بالإضافة إلى قدرته على طرح الأسئلة وكسر البداهات من دون التبشير بحلول.

"لو كنت أكثر وعيًا وسألني أحدهم عن صورة أمي لكنت أريته هذا الطائر في الكانفاه التي شغلتها بيديها. ليس لحضور أمي في الكانفاه دخل بالتذوق الجمالي، أو ببراعتها. لكن الوخزة التي يصيبني بها هذا الطائر، لم أمرّ بها أمام صورتها معي في الاستوديو. عيناه دائمًا تنظران إلي كأنهما عيناها.

الطائر الساكن الذي اعتادت أن تجلس أمي لأجله جنب الشباك من أجل إضاءة أفضل، كل غرزة إبرة جرح رمزي في عملية تجسيده، مئات من الجروح كي يكتمل".

 

"التي سكنت البيت قبلي" أشباح الذات وتفاصيلها

النساء الوحيدات

ذوات اللحم الكثيف

وطبقات الدم المتجمدة

النساء

اللواتي يتوالين على السكن في هذا البيت

كما لو كنّ سلالة واحدة

منذ أول خيال مآتة

حتى آخر حبة قمح

متروكة على شراف النافذة

في انتظار غريب

لا تدعي الشاعرة "رشا عمران" في مجموعتها الشعرية الأخيرة "التي سكنت البيت قبلي" التي صدرت عن منشورات المتوسط أية حكمةٍ، ولا تُغرق ذاتها في النوستالجيا بغرض استدعاء صورة شعرية "سهلة". إنها ببساطة تتمثل وحدتها. الذات إذ تكتشف فردانيتها، لتلتقط تفاصيل مشهدية عن "البيت" بوصفه المكان "النهائي" بعد ترحالات عديدة، لكن فكرة الرحيل تتجاوز الجيد الفيزيائي إلى الروح التي لا تستقر في سكنى. هكذا تبحث عن مثيلاتها في ساكني "البيت قبلها" وهن من النساء مثلها "وحيدات" لم تستقر أرواحن أيضًا، تجد في آثارهم عزاء.

للشاعرة عينان في ذلك البيت/المكان، عين تحاول التقاط الميتافيزيقا من أشباح سابقيها ولملمة الماضي. العين الأخرى على الحاضر بثقل المشهد. لكن ذلك الحاضر محبوس مرغمًا في تفصيل الآخرين. "الآخرين" تعبير مراوغ للغاية، لشذرات من الذات وقد تشظّت عن آخرها في الانشغال بالعابرين على المكان.

الجملة التي كتبتها المرأة التي سكنت في المنزل قبلي وضعت فوقها

خصلةَ شعر بيضاء رقيقة ورحلت.

كل ما فعلتهُ أنني كتبت اسمي تحت الجملة وعلقت الورقة على

الحائط الفارغ

ثم أخذت مشطًا وسرحت خصلة الشعر البيضاء الرقيقة

وهكذا

كنتُ أعيدُ المشهد كلّ يوم

كما لو كنت أسلي وحدتي

كي لا تبدأ بقضم

أصابع قدمي.

 

الثورة المستحيلة: أو ما بقي من سورية

إذا جاز لنا تسمية منظّر ومتحدث عن الثورة السورية، فلن يكون من هو أقدر من ياسين الحاج صالح، المثقف والمفكر الكبير، صاحب التجربة الفريدة إنسانيًا وفكريًا. في كتابه "الثورة المستحيلة" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. يوثق لما أسماه بالثورة المستحيلة.

"كانت الدولة الأسدية انبنت على أن تستحيل الثورة ويمتنع التغيير ويسود الأبد. جرى تفخيخ المجتمع بالمخابرات والمخاوف الطائفية، بحيث يمكن تحويل تمرد السكان على "الدولة" إلى تفجر المجتمع على نفسه. وعملت الدولة الأسدية طوال عقود على أن تكون ركيزة للاستقرار والأمن في الشرق الأوسط بحيث تتوسع دائرة المتضررين من أي تغير سوري محتمل، ويكثر الحريصون على بقاء الحال. وجرى احتلال الدولة العامة من قبل السلالة الخاصة ومحظييها على نحو يؤول بالدولة السورية إلى الدمار إن أطيح بـ"دولة" الأسديين.

خاضت كفاحاً استثنائياً في شجاعته وإبداعيته وتنوع وسائله، وقدرته على التجدد والاستمرار. وشهدت صنوفاً من المعاناة البشرية تقارن بكبريات المآسي في التاريخ الإنساني. في تفجرها الملحمي، كما في تحطمها التراجيدي، تقول الثورة السورية إن تغير العالم قضية سورية بقدر ما إن التغير السوري ظهر كقضية عالمية. تقول أيضاً إن العالم بعد تحطيم الثورة السورية وإعادة تسليم سورية للمتصرف الأسدي لن يكون كما قبله".

في الكتاب مساحات من "التفكير" بين ماهو شخصي وعام، بين الخطوط السياسية العامة مآلاتها، وبين الحكاية المؤلمة لاختطاف سميرة الخليل زوجته. لا يعد الكتاب بحلول، بقدر ما يطرح أسئلة للواقع السوري وقد آل إلى الوقوع بين جحيمين: أسدي وإسلامي.

 

موت صغير: هكذا تحدث ابن عربي

صارت جائزة البوكر العربية سببًا أساسيًا لرواج العمل الروائي، وعلى الرغم مما تثيره الجائزة من لغط وسخط وحفاوات كل سنة، ومساءلات عن أحقية الأعمال التي تصل إلى القائمة القصيرة، ثم أحقية العمل الفائز، إلا أن الحقيقة الواقعة الآن، أنها أعادت الأدب إلى صدارة المشهد العربي، وصارت احتفالية تلقى اهتمامًا عربيًا كبيرًا، داخل الوسط الثقافي وخارجه. رواية السعودي محمد حسن علوان "موت صغير" صدرت في 2016، إلا أن رواجها الحقيقي، كان بعد فوزها ببوكر هذا العام.

الرواية الصاردة عن دار الساقي، في 600 صفحة تقريبًا، تقتبس من حياة الإمام الأكبر محيي الدين بن عربي. هذه الحياة الثرية السائرة في حب الله، المتهمة بالتجديف والكفر، والمثيرة للتفكير منذ ارتحالاته الكبرى من الأندلس إلى مكة. "منذ أوجدني الله في مرسيّة حتى توفاني في دمشق وأنا في سفرٍ لا ينقطع. رأيت بلاداً ولقيت أناساً وصحبت أولياء وعشت تحت حكم الموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة في طريقٍ قدّره الله لي قبل خلقي. من يولد في مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق خارج الأسوار. المؤمن في سفرٍ دائم. والوجود كله سفرٌ في سفر. من ترك السفر سكن، ومن سكن عاد إلى العدم".

مغامرة علوان أنه لم يأخذ قبسًا من حياة الإمام الأكبر، بل تصدى إلى حياته كلها، مستعينا بما وصل إلينا من مخطوطات وتوثيق، بل إنه زاد في المغامرة أنه جعل الإمام يحكي عن نفسه بضمير المتكلم!

الجرذان التي لحست أذني بطل الكاراتيه: في محبة الألعاب

 

بعد مجموعته الأولى "نكات المسلحين" يذهب الشاعر والقاص مازن معروف في مجموعته الجديدة إلى مساحة جديدة تمامًا في اللعب، الغرابة والفانتازيا والعنف هي مفتاحها، هنالك عالم يبدو بعيدًا عن الواقع لكنه في الحقيقة يعيد تركيبه، ويضيف إليه عناصر ملونة جديدة، كأنها التقاء العالم بالكارتون.

هذه "الكارتونية" قاتمة في كثير من تفاصيلها، دونما استدعاء ملحمة مفتعلة. الحياة بمعناها الواسع، بقدرتها على إثارة الخيال، وتفعيل عناصرها الهامشية، "الكلب الحارس للمنزل الذي أقطن إحدى غرفه في الألب، أعمى. هو تقريباً كذلك. ثمة درنة في عينه اليسرى، بلون الجفن، وهي تتدلى إلى الخارج بشكل ملحوظ، كما لو أنها دمعة ضخمة، ويمكنك أن ترى من خلالها بعض الشرايين الصغيرة التي تنبض. لكن الدرنة تؤثر على كلتا عينيه، ولن يفيد استئصالها. الكلب في طريقه إلى فقدان البصر كلياً. والمسألة مسألة أيام. كما أنه عجوز. وبالكاد يستطيع النهوض حين يقترب المرء منه. لكنه يبذل جهداً، جهداً كبيراً بالفعل في كل مرّة. ولا يفلح في أن يقف إلا بعد أن تكون قد فركت وبره على سبيل الشفقة، وتجاوزته، وأوشكت أن تدخل باب المنزل الرئيس. عندها، تلتفت نحوه وأنت توشك على إغلاق الباب، فيسدد لك تلك النظرة التي تقول "لا تتركني هنا" أو "اصطحبني معك إلى داخل المنزل" أو حتى "خبئني في غرفتك". نظرة بأكثر من معنى. ولا تعرف بالتحديد مغزاها. كنظرات الكلاب جميعها. أعني، تلك الكلاب التي ترى بشكل سليم. وتقفز وتعوي وتلاعب الأطفال. لكن؛ لا أطفال هنا. أنا أصغر المستأجرين. أصغر سناً حتى من الكلب نفسه. لذلك فإنه يعاملني كطفل. يهز ذيله المنهك متظاهراً بأنه فرحٌ بكل ما أقدمه له، حتى ولو كان تفاحة مسلوقة".

هذه الأعمال استطاعت خلال العام الماضي أن تحقق المعادلة التي يتمناها الجميع، وهي تدل على أن الذوق العربي ليس "كارثيًا" كما يطيب لناعقي الخرائب الشكوى دائمًا. هنالك سوق كبيرة ومستهلكون، يكتسبون الخبرة في تمييز الأعمال الفنية والأدبية، وإلا لما اتسعت سوق النشر ولما زاد عدد دور النشر العربية التي تزيد باطراد ثابت، لأنها تلبي حاجة مستمرة في سوق جائعة إلى الجيد أيضا ليروج. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.