}

مهرجان أفينيون 2018: "ثييستس"، عنف الانتقام وعمى السلطة

د. صبري حافظ 28 يوليه 2018
مسرح مهرجان أفينيون 2018: "ثييستس"، عنف الانتقام وعمى السلطة
من المهرجان

كان العمل الافتتاحي في دورة هذا العام لمهرجان أفينيون، والذي عرض في أكبر فضاءات المهرجان، وهي قاعة الشرف في القصر البابوي المنيف والتي تتسع لأكثر من ألفي مشاهد في كل عرض، هو مسرحية "ثييستس" Thyestes للكاتب الروماني الأشهر سينيكا Seneque كما يكتبه الفرنسيون، وSeneca كما يكتبه الانجليز. وهي من إخراج المخرج الفرنسي توماس جولي Thomas Jolly ومسرح العائلة الصغيرة La Piccola Familia. ولوسيوس سينيكا (4 ق.م – 65 م) هو أهم كتاب المسرح الروماني، كما أن "ثييستس" هي أبرز مسرحياته وأكثرها تأثيرا في الفن المسرحي من بعده، حيث يعتبرها الكثيرون أصل المآسي الانتقامية Revenge Tragedies التي سادت بعد ذلك في المسرح الإليزابيثي الانجليزي منذ توماس كيد و"المأساة الإسبانية" حتى تراجيديات شكسبير الانتقامية، وخاصة مسرحيته الشهيرة "تايتس أندرونيكس" التي تدين بالكثير لـ"ثييستس". وقد كان سينيكا من أشهر أعلام عصره، وكان معلم الإمبراطور نيرون وأحد مستشاريه في بداية عهده، لكنه سرعان ما غضب عليه، وأمره بإنهاء حياته.

ومسرحيته "ثييستس" من المسرحيات الرومانية التي تعتمد على موضوع إغريقي لأنها إعادة كتابة لمسرحية لم تصلنا ليوربيديس حول الموضوع نفسه. وتعتمد المسرحية على الأسطورة اليونانية التي تقول بأن بيلوبوس، ابن تانتالوس وملك آرجوس، قد نفى ولديه لقتلهما أخيهما غير الشقيق، وصب لعنته عليهما. وعندما مات الأب بيلوبوس عاد الابن آتريوس واستحوذ على عرش أبيه. لكن الابن الآخر ثييستس عاد وأعلن حقه في العرش، وأغوى زوجة أخيه، آيروب، وسرق بمساعدتها الكبش السحري ذي الجزة الذهبية من بين قطيع أخيه، والذي يمنح مالكه الحق في الحكم. وقد نفاه أخوه لما فعله، لكن نفيه له لم يعد السلام الداخلي لآتريوس الذي عذبه الشك في مدى نسبه أبنائه له أو لأخيه. وسرعان ما فكر في انتقام أكثر تأثيرا وفعالية من النفي، فاستدرج أخاه وادعى العفو عنه وصداقته، بل ونيته تقاسم الحكم معه، لكنه بيّت النية على أبشع صور الانتقام منه.

هنا تبدأ المسرحية، بفصل أول عنوانه تانتالوس، يحرص مخرج المسرحية على كتابة عنوانه على جدار حائط القصر البابوي المهيب، الذي جعله ظهارا فاعلا في المشهد بتوظيف الإضاءة عليه طوال العرض، وقد انفسح المسرح أمامها، وليس على فضائه الشاسع غير قناع ضخم مائل على جانبه بارتفاع أكثر من دورين من المبنى، لا يقل حجمه عن ثمانية أمتار في خمسة أمتار، في الناحية اليسرى من الخشبة قناع يومئ إلى حال مائل مختل؛ وقبضة يد ضخمة أيضا، ولكنها مرتبكة الأصابع في الناحية اليمنى، وكأنها كناية عن ارتباك السلطة القابضة على الأمر. ولا شيء بينهما غير المساحة الخالية، فضاء كبير يدور فيه العرض، في وسطه فتحة تشع بأضواء غامضة، وحركة رجرجة المياه في نوع من الإشارة إلى العالم السفلي، الذي سينبثق منه تانتالوس، وستحيط به بعد خروجه ربات النقمة الطالعات من ظلمات العالم السفلي.

وقد سعى المخرج إلى تقديم خروجه بمهارة من خلال إضاءة النوافذ الموزعة على حائط المشهد الخلفي بارتفاعه الشاهق ونوافذه الموزعة بطريقة غير سيمترية. لأن تانتالوس، الجد والأسطورة معا، هو من سيؤطر المسرحية، ليموضع كل أحداثها في قبضة اللعنة التاريخية التي تحكم حتميتها الدرامية كل شيء، خاصة وأنه يظهر هنا متبوعا بربات الغضب والنقمة. وليربط بين تلك اللعنة والوعي الجمعي بها من خلال الكورس الذي يسعى لدرء بعض أخطارها، أو للكشف عما تنطوي عليه من أوجاع. وقد حاول المخرج في نهاية هذا المشهد أن يجسد لنا اللعنة بطريقة شاعرية، ربما تعكس أهمية الشعر والشاعرية في مسرحية سينيكا، من خلال مطر من الفراشات الورقية السوداء انهمر من نوافذ حائط القصر البابوي على المسرح والجمهور على السواء.

أما الفصل الثاني والمعنون «آتريوس» فإننا نواجه فيه من البداية آتريوس وهو يشاور حراسه في خير طريقة لتحقيق انتقامه من أخيه ثييستس. لكنهم ينصحونه بأن يفعل ما يرى أنه الشيء الصحيح، كي تظل المسؤولية على عاتقه وحده، كما هي الحال مع البطل التراجيدي. هنا يقرر آتريوس المضي في تلك الخطة الرهيبة والصادمة لتحقيق انتقامه، ألا وهي قتل أبناء أخيه وطهيهم وإطعام أخيه من لحم أبنائه. فقد شككت خيانة الأخ آتريوس في بنوة أبنائه له، وهو الشك الذي يستحوذ عليه ويبلور قراره. وهو الأمر الذي تتدخل الجوقة لتعلن استهجانها لما قرره آتريوس، وتذكره بدور الحاكم الجيد، وما ينبغي على الملك أن يقوم به لتعزيز القيم السليمة.

أما الفصل الثالث والمعنون «ثييستس» فإنه يبدأ باستدعاء آتريوس لأخيه، عن طريق ابنه كي يعود إلى بلاده. ويعود ثييستس وإن كان لا يزال مترعا بالهواجس والظنون، غير واثق من هدف أخيه من وراء هذا الاستدعاء. لكن أخذ آتريوس لأبنائه كرهائن لا يترك له أي خيار. ويسعد آتريوس بنجاح خطته في الإيقاع بأخيه، ويوهمه بأنه قد صفح عنه. لكن الجوقة التي لا تعرف الكثير مما يضمره آتريوس سرعان ما تمتدح عودة الوئام الأخوي بينهما، وتثني على تبدد الكراهية بين الأخوين، في نوع من الهدوء الذي يسبق العاصفة. وقد استخدم المخرج بمهارة خيال أفراد الجوقة، وقد انعكس على الحوائط في نوع من اللعب بخيال الظل، وقد تحولت تلك الخيالات إلى أشباح تحوّم حول المشهد، وتنفث فيه الكثير من المخاوف.

وفي الفصل الرابع والمعنون بالشمس، والتي يحرص العرض على أن يكتبها بكل لغات العالم الممكنة على الخلفية، يدخل الرسول كي يصف لنا أهوال ما دار عادة خارج المسرح من فظائع، ليخبرنا بما فعله آتريوس، حيث قتل أبناء أخيه الثلاثة، واحتفظ برؤوسهم وأذرعهم، وطبخ لحمهم وقدمه وليمة لأبيهم. بينما تتجسد أمامنا وبطريقة صامتة في نوع من البانتومايم المترع بالدلالات، فصول الوليمة الرهيبة. وتلاحظ الجوقة مسألة خسوف الشمس إزاء هذا الفعل اللعين، وما ينطوي عليه من نذير شؤم، حيث لا يتبع فعل شنيع مثل هذا غير الفوضى والتردي والدمار.

أما الفصل الخامس والأخير فإنه فصل تباهي آتريوس بفعله الشنيع، ونجاحه في الانتقام من أخيه، ويكشف له عما فعله به، وعما أطعمه إياه في تلك الوليمة التي استمتع بها كثيرا! وانتصار الشر المطلق الذي يمثله آتريوس على شرور أخيه التي تبدو الآن وكأنها شرور صغيرة. وإن كان تأويل توماس جولي الإخراجي حاول في النهاية أن يوحي بإمكانية التصالح بين الأخوين، وهو الأمر الذي لم يطرحه نص سينيكا الأصلي بأي حال من الأحوال.

فمسرحية سينيكا تلك، بقوتها الدرامية الصادمة، مسرحية سياسية في المحل الأول، حتى أنها فُسِّرت أثناء حياته بأنها تجسد إطلاق عنان الشر والدمار، الذي انتهى بنيرون إلى إحراق روما، وإنهاء حكم أسرته.

هذا العالم الرديء! 

لا شك أن اختيار افتتاح دورة مهرجان هذا العام بها ليس مصادفة في هذا العالم الرديء الذي يتبوأ رئاسة أكبر قواه العسكرية المدمرة شخص مثل دونالد ترامب، أعمته السلطة مثل آتريوس، وتحدو الكثير من تصرفاته تلك النزعة الانتقامية الشريرة، التي لا تراعي في عنفها القيم أو الأخلاقيات؛ حتى مع أكثر حلفاء الولايات المتحدة وجيرانها الأقربين مثل كندا والمكسيك. حيث تتناول المسرحية هذا الجدل المستمر بين العنف والنظام، وهل يفيدنا أن نطرح القيم الإنسانية جانبا حينما ندير أمورنا السياسية؟ وهي قضية فلسفية كبيرة لا تقل أهميتها مع تناول الحاضر السياسي الأميركي المترع بالتخبط، عن علاقتها بتناول واقعنا العربي وما يدور فيه من ترد وهوان.

والواقع أن هذه المسرحية، بتركيزها على صيغتها الشعرية، تفتح الباب أمام الكثير من الأسئلة المحورية. وأهمها أسئلة العلاقة بين المعرفة والسلطة، وأسئلة الصراع بين العقل والهوى، وكيف يطرح الفعل الإنساني على الدوام أسئلته الأخلاقية. فنقل مشهد قتل أبناء ثييستس للكورس وما ينطوي عليه من أسئلة أخلاقية يستدعي إلى الذاكرة المعاصرة مشهد فصل ترامب أبناء المهاجرين، من أول هسبانية خاصة، عن عائلاتهم على الحدود، وما يطرحه هذا المشهد علينا من أسئلة أخلاقية، ناهيك عن مدى العنف والشر الذي ينطوي عليه فعل المسرحية الانتقامي ذاته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.