}

العربية في فضاء القاهرة العام: هوية على حرفٍ!

أحمد ندا أحمد ندا 27 يناير 2018
اجتماع العربية في فضاء القاهرة العام: هوية على حرفٍ!
الحرف العربي في فضاء القاهرة

كلُّ حديثٍ عن القاهرة هو ملحمة من التاريخ والاجتماع والآثار والحضارة، مراحل شكلت طبقات، كلُّ تعمّقٍ فيها هو بمثابة رحلة خاصة، مدينة حوَت في حدودها الجغرافية الممتدة على مدن وعلاقات وأحداث وتفاصيل يمكن للمتابع أن يعيش عمراً فوق عمر ولا يدركها تماماً. وعلى الرغم من إنهاكها وما يبدو من ترهلها اليوم، بعد نوائب سياسية وسكانية واقتصادية مرت عليها، إلا إنها مثل كل معتق ثمين قادرة على الاستمرار، جامعة هوياتها المعقدة والمتناقضة في آن، وفضائِها العام الغنّي بالتفاصيل والمغري بالدراسة.

تعريف الفضاء العام

بداية، يجب العودة إلى تحديد المفاهيم وأهمّها "الفضاء العام"، وهو المصطلح الذي تتقاطع فيه السياسة والعمران والأنثروبولوجيا والاجتماع. بحسب هابرماس، فإن الفضاء العام هو المساحة التي تعرِف تبادلات عقلانية ونقدية بين الذوات الفردية والجماعية. إنه ليس بنية "معيارية" متمايزة الاختصاصات والأدوار، إنه ليس مبنيّاً كنسق وهو يقبل بعض الحدود الداخلية ولكنه يتميز إزاء الخارج بآفاق مفتوحة متحركة ونافذة، ومن الممكن وصف الفضاء العام بشكل
أفضل كشبكة تمكِّن من نقل المضامين والمواقف المتخذة ومن ثم الآراء.



لا يختلف التعريف العمراني كثيراً عن تعريف هابرماس الاجتماعي السياسي، فهو الفراغ الذي ينتج عنه "إتاحة" للجميع، دون أن يكون في التفاعل معه تعدٍّ على ملكية خاصة، وعليه فإن كل ما يقع عليه البصر، في الاحتكاك اليومي، هو جزءٌ من الفضاء العام. هو المساحة التي يتحقق فيها الفعل السياسي، كما أنه الساحة التي تؤطر بعض سمات ما يسمى "المجتمع" في سيولته.

إن حضور اللغة في الفضاء العام هو حضور هوية وسلطة، لا تعتبر تمثيلاً لعلامات فحسب، بل هي إضاءة لطبيعة الوعي الذي يحرك المجتمع، فاللغة - بحسب باختين- ليست وسيطاً محايداً يتحول بحرية وسهولة إلى الملكية الخاصة لنوايا المتحدث، فهي مسكونة بشكل كثيف بنوايا الآخرين. إن مصادرتها وإجبارها على الخضوع لنيات المرء ولهجاته عملية صعبة ومعقدة.. وفي هذه المساحة نحاول سبر أغوار "نيّة" صُنّاع اللغة في الفضاء العام القاهري، وتقاطعاتها الثقافية والسلطوية، بالاستعانة بعددٍ من الأبحاث والكتب، أهمُّها "ديوان الخط العربي" للدكتور خالد عزب، و"لغة مقدسة وناس عاديون" لنيلوفر حائري، و"الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر" لوالتر أرمبروست، و"قاهرة إسماعيل" لسينثيا مينتي.

القاهرة على

مشارف التاريخ

إذا جاز لنا أن نتحدث عن تأسيس "علويّ ثانٍ" للقاهرة بعد محمد علي باشا، فسوف يكون بكل تأكيد لحفيده الخديوي إسماعيل (1830- 1895) الذي طمح في "خلق" قاهرة جديدة ليست على شاكلة قاهرة جدّه، الذي رغم طموحاته التوسعية، ظل والياً عثمانياً في مصر، وهو ما جعل "المظهر" العام للقاهرة متأثراً بما هو عليه الحال في الآستانة.

إسماعيل هو من قرر أن يجعل من اللغة العربية لغة رسمية للدواوين بدلاً من اللغة التركية. ولم يكن الغرض من إحياء اللغة العربية واستعمالها، إحياء الثقافة والتراث العربي، وإنما كان التخلص من المخلفات التركية بالقضاء على لغتها، إذ كانت سياسة إسماعيل تهدف إلى توسيع سلطاته في مصر، والتمكين له فيها بالحكم الذاتي الكامل، والتخلص من النفوذ التركي في شؤونها الخاصة، فركز جهوده على توهين علاقته بتركيا وإقصاء العنصر التركي عن الوظائف، واستخلاصها للمصريين من أبناء البلاد، وكان سبيله إلى ذلك تقرير اللغة العربية لغة رسمية للحكومة ليعجز غير أبناء العربية ويصعب عليهم السبيل إلى المناصب الرسمية.

أنشأ إسماعيل دار الكتب المصرية، وأعاد صحيفة الوقائع المصرية، وازدهرت الصحافة في عهده، وأعيد تخطيط المدن وتجمليها، وبنيت القصور الفخمة، ما يقارب الثلاثين قصراً، أشهرها قصر "عابدين" الذي اتخذه مقراً للحكم بدلاً من القلعة.

حوّل مجرى النيل في وسط القاهرة، وأنشأ كوبري قصر النيل وعدداً من الميادين والشوارع المهمة في القاهرة، وشهد عصره إتمام حفر قناة السويس، واحتفل بافتتاحها سنة 1869، احتفالاً باهراً، حيث دعا إلى الحفل ملوك أوروبا، وأنفق عليه ببذخ شديد، وبمناسبة هذا الحفل أنشأ دار الأوبرا، وحديقة الأزبكية، واختط شارع الهرم، وأنشأ سككاً حديدية، وشيد مدينة الإسماعيلية.. ما بقي من تفاصيل معلومة تاريخياً، من تدخل الوصاية الأجنبية على مصر، وعزل إسماعيل وتولية ابنه الخديوي توفيق.

ما يعنينا هنا هو دخول "العنصر الأوروبي" على الفضاء العام المصري، بعد هيمنة ثقافات شرقية آخرها التركية، التي أثرت على مسارات حضور الحرف العربي في الفضاء العام.

اللغة بين الأصالة والمحتل

عموماً شهدت الفترة من بداية حكم إسماعيل حتى عباس حلمي الثاني، تيارين متزامنين ومتلاحقين أثرا على الخط العربي بشكل كبير.

التيار الأول شهده عصر الخديوي إسماعيل نتيجة رغبته أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، وأن يخرجها من دائرة بلاد الشرق وقارة أفريقيا، إلى مصاف الدول الأوروبية، وهو "التيار الغربي"، فأمر بتعديل شوارع القاهرة وتوسيعها ليدخل الهواء والشمس إلى المنازل، وصارت القاهرة ذات وجه جديد فأزال عنها المسحة المشرقية التي كانت عليها كباقي مدن الشرق في ذلك الوقت، وأصبحت مصر تضاهي مدن أوروبا.

بدأ كل ذلك بعدما زار إسماعيل باريس سنة 1867، وشاهد التخطيط الذي وضعه "أوسمان"، وقام بمقابلته وطلب منه وضع تخطيط جديد لمدينة القاهرة. جاء أوسمان - ووفود أوروبية- تحمل تراثها وثقافتها، وسارع إليها إسماعيل باعتبارها مظهراً من مظاهر المدنية الأوروبية، فكان الاهتمام بالشكل المعماري وطرازه وأعمدته، وليس هناك مغزى حقيقي لذلك، أو وظيفة أو حتى غرض محدد منه، فأصبحت العمارة بالتالي تفاصيل مأخوذة من الطرز المعمارية المختلفة حتى صار في مصر طراز يُطلق عليه "الطراز التلقيطي" لأنه حوى على عناصر من طرز متنوعة دون الارتكان إلى معلم معين له ودون شخصية مميزة، وهذه التفاصيل يختارها المعماري تبعاً لهواه، أو تحقيقاً لرغبة المالك، ويكسو بها المباني كأنها أقنعة مستعارة.

تسبب هذا كله في تواجد عدد كبير من الطرز الأوروبية في مصر، ظهرت كلها في وقت واحد. ومثلما كانت العمارة الرومية التي أوجدها محمد علي أحد المتنفّسات التي خرج منها الخط العربي وازدهر بسببها، كانت العمارة الغربية التي لا تستطيع استيعاب الحرف العربي كأحد مكونات الزخرفة، من الأمور التي أضرت بالخط العربي في تلك الفترة.

اللافت والمفارق أيضاً أن الدول الأوروبية هي من وعت أضرار مشروع إسماعيل التحديثي على التراث المعماري الهائل في القاهرة، فأنشِئ في 18 ديسمبر 1881 قانون قضى بتشكيل لجنة "حفظ الآثار العربية القديمة" تحت رئاسة ناظر عموم الأوقاف، وكان من المهام الأساسية للجنة حسب نص القانون "ملاحظة صيانة الآثار العربية وإخبار نظارة الأوقاف بالإصلاحات والمرمَّات المقتضى إجراؤها".

في هذه المرحلة، مع مدخلاتها المتناقضة، كان "الحرف العربي" يشهد للمرة الأولى في تاريخه مدخلاً جديداً "لاتينياً"، كما يبدو في محال وسط القاهرة، التي زاوجت بين العربية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وغيرها من الجاليات التي قررت أن تستوطن "باريس الشرق" المدينة الحديثة التي بناها إسماعيل، وتؤسس تجارتها في هذه المدينة.

الاحتلال وصراع الهويّات

لكن الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882، غير كل شيء في كل المجالات؛ فلم تقتصر المشكلة على الفوضى اللغوية القائمة من قبل، والطرز المعمارية المنتحلة.

وهنا نأتي لواحدٍ من أسباب سيطرة الحرف العربي على المجال العام المصري في هذه الحقبة من القرن التاسع عشر، وهو الصحف. حيث لم يمنع الاستعمار البريطاني المصريين من الكتابة بلغتهم الأم، ولا فرض اختيار العربية الفصحى بشكل مباشر، فقبل استيلاء البريطانيين على مصر كان المكتوب بالعربية قد زاد بشكل هائل، وتضاعفت أعداد الجرائد قبل الحكم الاستعماري وفي أثنائه. وتذكر إحدى الدراسات أن سنة 1899 شهدت وجود 168 جريدة، عدد ضئيل منها بلغات أجنبية، لا يتجاوز 7%. وتظهر المقارنة بين عدد الكتب المنشورة في القرن التاسع عشر بتلك المنشورة في عقوده الأخيرة الزيادة الكبيرة في نشاط الكتابة بالعربية: في عشرينيات القرن التاسع عشر نُشر 105 كتب باللغة العربية، وفي الثلاثينيات نُشر 358 كتاباً، وفي التسعينيات نُشر 2086 كتاباً باللغة العربية.

هكذا لم تغب العربية عن واحدة من مجالات السيطرة على الفضاء العام، وهي الصحف والكتب، أما اللغة الأجنبية فقد واجهت مصيراً آخر، حيث اشتعلت المنافسة بين اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية، والأخيرة كانت تعتبر لغة الثقافة والاقتصاد في مصر، بعد البعثات الدراسية التي أرسلها محمد علي ثم إسماعيل إلى فرنسا. بيد أنه لم تقيض للغة الإنجليزية الغلبة على منافسيها عملياً رغم ما توافر لها من جهود.

ونظراً لكون اللغة التركية اللغة الرسمية للدولة في الولايات العثمانية، فقد بُدِئ بتدريس اللغة التركية في بعض المدارس في هذه الولايات العثمانية ومن ضمنها مصر. وصحب ذلك نشر كتب تعليم اللغة التركية مثل كتاب "النخبة الزكية في اللغة التركية" لمؤلفه مختار أفندي مختار ناظر المدرسة المنية، الذي طبع بمطبعة جمعية الفنون في بيروت، وبعد مرور عشر سنوات قررت وزارة المعارف المصرية تشكيل لجنة لتغيير الكتاب، ونتيجة لهذه الجهود صدر كتاب "نخبة الأنجاب" وقد طبع الكتاب بمطبعة المدارس الملكية بالقاهرة سنة 1877، وذكر المؤلف في المقدمة "فهذه رسالة صغيرة في تعليم اللغة التركية للمكاتب الأهلية والمدارس الملكية".. واختتم الكتاب بإهدائه "إلى سعادة خديوي مصر إسماعيل باشا". ولأن اللغة التركية كانت تكتب بالرسم العربي، فللمفارقة أيضاً شجعت "رسميتها" هيمنة الحرف العربي على الفضاء العام. وراجت اللغة التركية على شواهد قبور الأسرة العلوية والطبقة الحاكمة، وفي لافتات بيوتهم.


لذلك أصبح تعريب التعليم مطلباً أساسياً من مطالب الحركة الوطنية بعد ذلك، وحققت الدعوة إلى التعريب بعض النجاح فبدأ منذ سنة 1907، تعريب التعليم في مدرسة الفنون والصنائع ومدرسة الزراعة، وبدأ التعريب في مدرسة الحقوق سنة 1910، وبدأ التعليم التجاري عربياً، وتأخر تعريب التعليم في مدرستي المعلمين والمعلمات إلى ما بعد ثورة 1919، وفشلت الدعوة إلى التعريب في مدارس المهندسخانة، والطب والصيدلة، والطب البيطري.

وظهرت تيارات تحرّم التصوير والتماثيل، فظهرت فتوى للإمام محمد عبده أصدرها سنة 1901، بيّن فيها بعض الغامض، تحت عنوان "الصور والتماثيل وفوائدها وحكمها"، وجاء فيها "إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر وضبطه وتدوينه، والمبالغة في تحريره - خصوصاً شعر الجاهلية- وما عني الأوائل- رحمهم الله- بجمعه وتحريره، أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم ضربٌ من الشعر الذي يُرى ولا يُسمع، والشعر ضربٌ من الرسم الذي يُسمع ولا يُرى". كانت فتوى عبده بمثابة الشرارة التي جعلت الميادين المصرية مزدانة بالتماثيل، وقواعدها تزاوج بين عربية منقوشة بيد أمهر خطاطي هذه المرحلة، وأجنبية (إنجليزية أو فرنسية)، كانتا تسيران كتفاً بكتف في قواعد التماثيل.

حمّى التعريب

نظراً لكون اللغة التركية كما أسلفنا تمثل ثقافة الطبقة الحاكمة، وهي اللغة الرسمية للدولة العثمانية في الولايات الخاضعة تحت سيطرتها، وهو ما ظهر بشكل واضح في استخدامها لغة المخاطبات الرسمية في دوائر مختلفة، فقد استتبع ذلك استخدام مجموعة من الخطوط التركية (الرقعة، الديواني، سياقت)، كما كانت لغة مخاطبة الأسرة العلوية التي كان الكثير من أفرادها لا يتقنون اللغة العربية أصلاً. وقلّت حدّة استخدام اللغة التركية بعد عزل عباس حلمي، وتعيين حسين كامل سلطاناً على مصر، وأصبحت مصر مستقلة لا تتبع الدولة العثمانية، ولا يمكننا أن نقول إنها اختفت في دوائر العلاقات التركية في مصر، خصوصاً وهي تعطي دلالة على الأصل التركي الحاكم.

ظهرت الكتابة العربية كلغة موازية على العديد من مباني الدولة المختلفة، والنص الموازي لم يكن للغة واحدة فقط، وإنما تعددت صوره، لا في مجرد محال وسط القاهرة.. ، منها مثلاً نقش المستشفى القبطي بالقاهرة.

احتلال العربية للفضاء العام تجلى أكثر ما تجلى في ميل الأسرة الحاكمة نحو ترميم وتوسعة مساجد الأولياء، مثل إجراءات توسعة مسجد الرفاعي في عهد إسماعيل والسيدة زينب في عهد توفيق. لكن أكبر التوسعات شهدها عصر عباس حلمي الثاني، حيث جدد مسجد السيدة نفيسة، والسيدة سكينة، والسيدة عائشة بالقاهرة، وأكمل مسجد الرفاعي بالقاهرة، وقد ظهر الخط العربي جلياً بكتابات مجوَّدة على تلك العمائر، وبخطوط كبار الخطاطين في تلك الفترة.

آثار المعركة على
الفضاء العام

كان أثر الاتجاه الغربي الذي اتبعه إسماعيل بعيد المدى، فبداية باختياره شعاراً كتابياً يقوم تصميمه على حروف لاتينية (وهو المتاح على المراسم الخديوية)، والآخر يتعلق بالعمارة وتطوير شكل القاهرة. وعلى الرغم من تلك الصورة إلا إن الحرف العربي لم يتأثر التأثر البالغ الذي يمكن معه أن نسميه تراجعاً عن مستواه المتقدم، فقد استكمل إسماعيل سياسة الاستجلاب التي بدأها محمد علي باشا، وأحضر واحداً من أهم خطاطي العصر الحديث الذي استطاع أن يترك أثراً حقيقياً في حياة كل من تعلم وأحب هذا الفن في مصر وهو عبد الله الزهدي.


لكنّ العصر الذهبي للحرف العربي في الفضاء العام المصري في عهد الأسرة العلوية، كان بحق عصر الملك فؤاد الأول، ففي الوقت الذي كان فيه الرسم العربي يلقى حرباً في تركيا على يد كمال أتاتورك، كانت مصر تستقبل نهضة واسعة فيه على يد الملك فؤاد الأول ملك مصر، الذي كان محبّاً للفنون، وأسس مجمع اللغة العربية.

كان الملك فؤاد راغباً في أن يكتب له أكبر الخطاطين مصحفاً، فاستقدم من تركيا الشيخ عبد العزيز الرفاعي سنة 1921، الذي كتب له المصحف في 6 أشهر، وذهّبه وزخرفه في 8 أشهر. كما أمر الملك بفتح مدرسة خاصة لتعليم الخط العربي سنة 1922، وانتظم فيها مئات الطلاب، وقد تخرجت أول دفعة في المدرسة سنة 1925، وكان لهذه المدرسة الفضل في تخرج رواد فن الخط العربي في مصر في القرن العشرين، ويعود لعهد الملك فؤاد الأول الفضل في نشوء عدد من المؤسسات الثقافية التي أكسبت مصر السبق في الثقافة العربية في المنطقة.

استبدل أتاتورك الحروف العربية باللاتينية، الأمر الذي أضر بالخط العربي هناك، فأصبحت مدرسة الخط المصرية محط أنظار الكثير من الخطاطين الذين لم يكن لهم مكان في منظومة الحكم التركية الجديدة. كانت أحلام فؤاد أن يملأ الفراغ التركي منذ سقوط الخلافة سنة 1923، وهو ما جعله ينشئ العديد من المؤسسات الثقافية، لإبراز هوية مغايرة للهوية الأتاتوركية، طمعاً في خلافةٍ لم تأتِ. لكن طموحاته أعطت للحرف العربي رونقاً جديداً في الفضاء العام، بل وبدأ حضور اللغة الأجنبية يبهت مع زهوة الخط العربي في لافتات المحال متنوعة الخطوط، والوزارات والهيئات الحكومية.  

القوميّة العربيّة

لا جديد يمكن أن يذكر في حقبة فاروق أكثر من وصفها بأنها امتداد لمرحلة أبيه الملك فؤاد، حتى انقلاب يوليو 1952، الذي قام به جمال عبد الناصر وصحبه، ما شهد معه "صعوداً" رسمياً للقومية العربية كنواة صلبة للخطاب الناصري في ذلك الوقت. أزال عبد الناصر اللغة الإنجليزية من لغات الدولة الرسمية وصارت الفصحى منفردة. لم يُضف شيء جديد في الفضاء العام أكثر من قلة الاهتمام بتنوع الخطوط وزخرفتها كما في العصر الملكي. وكأن الرسم العربي انعكاس لطبيعة العمران في هذه الحقبة. فعبد الناصر لم يهتم باستيراد طرز معمارية جمالية إلى مصر، واكتفى تماماً بما يُدعى بالعمارة الوحشية وهي نمط معماري هيمن على الدول الشيوعية، وانتقل إلى مصر، ويعتمد على تكرار نمط استغلال المساحة إلى حدودها القصوى من دون الانشغال بأي قيم جمالية.

كما أنه لم يُعن بجماليات العمران بقدر ما عني بعمليته، فتحول الحرف العربي من مساحة للإبداع إلى وسيلة عملية تنحصر في خطَّي "الرقعة والنسخ"، ويظهر ذلك جلياً في أشكال الصحف المصرية وإعلاناتها بل ولافتات كل شيء في الحقبة الناصرية، غير أن العربية تسيدت تماماً، حتى أن الأسماء التجارية لأشهر الماركات العالمية عُربت ووجدت تصاميم مقابلة لأصلها الأجنبي. وشهدت الحقبة الناصرية أيضاً مكوناً جديداً مهماً هو "التلفزيون" الذي شهد هيمنة تامة للحرف العربي منذ تأسيسه عام 1960.

حرب التحرير من "الهويّة"؟!

بعد حرب أكتوبر 1973، انفتحت مصر على الغرب وأعطت ظهرها للمعسكر الشرقي بكل آثاره المعمارية والمشهدية. كما بدأت قبضة الخطاب القومي العربي في الارتخاء في مقابل البحث عن هويّة "قُطرية" لمصر، وهو ما شهد انفتاحاً على نماذج وطرز معمارية أكثر حداثة غير معنية فقط بجانبها العملي، وبدأت تتسيد النماذج العمرانية الليبرالية. الشاهد هنا أن التغيرات الأيديولوجية أثرت على العمران، وبالتالي على تسيد الحرف العربي، بعد أن بدأت تتسلل الحروف اللاتينية في عصر الانفتاح إلى الشاشات، ولافتات المحال التي تتزين بنقل أسماء الماركات والبراندات العالمية لواجهاتها كما هي، من دون حاجة إلى ترجمتها إلى العربية.

بدأت مساحة الحرف اللاتيني في الزيادة منذ منتصف فترة السادات وطوال فترة حكم حسني مبارك، لا باعتبارها تعبيراً عن النمط الاستهلاكي الجديد فحسب، بل أيضًا عن تغير طبيعة الهيمنة الثقافية، وتراجع الحرف العربي.

العناية أيضاً بزخرفة الحرف العربي وجمالياته تضاءلت تماماً، مع دخول العنصر التقني على رسم الحروف، فقلّت الحاجة إلى الخط العربي مع وجود البديل الإلكتروني المتاح والأسهل.

لكن القاهرة شهدت تغيراً بنيوياً كبيراً منذ سنة 2005، كان نواة الحراك السياسي التي أنتج ثورة 25 يناير وما بعدها، وهنا صار للحرف العربي موقعٌ شديدٌ الاختلاف والجدل، وهو ما يحتاج تفصيلاً منفصلاً.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.