}

مهرجان الطبول: بهجة شارع المعز خارج سياق القاهرة

أحمد ندا أحمد ندا 26 أبريل 2017
موسيقى مهرجان الطبول: بهجة شارع المعز خارج سياق القاهرة
لقطات من مهرجان الطبول/ تصوير خالد عبد النبي

.. كأن القاهرة فوجئت ببهجة استثنائية! هذا ما بدا على وجوه الموجودين في شاعر المعز لدين الله الفاطمي، خليفة ما زالت تنسب العاصمة المصرية إليه "قاهرة المعز"، وشارع يعتبر بمثابة متحف مفتوح للقاهرة الفاطمية، ثم المملوكية فالعلوية.
المدينة التي لم تكد تفيق من حوادث إرهابية متتالية، ثم قانون طوارئ ورعونة أمنية وحصار يصل إلى حد الإطباق التام، شهدت بذخاً لونياً وإيقاعياً نهار الجمعة الماضي، يدخل من باب الفتوح الذي بناه جوهر الصقلي لكي تخرج منه الجيوش الغازية، فإذا بفرقة حسب الله تدخل منه بموسيقاها الصاخبة، ثم فريق تحطيب على أنغام أغنية "الأقصر بلدنا"، ففرقة نوبية تغني فولكلورها على إيقاع الدفوف، ثم وجوه وأزياء صينية وسودانية وغينية وسورية وجزائرية ونيجيرية، عدد هائل من التكوينات اللونية والسمعية الجديدة. تعامل معها المارون بدهشة ما لبث أن تحول إلى مراقبة وانتهى بتفاعل الأجساد مع اللوحة الموسيقية الغنية، تماوجت الأجساد جميعاً مع كل إيقاع موسيقي، وبدأت الابتسامات تنتشر بالعدوى بين الجميع من سكان المنطقة أو زائريها أو بائعي محلاتها وحوانيتها. نسي الجميع واقعهم في لحظة خفة حقيقية مرت في شوارع المعز؛ مظاهرة باذخة دون سياسة.. كانت هذه المسيرة إعلاناً "شعبياً" لبدء مهرجان القاهرة الخامس للطبول، تحت شعار "حوار الطبول من أجل السلام". دخلت الفرق من باب الخروج إلى الحرب، ولعلها المفارقة الشاعرية غير المقصودة!

افتتاح ناجح وإمكانيات قليلة:

دورة خامسة من مهرجان يحمل في طياته كل هذا الفرح، دون أن يلتفت له الإعلام المشغول بالصراخ اليومي وكيلِ الاتهامات لأي آخر لا يوافق أجندة النظام. يحمل الفنان انتصار عبد الفتاح، رئيس المهرجان ومؤسسه على عاتقه وحده جهد تنظيم المهرجان مع مساعدات شحيحة من الدولة، وتجاهل تام من وزارة السياحة، غير المكترثة بحدث يمكن أن يكون كرنفالاً قاهرياً يجوب شوارعها مثلما كرنفالات الشوارع في ريو دي جانيرو وفينيسيا، خاصة مع "مسيرة الفرق" التي تحولت إلى تظاهرة انتصار للجمال.

وزارة الثقافة أنقذت الموقف المتأزم لعبد الفتاح الذي فوجئ قبل أقل من نصف يوم من حفل الافتتاح، بمنطقة بئر يوسف بقلعة صلاح الدين، أن المسرح والمعدات الصوتية لم تتجهز بعدُ، لولا تدخل وزارة الثقافة التي أعدت كل شيء صوتاً ومسرحاً وصورة، في واحدة من أجمل مناطق القاهرة الفاطمية "بئر يوسف" وهو المكان الذي كان مقبرة رومانية لم تكتمل منقوشة في الصخر‏، اكتشفها بهاء الدين قراقوش في عصر صلاح الدين الأيوبي إبان تجهيز القلعة. السردية الشعبية تقول، إنها البئر التي ألقي فيها النبي يوسف، إلا أنها سميت نسبة إلى صلاح الدين نفسه الذي كان اسمه يوسف بن محمود وكنيته صلاح الدين‏.‏ وكانت عجيبة من أعاجيب زمنها، فهي محفورة إلى عمق ‏95‏ متراً، أعدها صلاح الدين لأيام الحصار، ليزيد من تحصين القلعة.

في ذلك المكان الذي يطل على القاهرة القديمة، انطلق حفل الافتتاح، وخرج وزير الثقافة المصري حلمي النمنم، ليقول كلمته "المكررة" في الفعاليات الثقافية عن دور الوزارة والثقافة في مواجهة الإرهاب، ومتتبع مشاركاته الرسمية منذ توليه الوزارة، لن يجد "اختلافاً" لافتاً في حضوره، ربما هذه المرة لأن الحادث الإرهابي ما زال حديثاً ودماؤه طازجة ما زالت، أثرت كلماته في الحاضرين، فقال النمنم "انعقاد هذا المهرجان يأتي ليعكس الإصرار الحقيقي لدى المواطنين المصريين والشباب المصري والدولة المصرية بكل مؤسساتها وهيئاتها لمواصلة الحياة الآمنة، وإننا لن نسمح لأي إرهابي أو ظلامي من تجار الموت أن يفسدوا علينا الحياة، لأن الله خلقنا كي نعيش الحياة ونصر على مواجهة دعاة الموت ونواجههم وتواجههم قواتنا المسلحة في سيناء ووزارة الداخلية في أوكارهم الذين يختبئون فيها، ونحن نواجههم بالفن والثقافة والإبداع". أما الفنان انتصار عبد الفتاح، بدا سعيداً رغم إنهاكه –بمرور اليوم- فقال في كلمته "إننا نسعى في هذه الدورة على تحقيق الحوار والتواصل بين كافة الشعوب، فمصر تستطيع أن تحتضن كل شعوب العالم".

وبعد انتهاء الكلمات الرسمية، صعدت كل الفرق المشاركة على خشبة المسرح، وشاركت كل منها بمدخل موسيقي، وبتفاعل جماهيري كبير تجاوز الخمسة آلاف متفرج، وثلاثين فرقة فنية من بينهم، لأول مرة، الإكوادور ضيف شرف المهرجان، ونيجيريا، ومورشيوس، والسنغال، والصين، والسودان، واليونان، وسيريلانكا، وغينيا كونكري، وكوت ديفوار، وإندونسيا، بالإضافة للفرق المحلية منها سوهاج، بورسعيد، الشرقية، العريش، الإسكندرية، الوادي الجديد، الأقصر، وأسوان.

الطبول من أجل السلام؟

"هي لغة من قديم الأزل، لها فلسفتها وطريقة تواصلية من الأقدم في التاريخ الإنساني، أردنا بشعار هذا العام أن نغير الفكرة المتعارف عليها، أن الطبول هي لغة الحرب، ألا نقول في العربية "دقت طبول الحرب"؟ أردنا أن نقول خلافاً للمتعارف عليه، إن الطبول لصنع السلام، خاصة وأنها أداءات موسيقية هي الأكثر توغلاً في القدم والأكثر قدرة على التفاعل مع الأجساد وتمنح بهجة تتجاوز اللغة العرق والدين والاختلاف". بحماس تجيب سهام إسماعيل، المدير التنفيذي للمهرجان لماذا الطبول؟ وسبب شعار هذا العام.

مهرجان الطبول 

وتضيف: "نحن حريصون للعام الخامس، أن نوصل رسالة حضارية عن مصر، التي يعرفها العالم بحضارتها، أمان مصر في واحدة من أشكاله في الاهتمام بثقافتها وفنونها، وقد استطعنا هذه السنة أن نزيد من عدد الفرق المشاركة في المهرجان أكثر من الأعوام الماضية، كما أن الإقبال الجماهيري أثبت أن مصر قادرة على صناعة البهجة رغم كل شيء".


مشاهدات من المهرجان:

"بوستر" المهرجان كان على خلاف فعالياته، قاتماً وكئيباً وغير مبدع، لماذا لم يلجأ منظموه إلى فنان أو مصمم ذي حيثية لإخراج صورة أفضل من تلك التي تعطي الرائي ظهره ليحتضن العالم، وأمامه الكليشيه المحفوظ لأهرامات الجيزة والشمس تعلوها؟ ولماذا لم يكن شارع المعز –مثلا- بدلاً من الأهرامات على الأقل سيكون له علاقة بالفعاليات!

التواجد الأمني في المسيرة الكرنفالية في شارع المعز، على كثافتها لم تسبب حالة من الضيق والتململ الجماهيري، إذ إن الأمن ارتأى أن يتحرك حول المسيرة بخيول، بدت لائقة بتاريخية المكان، وكأنها جزء ارتجالي من الاحتفالية نفسها؛ أيضاً لم تكن مهمة الأمن عسيرة، مع التفاعل الجماهيري شديد اللطف دون مضايقات للوفود المشاركة، ودون تحرشات لفظية أو بدنية، بل على العكس تماماً، كان التجانس بين المشاركين والمشاهدين لوحة بعيدة عن الراهن المقبض.

بعض مواعيد العروض المقررة، لم يكن منطقياً لا في مكانه أو زمانه، حيث متحف الطفل للحضارة يبعد 25 كيلومتراً عن مكان الفعاليات الأساسية، وزمن العروض البعيدة هذه، كان الحادية عشرة صباحاً بتوقيت القاهرة! ما يتعذر على المتابعين مجاراته في زحام القاهرة الجحيمي. على الرغم من ذلك فقد كان قرار إقامة بعض العروض في مدينة "بنها" خارج القاهرة قراراً موفقاً! إذ إنه يكسر قليلاً الاحتكار القاهري للفعاليات الثقافية، لكن المشاركة اقتصرت على فرقتين مصريتين دون أي مشاركة عربية أو دولية.

أيضاً؛ غاب عن المنظمين المدخل التعريفي للفرق المشاركة، إما بكتيب إرشادي أو بتعريف بسيط لطبيعة هذه الفرق وما إذا كانت فولكلورية أو معاصرة، والآلات التي تستخدمها كل فرقة، خاصة وأن عدداً كبيراً –إن لم يكن كل الثقافات المشاركة في المهرجان ـ مجهول تماماً بالنسبة للمشاهد المصري.

شهد المهرجان مشاركة عربية لافتة هذا العام بفرق سودانية وجزائرية وسورية وتونسية، تقدم فولكلوراً إيقاعياً من هذه الدول. أما أكثر اللقطات طرافة في المهرجان كانت في العرض الصيني، أول أمس، في قلعة صلاح الدين، حيث عزفت الفرقة الصينية "طلعت يا محلا نورها" بالآلات والطبول الصينية التقليدية، ما شهد تفاعلاً وحفاوة من المتابعين. أيضاً الحضور الجماهيري في العرض التتري كان كبيراً، "كنت فاكر التتار دول زمان، طلعوا لسه موجودين" يضحك أحد الشباب الحاضرين بينما لا يهدأ في تصفيقه وتفاعله مع ما يقدم.

لم يفت على المنظمين عدد من التكريمات، فقد كرَّم مهرجان الطبول في دورته الحالية اسم الموسيقار الراحل، علي إسماعيل، والفنان الدكتور، ناجي شاكر ومحمد غنيم، وكيل أول وزارة الثقافة للعلاقات الثقافية الخارجية ورئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة سابقًا، وفايزة محمود سليمان، أول امرأة من الصعيد أسست فرقة للفنون الشعبية، وسمير جابر، الباحث التراثي في رصد الرقص الشعبي بأقاليم مصر المختلفة، وعمل تدوين الحركات والتعبيرات الشعبية المصرية، ومن السنغال الفنان يوسو ندور، ومن السودان اسم الفنان محمود وردي.

وبجانب تكريم عاشق النوبة أحمد منيب تُكرم إدارة المهرجان كلًّا من حارس التراث السيناوي عاطف عبد الرحمن، عاشق التراث البورسعيدي حسن محمد صالح، تراث فرقة حسب الله الريس فتحي شعبان السنباطي.

***

"لو خرج جوهر وحده لفتح مصر، ولتدخل إلى مصر بالأردية من غير حرب، ولتنزل في خرابات ابن طولون وتبني مدينة تسمى القاهرة" كانت بصيرة الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، مدينة تنبت من وسط الخرابات. يمكن للقاهرة الآن أن تعود كما كانت مدينة حاضنة للفن والثقافة، قادرة على إعادة إحياء نفسها من الخراب والموت اليومي. يأتي المهرجان ليكون نقطة نور، وبجهد وشغف وإخلاص مجموعة يريدون للمدينة أن تتمثل جمالها، حتى مع التحفظات التنظيمية وشح التمويل، قدر المهرجان على أن يضفي بهجة ورقصاً وإيقاعاً على الحياة.. لعل الدولة المشغولة بمعاداة "الجميع" أن تلتفت قليلاً لجمال غير مشغول بالانحيازات السياسية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.