}

فيلم "المؤلف": ورش الكتابة لا تخلق كاتبًا

أحمد عبد اللطيف 10 سبتمبر 2018
سينما فيلم "المؤلف": ورش الكتابة لا تخلق كاتبًا
ملصق الفيلم

هل يمكن أن تخلق ورش الكتابة كاتبًا؟ هذا السؤال الذي تطرحه صفحات الثقافة بالجرائد، والذي يدور في الغرف المغلقة للكُتّاب المتحققين، التقطه الروائي الإسباني الشهير خابيير ثيركاس ليعالجه في روايته "الموبايل"، ليطرح سؤالًا حول الكاتب المأزوم، أو بالأدق الطامح إلى أن يكون كاتبًا.

لكن السؤال لم يتوقف عند الرواية، إذ التقطه المخرج مانويل مارتين كوينكا في فيلمه El autor "المؤلف" (الذي تُرجم للإنكليزية بعنوان The motive)  ليصنع فيلمًا لافتًا، استطاع من خلاله أن يجسّد مأساة كاتب بلا خيال، وتزييف عالم ورش الكتابة، وأن يُنطِق شخصياته، سواء المدرّب في الورشة أو من يتطلع للكتابة، بعبارات شديدة الدلالة وبأسئلة تخرج من قلب الكتابة ذاتها، حول الواقع والفن والمسافة بينهما، حول البحث عن الصوت الخاص، حول كيف يمكن، أو لا، أن يستغل الفن الأشخاص العاديين ليصنع منهم أبطالًا. وبشكل ما، كانت هذه طريقة المخرج نفسه في خلق فيلمه، إذ اختار محاميًا يعمل في مكتب كاتب عدل، ومدرّبًا لم يحقق نجاحًا في عالم الكتابة، وممثلة كاتبة كل مجدها أنها صارت أفضل ممثلة في مدينتها عبر علاقة مع مخرج يمنح هذه الجوائز، وهي نفسها كاتبة لكتاب بست سيلر حقق مبيعات غير أنه لم يبلغ القيمة. أما بقية الشخصيات الفرعية فهم أشخاص عاديون نالهم ما نالهم من الإحباط: سيدة كبيرة هي مغنية محبطة تتفرغ لرئاسة اتحاد ملاك العمارة، وعسكري سابق، وزوجان من المهاجرين المكسيكيين يعانيان ما يعانيه أي مهاجر في وسط الأزمة الاقتصادية.

بهذه المروحة من الشخصيات القليلة، التي تقوم بأدوار ثانوية بجوار البطل نفسه، صنع المخرج فيلمه. وبهذه الشخصيات القليلة والمتنوعة، صنع البطل (المؤلف) شخصيات روايته الأولى التي أصر القدر/المصير/ الحياة على أن تضع نهايتها.

نحن أمام فيلم يتناول ورش الكتابة ليسخر منها، ويتناول أزمة "من يريد أن يخلق من نفسه كاتبًا" ليسخر منه، من دون أن يصرح بذلك على الإطلاق، لكنه يحمله حتى النهاية المنتظرة. إنه فيلم يعالج الأوهام، أوهام الفن، ليضع حدًا فاصلًا بين أن تكون محبًا للكتابة وأن تكون كاتبًا بالفعل. وفي الوقت الذي يطلق فيه أحكامه حول كيف يمكن أن تكون كاتبًا، يقوّض بنفس الذريعة هذه الطرق.

ينطلق الفيلم من مشهد مجازي، رغم أن الفيلم يعادي المجاز وينتصر للواقعية تماهيًا مع مضمونه، حيث البطاريق كلها تسير في طريق واحد، فيما يخرج بطريق منفردًا ويتوجه صوب الجبل. إنه الكاتب الذي يخرج عن القطيع، وهي أولى صفات الكاتب لكي يكون كاتبًا. بهذه البداية، التي جاءت في شاشة عرض داخل ورشة كتابة، تُسلَط الكاميرا على البطل الجالس في صالة العرض وهو متأثر ويدمّع. إشارة أولى لشغف البطل بالكتابة، شغف لن يعني بعد ذلك أنه يمتلك الموهبة، حتى لو سار وحيدًا مثل بطريق.

ما الكتابة؟ كيف تخلق شخصيات؟ من أين تستلهم الأحداث؟ هذه أسئلة جوهرية داخل الورشة، يجيب عنها المدرّب بـ "الواقع"، الحدث يجب أن يكون واقعيًا، الشخصيات من لحم ودم، تصوير الواقع الاجتماعي هو الرواية، لا مجال، إذًا، بالنسبة للمدرّب، للتأليف أو التخييل، الكاتب بالنسبة له مجرد حكّاء للواقع، مجرد ناسخ، عين كاميرا متجولة، وليس عليه إلا أن يجد صوته الخاص ليعبّر عن هذا الواقع، لكن الصوت الخاص نفسه لا يجب أن يكون فارقًا، إنما أن يتتبع تسلسل الأحداث في نفس الواقع. لكن، لكي يجد الكاتب صوته الخاص ككاتب، يجب أن يعرف لماذا يحدث الحدث ولماذا الآن، وبنفس منطق المدرّب يطوّر المخرج الحدث: خيانة زوجية ستدفع البطل لحكاية الواقع، وبانتقاله لبيت جديد يقرر أن يكون سكان البناية هم أبطال روايته.

تنطلق رواية الكاتب، إذًا، من بناية سكنية تقع في مدينة إشبيلية، يسكنها أشخاص متنافرون: العسكري السابق يعاني الوحدة بعد موت صديقه الذي كان يرافقه لعب الشطرنج، والمطربة العجوز المحبطة وحيدة بعد أن هجرها زوجها، والمهاجران المكسيكيان يعانيان من تهديد الطرد من العمل. شخصيات مثالية لحكاية رواية واقعية اجتماعية: شخصيات محددة أحادية الجانب، لا يشغلها شيء أبعد من اللحظة. أما زمان الحدث فهو "الآن". وفي هذه التركيبة يجد المبرر الفني لحكايته. من هنا تبدأ "رواية" البطل لتندمج في "فيلم" المخرج، هنا يعمل الميتافيكشن السينمائي لتختلط الحكايتان. التسجيل المباشر للواقع، التسجيل بمعناه الحقيقي بمعنى فتح الموبايل ووضعه على نافذة المطبخ لالتقاط حوارات العائلة المكسيكية، كان وسيلة "الروائي" للكتابة، تُضاف إليها وسيلة الاطلاع على حكايات السكان عبر رئيسة اتحاد الملاك أثناء بناء علاقة حميمية. الواقع المُشاهَد، ببساطة، يتحول إلى واقع مكتوب، من دون أن يمر بمجمرة الفن، والمباشرة هي سلاح "الروائي" لينجز عمله الذي خطط أن يكون "واقعية اجتماعية". أما المرجعية الروائية فهي همينغواي وكاميلو خوسيه ثيلا. وطريقة استدعاء الإلهام هي وضع الخصيتين على المنضدة، بحسب نصيحة المدرّب اتباعًا للكاتب الأميركي. بهذه البانوراما، يسير الفيلم في طريق "الباروي" أو المحاكاة الساخرة، فيما تسير الرواية في طريقها الجاد. صراع بين مخرج الفيلم وكاتب الرواية المنتظرة، سخرية مبطنة تجسّد ألم استدعاء الكتابة، ألم استخراج ماء من صحراء. "أنت لست كاتبًا"، عبارة تقولها زوجة الكاتب يمكن أن تلخص مأساته، وزيف أن تخلق كاتبًا من شخص بلا خيال ولا موهبة.

الخيال هو الذي كتب الواقع

الشخصيات المأزومة في الفيلم/الرواية تتجه نحو مصائر محتومة: الزوجان المكسيكيان يساقان إلى قتل العسكري السابق وسرقته، ورئيسة اتحاد الملاك تعود إلى عزلتها بعد هجر المؤلف لها، والروائي إلى السجن بعد اتهامه، بالباطل، أنه قاتل العسكري. لقد تحققت روايته في الواقع، هو من خطط لكل ذلك ليحرّك الشخصيات في البناية، ليصنع حدثًا، لكنه لم يتوقع النهاية، لأنه كاتب بلا خيال. بهذه النهاية، تقدم الحياة الحل إلى الروائي ليختم عمله الأول بخاتمة لم يكن يتوقعها، وإن كان يخطط لها، بمعنى أنه طورها في الواقع ودفعها حتى يستطيع أن ينسخها في روايته: الحدث يجب أن يحدث في الواقع ليكتبه، ليكون بذلك كاتبًا بحسب ما علّمه المدرب. بذلك قدّم له القدر خدمة لا تُنسى حين انتهت قصته بالسجن. نهاية غير تقليدية لكاتب تقليدي. الخيال هو الذي كتب الواقع.

لقد تخلى المخرج عن عناصر هامة في الحياة "الواقعية" ليؤكد على تماهيه مع رواية المؤلف، فغاب الحلم أو أي إشارة له، غاب التأمل والاستبطان والتحليل النفسي، غابت أسئلة المؤلف عن الحياة أو طرحه لسؤال فلسفي، بل وغابت حتى الذكريات. لينصب الفيلم، كما الرواية، في "الواقع الظاهر"، هذه القشرة الأولى التي لا تحمل إلا تصورات سطحية عن الإنسان وعن الشخصيات الفنية. من هنا يأتي نجاح الفيلم وتميزه: المخرج يتبنى تصور المؤلف والمدرّب ليمد الخيط على آخره: الواقع فقير، غير صالح لصنع الفن إلا بعد عبوره بتصورات جمالية والتعمق فيها.

نجح الفيلم أيضًا في موسيقاه وفي أغانيه، فجاءت الأغاني معبّرة عن حالة الوحدة التي عاشها البطل. بمعنى آخر، تميُّز الفيلم جاء من استخدام تقنيات فنية غير متحققة في الرواية لطبيعة كل فن. يمكن أن نقول إن المخرج صنع الفن الذي أراده في بداية الفيلم (قبل أن تبدأ الرواية) وفي نهايته (بعد نهاية الرواية) كأنه فتح قوسين، ومن خارجهما كان يسخر من مضمون فيلمه. ورش الكتابة التي قضى فيها البطل ثلاث سنوات لن تخلق كاتبًا، هي الرسالة ممررة عبر الأحداث.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.