}

مهرجان أفينيون 72: مأساة انتقامية يابانية من نوع جديد

د. صبري حافظ 3 أغسطس 2018
مسرح مهرجان أفينيون 72: مأساة انتقامية يابانية من نوع جديد
صورة من عروض المهرجان

تبهج الأعمال المسرحية الجميلة العين وتثير الفكر في آن واحد، لأن العمل المسرحي الذي يعي أهمية استغلال جماليات اللون والحركة والتشكيل على الخشبة لا يقل متعة وإثارة عن أي عمل تشكيلي جميل. بل يتفوق عليه في أنه يضفي بمفردات لغته الإخراجية على النص الكثير من الرؤى والتأويلات. وكان هذا هو الحال مع العرض الذي شاهدته في دورة هذا العام لمهرجان أفينيون (الدورة 72)، والذي يمكن تصنيفه ضمن جنس المأساة الانتقامية الدرامي. فقد كان "بعضهم لا يرى البحر أبدا Certaines n’avaient jamais vu le mer"، وهو عرض أعده وأخرجه ريشار برونيل Richard Brunel عن رواية الكاتبة الأميركية من أصول يابانية جولي أوتسوكا Julie Otsuka من هذه العروض التي ترفد فيها لغة المخرج الاحترافية المرهفة ما ينطوي عليه النص من رؤى ودلالات.

وجولي أوتسوكا كاتبة أميركية ولدت في كاليفورنيا عام 1962 وكرست أعمالها الأدبية لتناول تجربة الأميركيين من أصول يابانية فيها، خاصة أن والديها عاشا أثناء الحرب العالمية الثانية، وبعد هجوم اليابان الشهير على بيرل هابر، تجربة وضع اليابانيين في معسكرات اعتقال، لا تختلف كثيرا عن معسكرات النازية، وتجريدهم من كل حقوقهم، اللهم إلا حق الحياة في المعتقل. ولم يؤثر اختلاف وضع والديها على تجربتهما، فقد كان الأب إيسي Issei، أي من الجيل الأول الذي هاجر من اليابان، والأم نيسي Nisei أي من الجيل الذي ولد على الأرض الأميركية وتمتع بالتالي بجنسيتها. وقد نشرت جولي أوتسوكا روايتها الأولى "عندما كان الإمبراطور مقدسا When the Emperor was Divine" عام 2002 عن تجربة اعتقال اليابانيين الأميركيين في معسكرات اعتقال، وتجريدهم من ممتلكاتهم عقب بيرل هاربر، فنالت الكثير من الإطراء والاهتمام النقدي، لأنها كشفت للجيل الجديد من القراء الأميركيين عن جانب عنصري مسكوت عنه إلى حد كبير في تاريخ أميركا الحديث.

أما روايتها الثانية "بوذا في العليّة/ الصندرة Buddha in the Attic"، التي نشرت عام 2011 والتي أعدها ريشار برونيل للمسرح وجاء بها مع فرقته من فالانس إلى مهرجان أفينيون هذا العام، فإنها تتناول ما يعرف باسم "عرائس الصور" في تجربة اليابانيين الأميركيين. وهي تجربة استمرت بين 1907-1924 حينما كانت هيمنة الأسطورة الأميركية، كأرض اللبن والعسل وفرص الثراء السهلة، حيث شوارعها مرصوفة بالذهب، تدفع الكثيرين إلى الحلم بالهجرة إليها. وكانت الخاطبات اليابانيات ترسلن صور البنات اللاتي يرغبن في الهجرة إلى اليابانيين المقيمين في أميركا، وما أن تحظى الصورة بالقبول من ياباني مهاجر، حتى يتم شحن تلك الفتيات الصغيرات إليهم. وتجسد الرواية الصدمة التي تعرضت لها تلك الفتيات الصغيرات، كان بعضهن لا يزيد على أربعة عشر أو خمسة عشر عاما، حينما سافرن إلى أميركا الحلم، لتواجههن أميركا الواقع كصدمة.

كانت الفجوة بين الحلم الوردي والواقع الكابي الرهيب صادمة بل صاعقة. فلم يجدن في انتظارهن عرسانا أثرياء، أو موظفين في البنوك، كما وُعِدن، بل عمالا يدويين وصيادين، يعاملونهن بخشونة واضحة. كما وجدن واقعا أميركيا مغايرا كليا للواقع الياباني الذي تركوه وراءهم. فقد أدهشتهن أحجام البشر والبنايات، في اختلافها عن أحجام اليابانيين الصغيرة، ومنازلهم التي لا تزيد عن الدورين؛ حتى الخيول كانت أكبر حجما من الخيول اليابانية. وصدمتهن أرض كاليفورنيا الشاسعة اليباب، في تعارضها الواضح مع كل شبر من الأرض في اليابان المعتنى به والمزروع بالأرز عادة. كانت أميركا بالنسبة لهن مكانا غرائبيا مترعا بالأحلام؛ مكانا شيقا ومليئا بالوعود. لكن الواقع كان مغايرا لكل التوقعات. فنحن هنا بإزاء رواية تكتب المسكوت عنه. وتقدم لنا جوانب صادمة من التاريخ الأميركي الحديث.

فلم تقتصر الصدمات التي واجهت تلك الفتيات على التعامل مع خشونة الرجال وهم يأخذونهن عنوة في أغلب الأحيان، وكأنهن عاهرات لا زوجات؛ وهو الجانب الذي يكشف مدى قسوة الثقافة الذكورية اليابانية وتخلفها في التعامل مع المرأة. وإنما اكتشفن في تلك السن المبكرة من حياتهن أن عليهن أن يقمن بأعمال شاقة طوال اليوم من الحفر حتى الانكباب على ماكينات الخياطة في المصانع، ثم العودة لإنجاز كل أعمال البيت بعد يوم مرهق في العمل. لم تكن أميركا أبدا أرض اللبن والعسل، بل أرض العمل الشاق والاستغلال الجسدي المرهق معا. ثم وقعت عليهن الطامة الكبرى حينما أعلنت اليابان الحرب على أميركا، وكان عليهن معاناة الترحيل القسري مع أسرهن إلى معسكرات الاعتقال الجماعية التي حُبس فيها اليابانيون أثناء الحرب العالمية الثانية، وفقدان كل ما امتلكوه طوال حياتهن فيها. وتخصص الرواية فصلها الأخير لكيف تعامل الواقع الأميركي مع هذا الاختفاء القسري لليابانيين؟ وهل شعر الجيران بهذا الاختفاء؟ وكيف تعاملوا معه؟ وكيف فسر الذين استولوا على بيوتهم وممتلكاتهم الأمر لأنفسهم؟

التركيز على الممثل

والحدث والسياق

هذه هي الرواية، التي قرر ريشار برونيل، مدير المركز الدرامي في فالانس، إعدادها للمسرح، واستضافها المهرجان في دورته هذه للعرض في فضاء "دير الكارم" العتيق. وقد حرص المخرج على الاستغناء عن أي خصائص معمارية لهذا الدير القديم، والتي كثيرا ما استغلها مخرجون آخرون على مر السنين، لأنه أراد أن يركز العمل على الممثل والحدث والسياق، وأن يستفيد من جماليات معمار البيوت اليابانية بجدرانها الرقيقة والمتحركة والتي توشك أن تكون نوعا خاصا من الستائر. لذلك نصب خشبة مسرح تقليدية فيه، وحجب أقواسه الخلفية بالستائر، وقدم عرضا سيطر على فضائه اللون الأبيض، يعتمد على تقنيات الخشبة الحديثة في تقسيم الأماكن والإيحاء والحركة، حيث يتكون المشهد من عدة أقسام أو غرف متحركة تدور لا على محاورها فقط، وإنما تتحرك إلى مقدمة المسرح أو إلى خلفيته، وتنفتح بعض جدرانها بطريقة الستائر اليابانية في نوع من إسقاط بعض الحوائط بين المشاهد والأحداث، مما أتاح للفضاء المسرحي قدرا كبيرا من السيولة، كما مكنته تلك الغرف المتحركة الصغيرة من تجسيد العزلة وحالة السجن أو الحصار التي تعيشها كل امرأة من بطلاته اليابانيات على حدة. واستخدم معها تقنيات السينما في تحويل بعض جدران تلك الغرف إلى شاشات لعرض مونولوجات بطلاته، وكل منهن تروي قسما من خصوصية تجربتها قبل أن تجمعهن المشاهد المشتركة في أحداث المعاناة الجمعية.

ومن خلال ما يمكن دعوته بالشهادات الفردية المتقاطعة جسد العرض المسرحي مرحلة الصدمة المزدوجة في حياتهن: المواجهة الصادمة مع رجالهن من ناحية ومع الوهم الأميركي من ناحية أخرى. وهي شهادات امتزج فيها التجسيد الدرامي للحالة بالبوح الفردي لوقع كل منها على الشخصية، قبل أن يجمع النسوة، مع رجالهن، وأحيانا بدونهم، في مشاهد العمل الجمعي في المزارع أو مشاغل الخياطة. ثم يتيح لنا من خلال اختيار لحظات دالة في حياة كل منهن تجسيد حالة الوحدة والحصار من ناحية، وخصوصية بعض تجاربهن الأسرية أو حتى العملية من ناحية أخرى.

وقد بلغ العرض دراميته الشعرية في القسم الأخير الذي بدأ عقب أحداث بيرل هاربر عام 1941، وتغير فيه الإيقاع، وتخللته التواريخ الدالة والقرارات الرسمية الأميركية المتلاحقة، حيث لم ينفع أياً منهم الحرص على إعلان أميركيته أمام تلك النزعة العنصرية التي اندلعت كالوباء، تعاملهم كأعداء، وتطالب بالقبض عليهم أو طردهم من البلاد بلا جريرة سوى أصولهم اليابانية. ويكتب لنا المشهد تواريخ تلك الأحداث المتسارعة التي تتابعت بوتيرة قاسية. وبعد مشهد أو مشهدين من الطرد أو الترحيل القسري لمعسكرات الاعتقال، استطاع العمل تجسيد الغياب، بصورة لا تقل قسوة عما عانته تلك النسوة في صدمة المواجهة مع أميركا.

تأصل النزعة العنصرية

في الثقافة الأميركية

هنا نعود إلى ما بدأت به في تناولي لهذا العرض من تصنيفه ضمن المآسي الانتقامية، لأن الانتقام البشع من تلك الأسر اليابانية، والتي تجاوز عددها أكثر من مائة ألف نسمة في تلك الفترة، لم يستند إلى أي وقائع صلبة أو مبررات مقنعة. إنه أمر يكشف عن تأصل النزعة العنصرية في الثقافة الأميركية، برغم كل التبريرات التي تذرع بها العقل الذرائعي الأميركي في تناوله لما جرى. وما يكشف عنه حكم دونالد ترامب الآن من تعصب مقيت ضد أعراق معينة من المهاجرين، ومنع من هم من أصول عربية أو إسلامية من دخول أميركا، بحجة أنهم مهاجرون غير شرعيين، متناسيا أن أميركا كلها ليست إلا بلدا من المهاجرين، ليس جديدا على الذات الأميركية، ولا على ثقافة رعاة البقر السائدة فيها بأي حال من الأحوال.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.