}

مهرجان أفينيون 72: تقطير فان هوفا الشاعري للروح الهولندية

د. صبري حافظ 8 أغسطس 2018
مسرح مهرجان أفينيون 72: تقطير فان هوفا الشاعري للروح الهولندية
من عرض "العجائز والأشياء التي مضت"

لا شك في أن المخرج البلجيكي إيفو فان هوفا Ivo van Hove الذي يدير مسرح تونيلجروب Toneelgroep في أمستردام كان اكتشافا مثيرا في مهرجان أفينيون للعام 2016 حينما قدم فيه مسرحيته "الملعونون" المأخوذة عن فيلم فيسكونتي الشهير.

وقد تابعت أعماله بعدها، حيث عرض في لندن ثلاثة أعمال كان كل منها علامة في مجاله. وها هو قد جاء هذه المرة بعمل من إنتاج مسرح تونيلجروب، وهو أقرب ما يكون للمسرح القومي الهولندي، إلى مهرجان هذا العام بعنوان "العجائز والأشياء التي مضت De Dingen die Voorbijgaan: Les Choses qui Passent". وإيفو فان هوفا الذي بدأ حياته بكتابة المسرحيات ثم إخراجها، مولع بمسرحة أعمال لم تكتب أصلا للمسرح، كما كان الحال في مسرحته لفيلم فيسكونتي أو لفيلم إنغمار بيرغمان "مشاهد من زواج" أو لفيلم "شبكة الأخبار" الذي فاز بالأوسكار عام 1976 وكانت مسرحته هي آخر أعماله للمسرح القومي الإنكليزي قبل شهور. 

رواية كاشفة لأبرز

كتاب هولندا

جاء فان هوفا إلى مهرجان أفينيون هذا العام بعمل مأخوذ عن رواية هولندية لأبرز كتاب هولندا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهو لويس كوبيروس Louis Couperus الذي لم أكن قد قرأت له شيئا من قبل، أو سمعت عنه بالرغم من أنه كما يقول فان هوفا يعادل في أهميته توماس مان بالنسبة لألمانيا أو مارسيل بروست لفرنسا. ولأنني أعرف منذ اكتشفت أعماله مدى جدية تأويلاته المسرحية وعمقها وجماليتها، حيث شاقني تأويله الإخراجي المدهش لكل من "مشهد من الجسر" لآرثر ميلر و"هيدا جابلر" لهنريك إبسن عند عرضهما في لندن في العامين الماضيين، فقد حرصت على قراءة الرواية قبل مشاهدة العرض؛ خاصة أنها متاحة مجانا في ترجمتها الإنكليزية التي صدرت عام 1906 بعنوان "العجائز والأشياء التي مضت" ضمن مشروع غوتنبرغ على شبكة الإنترنت. وقد عرفت أنه عندما صدرت ترجمتها الإنكليزية تلك، وقرأها أوسكار وايلد، كتب رسالة إطراء لمؤلفها الذي لم يكن يعرفه من قبل، يبدي فيها إعجابه بها، وبعث له معها بنسخة من روايته الجديدة "صورة دوريان غراي"، ذلك لأن هناك الكثير من التماثل بين منهجيهما في التعامل مع العقل الجمعي وما يتطلبه من انصياع أو مراءاة للقيم، وبين سورات الهوى العاصفة.

ولم تخيب الرواية ظني. فهي بحق واحدة من روايات تلك المرحلة الكبرى، من حيث ثراء العالم وقوة الشخصيات، وأهمية ما تطرحه من رؤى فكرية وسياسية وفلسفية على السواء. واستغربت أنها لم تحظ باهتمام إدوارد سعيد في مشروعه النقدي الكبير لتفكيك الخطاب الاستعماري الغربي في "الثقافة والإمبريالية"؛ لأنها بالفعل رواية كاشفة في هذا المجال، وخاصة من حيث دور التجربة الاستعمارية الحيوي في تشكيل الخريطة الاجتماعية في المركز، أي في هولندا نفسها، وليس في مستعمراتها فقط. وقد صدرت طبعتها الأولى في هولندا عام 1901 وكانت تتويجا لسلسلة من الأعمال التي كرست مكانة كاتبها في ثقافته، بسبب قدرتها على سبر أغوار الشخصية الهولندية وخصوصيتها المميزة. وهي كروايات تلك المرحلة في الأدب الغربي رواية عائلة/ أجيال Family Saga بالمعنى النقدي المعروف لهذا المصطلح، والذي بلورته في الرواية العربية ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، حيث تغطي الرواية حياة ثلاثة أجيال في تلك العائلة الكبيرة.

صحيح أن الرواية تبدأ بالجيل الثالث وهو في أوج الكهولة من خلال بطلها "لوت" (38 سنة) ومشروع زواجه من "إيلي" الصغيرة (23 سنة) لكننا سرعان ما نكتشف أن جذر هذه العائلة الأمومي هو الجدة "أوتلي" التي تبلغ من العمر 97 سنة، ويتوقع الكثيرون أن تكمل المائة. وتوشك الرواية، كلما توغلنا في خرائط تفاصيل عائلتها المعقدة بحثا عن ذلك السر الدفين المرتبط بتلك الجدة وحياتها في المستعمرات الهولندية في "جاوا"، أن تكون واحدة من الروايات الأمومية المناهضة للنزعة البطريركية، حيث تشكل الأم جذر العائلة الأساسي في ثقافات أوروبا الشمالية، ومزاجها السوداوي. ففي الرواية ثلاث شخصيات تحمل الاسم نفسه: "أوتلي" الجدة والابنة الصغرى لها، أم "لوت"، وهي الآن في الستين من عمرها، وحفيدتها شقيقة "لوت" الأكبر منها وهي الآن في الحادية والأربعين من العمر. وإذا كانت الجدة هي الجذر الأمومي المزروع في الوطن والمشرب بتجربة مستعمراته، فإن الحفيدة قد طلقت الحياة الهولندية بالكامل، وتركت الشمال الأوروبي بمزاجه الكئيب، وانتقلت لتعيش في جنوب أوروبا حياة مغايرة لها كلية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، في مدينة نيس الفرنسية، مع رفيق حياتها الإيطالي "ألدو".

وتحتل هذه الشخصيات النسائية الثلاث، التي تحمل كل منها اسم "أوتلي"، مكانة محورية في الرواية بالرغم من كثرة الشخصيات النسائية والرجالية الأخرى فيها. ولأن الرواية، كروايات القرن التاسع عشر المحبوكة، تحرص على اقتناص اهتمام القارئ في شبكتها، فإنك لا تتعرف على خريطة هذه العائلة المتشابكة بالكامل، ولا على السر المدفون مع زوج الجدة الثاني، الذي يشاع أنه قد مات غرقا في نهر في جبال تيجال في "جاوا"، إلا بعد الانتهاء من قراءة الرواية. عندها تكتمل خريطة الشخصيات والمكانات والتحيزات الطبقية والمصائر الوجودية لأبناء تلك العائلة الكبيرة. لأننا في رواية تهتم بسيكولوجيا الشخصيات ونزعاتها الداخلية، وأسئلتها الوجودية في زمن سابق على ظهور الوجودية في الفكر الأوروبي. ولكنها في الوقت نفسه رواية عن خصوصية التجربة الاستعمارية الهولندية ودورها في رسم خريطة المكانات الطبقية والاجتماعية في المركز الهولندي، وخاصة في زمن لعبت فيه المستعمرات الهولندية دورها الكبير في رفد المركز بالثروات. وهي أيضا ككثير من روايات القرن التاسع عشر رواية عن البحث المستحيل عن الحب المرتجى، وعن الصراع بين العقل والهوى.

فأوتلي الجدة كانت باهرة الجمال يخطب أفضل الشباب ودها. فتزوجت في شبابها الجنرال "دي لادرز" التي توحي لفظة الـ"دي" السابقة لاسم عائلته بعراقة محتده. ثم صحبته إلى المستعمرات، وأنجبت منه ابنتها الكبرى ستيفيني قبل أن تبلغ العشرين من العمر (فستيفيني الآن 77 سنة). وتعتقد ستيفيني أنها الابنة الوحيدة التي أنجبتها الأم من الرجل الصحيح. فقد كان أبوها من طبقة أرقى من تلك التي ينتمي لها زوج أمها التالي. وقد ورثت عنه ثروة جعلتها في مكانة أعلى من بقية أخواتها. وهي لا تتصور أنها في مكانة طبقية أعلى منهم فحسب، بل وفي مكانة أخلاقية/ دينية أرقى لالتزامها بالمعايير الكالفينية التي ترتوي منها صرامة شمال أوروبا الروحية، لأنها تحذر ابن اختها الصغرى بأنه لن يرث شيئا منها إذا لم يتم زواجه في الكنيسة البروتستنتية، أي إذا لم يتبع الطريق التقليدي القويم. لكنها في عزلتها الاختيارية عن بقية أخواتها، تستشرف لنا عزلة تلك الطبقة الأرستقراطية التقليدية التي تنتمي إليها منذ ذلك الوقت المبكر.

والواقع أن وعيها بأن الهوى وعدم الالتزام بالعقل التقليدي هو الذي دفع أمها (أوتلي/ الجدة) إلى تلك المغامرة التي دفعت الأب/ الزوج الأول لطلاقها، قد ترك أثره الذي لا يمحى على حياة ستيفيني، وأدى إلى عزوفها عن الزواج. وظلت طوال حياتها تنظر من علٍ إلى أصحاب المزارع الهولنديين الذين يمثلهم زوج أمها الثاني "ديركيز"، وإلى بقية أخوتها منه. فقد أنجبت الأم منه أنطون (75 سنة) الذي لم يتزوج ودفن رغباته المستعرة في القراءة الدؤوبة وجمع الكتب السرية، وهارولد (73 سنة) الذي تزوج من هولندية خالصة، أما دان (70 سنة) الذي يعمل الآن في الهند فقد تزوج من أوروبية متهندة، أي اندمجت في المجتمع الهندي، وتيريزا (68 سنة) التي عاشت تجربة ثلاث زيجات فاشلات، فاعتنقت الكاثوليكية بعدها، وهو الأمر الذي اعتبرته ستيفيني نوعا من الكفر، فإنها تعيش في دير راهبات في باريس، تكفّر بصلواتها المتواصلة عن خطايا أمها بعدما سمعت منها أثناء هلوسات حمى أصابتها ما فعلته بأبيها. وأخيرا الأخت الصغرى (أوتلي الثانية) وهي الآن في الستين من عمرها، تعيش حياة نكدة مع زوجها الثالث "ستاين دي فييرت" الذي يصغرها بعشرة أعوام، ومع ابنها "لوت" الذي اعتزم أخيرا الزواج من "إيلي" حفيدة "إيميل تيكما".

وقد ولدت أوتلي الثانية تلك بعد فترة طويلة من غرق أبيها في النهر، ولذلك تحوم شكوك قوية حول نسبها، وكيف أنها ابنة عشيق أمها "إيميل تيكما" الذي يبلغ الآن من العمر 93 عاما، ولا يزال يواظب على زيارة الجدة كل يوم، في بيتها الصغير بأمستردام، هو وعشيق آخر لتلك الجدة الأسطورية هو الدكتور "رولوفز" في التسعينيات من عمره هو الآخر، يواظب كذلك على زيارتها حتى الآن. وتكشف لنا الرواية عن قدرة أوتلي الجدة على إدارة علاقاتها الغرامية بحنكة اجتماعية لعبت فيها الحياة في المستعمرات دورا حيويا. فلا يزال الدكتور يزورها يوميا حتى الآن وفي حضور منافسه اللدود في غرامها، بالرغم من أن علاقته بها تطورت من الإعجاب من طرف واحد إلى التحقق بعد شيء من الابتزاز، إن لم نقل التواطؤ في الجريمة، الذي أتاحته له الظروف حينما أوكل إليه أمر كتابة تقرير وفاة الزوج المقتول.

وبدلا من توريط "أوتلي" و"تيكما" في الجريمة، خلصهما منها بتقرير يفيد بموته غرقا، وبأن الجرح الذي أودى به جاء من اصطدامه بحجر حاد في النهر الجبلي، وليس من طعنة بخنجر محليّ الصنع، قد يجلب للقضية تعقيدات لا لزوم لها ضمن شبكة العلاقات المحلية المعقدة في المستعمرة. وهو التقرير الذي أرضى الجميع: الإدارة الاستعمارية التي لا تريد أن تضفي على السكان المحليين أي بطولة، من نوع الانتقام من الزوج ديركيز الذي قيل إنه كان على علاقة بامرأة محلية أُشيع أن زوجها هو الذي طعنه ثم ألقاه في النهر، ومرتكبي الجريمة الفعليين (الجدة وتيكما وقد فاجأهما الزوج متلبسين)، وأخيرا الطبيب الذي تمكن من إشباع وطره من معشوقته التي كانت مستحيلة عليه قبلها.

وتوشك أوتلي الثانية، آخر العنقود، أن تكون مرآة لأمها، ولكن في مرحلة تاريخية مختلفة بالنسبة للأسرة ولهولندا نفسها وقصتها مع مستعمراتها. فقد كانت مثلها بارعة الجمال، مترعة بالهوى والميل إلى تحقيق رغباتها الحسية، تقودها عواطفها قبل أي شيء آخر، ويستهويها وقوع الرجال في غرامها، وإن افتقدت لقدر كبير من حكمة أمها في التعامل مع من يقعون في غرامها، ناهيك عن قدرتها على الاحتفاظ بهم على مر السنين. صحيح أن زوجها الأول الهولندي، والد "لوت"، لا يزال يحبها، ويهدهد ذكرياته الإيجابية معها، لكنه طلقها منذ وقت طويل حينما وقعت في غرام الإنكليزي "تريفيلي" الذي هام بدوره بها فتزوجها، وأنجب منها ثلاثة أبناء هم: ماري (35 سنة) وجون (32 سنة) وهيو (30 سنة). وما أن فتر الحب بينهما ووقعت في غرام "ستاين" الذي أغرم بداية بجمالها وما يشع منها من رغبات حسية عارمة، حتى استغل "تريفلي" الأمر وتحدى "ستاين" للمبارزة ودفع بالفضيحة حد الطلاق، وهو الأمر الذي اضطر "ستاين" للزواج منها، في نوع من القيام بالسلوك الصحيح، حتى ولو لم يكن ينوي في بداية الأمر مثل هذا المسار؛ بل أقدم على علاقته بها كمغامرة عابرة.

والواقع أن التقيد بمعايير الواجب الأخلاقي حتى لو خالفت رغبات صاحبها، من الأمور التي توشك أن تكون منبع المزاج الرصين إن لم نقل السوداوي في تلك الشخصية الهولندية، التي تتعايش مع عذاباتها الوجودية ما دامت تشعر بمسؤوليتها الشخصية عنها. وقد جالد "ستاين" في تحمل تلك المسؤولية برغم أن فورة الهوى المشبوب في البداية سرعان ما خمدت؛ تحملها لأكثر من عشرين عاما ظلت أوتلي طوالها تشعر بالغيرة من شبابه كلما تقدم بها العمر، وتملأ حياته بالنكد. ولم يتحرر منها إلا بعد أن نالت إرثا كبيرا عقب وفاة "تيكما" وانتقلت للحياة مع ابنها هيو في بريطانيا. وهو ابنها الأصغر، وأقرب أبنائها من الإنكليزي إلى نفسها. وقد يمكن تأويل هذا الزواج بالإنكليزي، وما ترتب عليه من استغلال مادي دوري لها، واستنزاف ثروتها حتى النهاية على مستوى العلاقة الاستعمارية بين إنكلترا وهولندا وما ورثته الأولى من الثانية من مستعمرات. فالميراث الذي يحرص "هيو" على استنزاف آخر جنيه منه هو ميراثها من "تيكما" الذي كون ثروته من المستعمرات.

أما أوتلي الثالثة، شقيقة لوت الكبرى، فقد قررت التخلي كلية عن كل ما يربطها بالشمال الأوروبي والتواريخ الهولندية، وما يتعلق بها من تقاليد وأمراس اجتماعية؛ والتفرغ لعملها الفني، والانتقال للحياة في مدينة نيس على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. ففي روايات كوتيرس يمثل جنوب أوروبا الفردوس المترع بالبهجة والضوء الساطع والملذات الحسية. وقد تفرغت لعملها الفني في عزف الموسيقى والغناء الأوبرالي، وقدم لها التحقق الفني على خشبة المسرح وأمام الجمهور، نوعا من الثقة الضرورية بالنفس. فطرحت وراء ظهرها فكرة الزواج التقليدي كلية، في نوع من تقديم الحب الحر المفتوح كبديل روائي لقيود الزواج، وما يترتب على خمود جذوة الحب فيه من مشاكل عانت منها أمها ولا تزال تعاني حتى اليوم. إنها اختارت مملكة الحرية وقدمتها على مملكة الواجب والضرورة، في نوع من الخيار الوجودي السابق على تبلور أفكار الوجودية الفلسفية. هذا فضلا عن أن هذا الاختيار الحر، وهو يتراءى على مرايا تأمل "إيلي" الشابة له، يبدو في مستوى من مستويات تأويل النص الروائي على أنه اختيار بعيد عن عبء تاريخ هولندا الاستعماري الذي ترك ظلاله على الجيلين السابقين. 

على المسرح: لغة إخراجية متميزة

هذه هي الخطوط العريضة لهذه الرواية الثرية التي تستحق المزيد من الاهتمام وأرشحها للترجمة إلى اللغة العربية. فكيف قدمها إيفو فان هوفا على المسرح؟

ما أن ندخل إلى المسرح المنصوب في ساحة "ليسيه سان جوزيف" الواسعة، حتى نجد خشبة كبيرة فارغة، بأرضية رمادية/ بيضاء وحوائط جانبية من مربعات زجاجية ضخمة رسمت عليها بالطين أشكال تجريدية لوجوه مترعة بالرعب أو العذاب، تضفي على المشهد مناخا خاصا. وصُفّ على طول كل منها عدد من الكراسي السوداء. وكأننا في قاعة انتظار واسعة فارغة في الوقت نفسه. وفي عمق المسرح في مواجهة الجمهور تحوّل الجدار إلى مرآة ينعكس عليها فضاء الخشبة وتليه صورة الجمهور الجالس أمامها. وليس في فضاء المسرح الواسع إلا منضدة صغيرة عليها ساعة ذات بندول يتحرك باستمرار في تجسيد لحركة الزمن التي لا تتوقف.

فلكل شيء في تصميم المشهد المسرحي عند إيفو فان هوفا دوره ودلالاته ووظيفته التي لا بد له من تأديتها. وكذلك الحال بالنسبة للألوان وتشكيلات الحركة أثناء تفتح الحدث الدرامي، بإيقاع محسوب يسيطر عليه هذا المايسترو المسرحي البارع. ذلك لأن كل الشخصيات ترتدي ملابس سوداء، باستثناء أوتلي الصغرى وعشيقها الإيطالي ألدو، اللذين يقدمان رقصة البهجة وتألق الحياة وقد ارتديا ملابس بيضاء مرقّشة بورود في هذا العالم الكابي الذي تنتظر أغلب شخصياته التي شاخت الموت وهي موشحة بالسواد. وما أن تتكشف لنا تفاصيل السر الدفين المخبوء في حياة أوتلي الجدة، وتميط الأحداث اللثام عما جرى، حتى يهطل على المشهد مطر أسود من أوراق صغيرة سوداء يغطي معظم مساحة الخشبة وتتخبط فيه جل الشخصيات، بقدر تخبطها في تواريخها التي لا فكاك لها منها، وفي هذا السر معا. فتتكشف بسبب حركتها فيه تشكيلات غريبة كآثار أقدام في الرمال، ولكنها هنا باللونين الأسود والرمادي الفاتح من تحته.

نحن هنا بإزاء مخرج له لغته الإخراجية المميزة بمفرداتها التي تعتمد على التقطير والتكثيف، لا يُترك فيها شيء للصدفة. يُدرك أن المسرح فن بصري حركي، يمتع العين والأذن، لذلك كانت هناك فرقة موسيقية مصاحبة للعمل، ويستثير العقل قبل المشاعر. تتحول حركة الممثلين في المشهد بين يديه إلى نوع من اللوحة المشهدية أو الرقصة الدرامية المحسوبة. وهي لغة قادرة على طرح تأويلاتها للنص الذي يعتمد عليه بصورة تثري معرفتنا به، وتكشف لنا عن طبقات الروح الهولندية التي تتخلل حياة جل الشخصيات. لأن العرض لا يركز على جانب الإثارة في القصة، واكتشاف سر ما جرى ليلة تلك الجريمة في جبال تيجال بجاوا، قبل ستين عاما، ولكن بتلك الحالة الوجودية التي تمخضت عنها تلك الجريمة، وكشف لنا عبرها طبيعة الشخصية الهولندية التي تتخبط في أحبولة الجري خلف مشاعرها المشبوبة، وبين الإحساس الكالفيني المسيحي بالواجب، وبالذنب عما اقترفته يداها في لحظات هذا الهوى التي لا سبيل للسيطرة عليها.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.