}

"ألم ومجد": ألمودوفار يتطلّع للحياة من شرفة الشيخوخة

أحمد عبد اللطيف 3 أكتوبر 2019
سينما "ألم ومجد": ألمودوفار يتطلّع للحياة من شرفة الشيخوخة
ألمودوفار ينطلق من الجمالية كهدف سينمائي في حدّ ذاته
يعود بدرو ألمودوفار، المخرج الإسباني، إلى نفسه في فيلمه الجديد "ألم ومجد" أكثر من أي عمل آخر. سلفادور مايو، بطل الفيلم الذي يؤديه أنطونيو بانديراس، هو صورة المخرج نفسه، ليس فقط باعتباره البطل الذي يجسد ألمه وحنينه ورؤيته للعالم، إنما أيضاً لأنه يجسد تاريخ ألمودوفار، ماضيه وبداياته وحاضره الذي لا يتطلع إلى مستقبل. حاضر يطل على الماضي من لحظات الغروب، من ثنايا المرض الذي يهاجم الجسد.

ينطلق "ألم ومجد" من لحظة الغروب هذه، ومن النهاية يتأمل البداية، بداية حياته ذاتها: الطفولة. كل ما حدث له من نجاحات كمخرج صنع أفلاماً وحظي بشهرة كبيرة حتى ظن الجميع أنه لن يتقاعد أبداً، لم يكن بالنسبة لسلفادور مايو شيئاً ذا قيمة لتذكره أو استرجاعه. القيمة كانت هناك، في الزمن البعيد، حيث التعرف على الأشياء للمرة الأولى، حيث الالتصاق بالأم، حيث الشعور بغياب الأب، حيث التعرف على الجسد، والتمرد الأول على الدراسة الدينية ليرسم كاهناً، واكتشاف الفن بين طبقات صوته. هنا تأتي المشاهد الأقوى في الفيلم: إسبانيا الفرانكوية ومعاناة الناس، التعليم الديني كوسيلة وحيدة للتعليم ليس أمام الفقراء إلا اقتناصه أو المعاناة في الفقر، عدم القدرة على العيش في بيت والاضطرار للحياة داخل كهف لا يمت للحياة الإنسانية بصلة. لكن الكهف يدخله الشمس، قريب من البحر ببالنثيا الساحلية، يمكن طلاؤه ووضع مطبخ فيه، ويمكن للسيدات حمل الملابس إلى البحر وغسلها هناك ونشرها في الشمس. هذا ما تفعله الأم، الأم العظيمة التي تقوم بدورها بينيلوبي كروز، الأم التي "تغزل برجل حمارة" من اللاشيء لتضمن لأسرتها، في أحلك ظروف الحياة، شيئاً من الحياة. كل هذه مشاهد متقطعة مثل الذاكرة. لا يهتم ألمودوفار إلا بتفاصيل الحياة الصغيرة التي تترك علاماتها في التكوين، ومشاهد الطفولة، رغم أنها لا تشير من قريب أو بعيد إلى الفرانكوية، إلا أنها تقع في فترته الزمنية وسياقه السياسي. وما بين براءة الطفل الفنان وقسوة الحياة، مع تقبّل هذه القسوة وعدم الشكوى منها، يتكوّن الكولاج السينمائي.
في البُعد الآخر للفيلم، حيث المخرج سلفادور مايو يتحرك في حاضره، ثمة عزلة كبيرة وزهد في الحياة، آمال بسيطة ليست بطموح شفاء الجسد وإنما السيطرة على الألم. تتأرجح حياته بين الأدوية والقراءة والخروج قليلاً، ويتركز تفكيره على بؤرة الجسد المصاب، المعلول، لكن هذه الأطر يتخللها الماضي والذكرى. يعيش سلفادور حياة متألمة، بنوع من الشعور بالذنب تجاه الأم التي هجرها ليبني حياته كمخرج، وشعور بالذنب لأنه عجز عن تحقيق أمنيتها الأخيرة بإعادتها إلى قريتها الفقيرة لتموت بين ناسها. مع بداية الغروب، حاول المخرج/البطل استعادة ما يمكن من الزمن الماضي، فكانت استعادته لأمه، لكنها استعادة لن تدوم طويلاً، إذ غروبها هي نفسها كان قد أتى، وأيامها في الحياة صارت معدودة. لم يشف سلفادور من موت أمه بعد أربعة أعوام من رحيلها، ولم يشف من الأمراض التي هاجمت جسده بعد عامين من نفس الرحيل. غير أن آلاماً أخرى كانت أشد، آلام روحه التي لا تهدأ.

بارقة أمل

يسلط الفيلم الضوء على بارقة أمل تعيده إلى الحياة، رغم أنه يقول إن الإخراج يحتاج إلى مجهود جسدي، فيما صار جسده عاجزاً. الفرصة كانت لقاءً مفتوحاً مع جمهوره لمناقشة فيلمه الأول بعد سنوات طويلة من عرضه. لن يحضر اللقاء في النهاية، لكنه سيعيد علاقته ببطل هذا الفيلم، بطل كان المخرج قد انتقده كثيراً لأدائه. وعبر هذا اللقاء ثمة جيبان سيفتحان في علاقة سلفادور بالعالم والمرض: الأول إدمانه للهيروين في محاولة لتحجيم الألم، والثاني تمثيل مونودرامي لأحد النصوص الذاتية التي كتبها. هنا تتقاطع حياة البطل المخرج مع المخرج ذاته، سلفادور وألمودوفار، كل منهما يكتب نصوص أفلامه، وكل منهما أدرك في لحظة الغروب الحاجة إلى السينما الذاتية، السينما التي تتغذى على حياة المخرج. أثناء ذلك، وبشكل عابر، وبعبارات قليلة، وبأقل عدد ممكن من المشاهد، يشير ألمودوفار إلى إحدى أهم أزمات البطل: مثليته الجنسية، إذ صار شخصاً غير الذي كانت تحب أمه أن يكون عليه، وإذ تعرض لهجران من حبيب قديم. كيف تعايش مع هذا الجسد المرفوض؟ تجاوز الفيلم هذه التفاصيل، كتب سطراً وترك سطوراً بيضاء، ليركز في النهاية على مرحلتين: الحاضر والماضي البعيد. لعل هذه أهم مزايا الفيلم، قدرته على الحذف والتجاوز، كأن المخرج قد قرر من البداية التركيز على معاني الحنين والألم بالذات، فكانت كل الموضوعات الفرعية مجرد خادمات لهذا الهدف.


الألم الجسدي
يصنع ألمودوفار من الألم الجسدي جمالاً، كما يصنع من فقر الطفولة صورة تشبه اللوحات، ملونة ومرسومة بدقة. الألم يستدعي رقة القلب، مواجهة الإنسان لضعفه تساعده على تجاوز

الأنانية والغرور، ليبلغ نقطة هامة في إدراك العالم ومعرفة الذات. يتكئ المخرج على فلسفة منجزها أن الضعف الجسدي يصاحبه سمو روحي، وبالتالي فالاقتراب من الموت (والموت ذاته) يؤدي إلى الوصول لقمة هذا السمو، وهناك، حيث تتساوى كل أهداف الحياة، يبدو البطل خفيفاً كطائر، بلا أثقال، زاهداً قد تخلى عن الطموح والتطلع. ولأن المخرج ينطلق من الجمالية كهدف سينمائي في حد ذاته، تسلطت كاميرته على مناظر البحر والكهف والنسوة الجميلات، مرفقة بموسيقى وأغانٍ مبهجة رغم كل شيء. يمكن أن نقول إنه سعى لخلق حالة سينمائية أكثر من صنع فيلم له حبكة محكمة ملأى بالحكايات عن أبطاله. فيلم ناعم، تنتقل مشاهده من الرؤية إلى الحواس مباشرة، حتى أنك بمجرد مشاهدته تشعر بحالة من الأسى والشجن الجميل لكن بدون أن تتمكن من حكي خيوطه الدرامية وحبكته المتطورة، إذ تقوم فلسفة الفيلم على لعبة زمنية وصراع مستمر بين زمنين، كل منهما يمكن تلخيصه في عدة مشاهد، وكأننا كبشر، مثل المخرج بطل الفيلم، نتكوّن في العمق من هذه المشاهد، لسنا كياناً واحداً متماسكاً بقدر ما نحن قطع فسيفساء باكتمالها تكتمل الصورة، والنقصان وارد فيها. من هنا يأتي شعور بأن الفيلم ينقصه شيء. هو بالفعل ينقصه شيء اختار ألمودوفار أن يكمله المشاهد بخياله، أن يجمع هذه القطع المتناثرة من الفسيفساء ليكوّن فيلمه الخاص. يشبه الفيلم نصاً أدبياً لا يسعى للكمال بقدر سعيه للتأثير، تأثير عبر سردية قوامها الحوار وتنقلات الكاميرا وتعبيرات وجه الأبطال، ولعل طريقة مشي أنطونيو بانديراس (سلفادور مايو) أحد أسلحة هذا التأثير، فالشكل الخارجي هو التجسيد المثالي للألم والحنين وتوديع المجد.
يتخلى بدرو ألمودوفار، الذي احتفل بعامه السبعين منذ أيام، عن تقديم الحكمة في رسائل مضمنة في فيلمه، ليس لديه تصور جاهز عن الحياة يروم لإثباته عبر عمل سينمائي. يتطور العمل من نقطة الغروب البعيدة لتتكوّن الحكمة على مهل، نابعة من الأحداث ذاتها، فالبداية تحدد لنا الطريق، نحن لسنا إلا ذكرياتنا، الذاكرة انتقائية وتعرف ماذا تريد أكثر منا، ليس بوسع أحد التحكم في ذاكرته بل ولا حتى فهم كيفية عملها، والأخطاء البشرية لها ثمنها حتى لو لم يقتص منا أحد، فالزمن قادر على القصاص عبر الشعور بالذنب. وعظمة ألمودوفار تبقى هنا: في المرور دون التوقف، في العبور الوقتي والطارئ، في التأمل ليس في الحدث بل فيما يليه، في الأثر. وفي الأثر يتأمل المشاهد عقب الفيلم، ربما ذلك غرض المخرج، أن يتكرر الفيلم تلقائياً في ذهن المشاهدين بعد انتهائه، ليكوّن كل منهم مشاهده بترتيب آخر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.