}

"الجمعية العامة" على المسرح الألماني..أسئلة القرن الواحد والعشرين

زياد عدوان 25 نوفمبر 2017

اليوتوبيا كحل وحيد للنجاة

مسرح الشاوبونة، البرلمان العالمي الأول للقرن الواحد والعشرين، الناتو، التدخل الخارجي، اللاجئون، العدالة، الرأسمالية، النظام النقدي العالمي، حقوق الحيوان، تسليع المياه، مركزية أوروبا، القنوات المسدودة أمام حاجات الشعوب للتغيير، كانت مجتمعة كلها في عرض "الجمعية العامة"، والذي امتد ليومين كاملين (من الصباح وحتى المساء) على مسرح الشاوبونة في برلين. ضمت (الجمعية العامة) مندوبين من كافة أصقاع العالم ممن يعملون في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأكاديمية والفنية، ليلقوا كلمات ومحاججات وشهادات من خلال عملهم أو خبرتهم. وكانت المسرحية/ الجمعية العامة/ الفعالية، البروفة الأولى من نوعها لبرلمان تاريخ الإنسانية الأول وقام بإخراجها المخرج المسرحي السويسري ميلو راو.

فرض المسرح وجوده بين الفينة والأخرى ضمن الجلسات الخمس المتعلقة بـ 1- العلاقات الدبلوماسية، العقوبات والحروب 2-  تنظيم الاقتصاد العالمي 3- الهجرة وأنظمة الحدود 4- مجلس العموم العالمي للثقافة 5- مجلس العموم العالمي للطبيعة. توزع نقاش هذه المواضيع على خمس جلسات عامة (كما سمتها الفعالية)، يتحدث في كل منها حوالى خمسة عشر مختصاً بالمجالات السابقة أو (المندوبون كما سمتها الفعالية أيضاً) بمدة لا تزيد عن خمس دقائق. وبوجود خمس فقرات، استمع الجمهور في الصالة إلى ما يقارب الستين متحدثاً خلال يومين. بعد أن ينتهي المندوب من كلمته، يقوم معلق أو صحافي مختص والذي يؤدي دور (المراقب السياسي) بتوجيه سؤال أو سؤالين إلى المتحدث،  مع الالتزام بمدة الأربع دقائق المخصصة للأسئلة والأجوبة، ثم يتم توجيه أسئلة إلى المندوب المتحدث من قبل المندوبين الآخرين المشاركين في الفعالية (المجموعة التي يبلغ عددها ستين شخصاً) ضمن مدة لا تزيد عن الثماني دقائق.

تم تعليق أربع شاشات كبيرة على المسرح لتعرض ما يحدث على المسرح، وجرت عمليات الترجمة الفورية إلى عدة لغات عبر سماعات موزعة على المقاعد في الصالة، ليكون الجمهور على موعد مع جلسات مكثفة تناقش الحركات العمالية، والمؤسسات الدولية، والنزاع على الفضاء العام، والشعبوية، والقدرة على تمثيل مطالب الشعوب، وحركات النسوية، والثورات أم حركات التمرد أم الحروب، والديمقراطية، والدول القومية، والوسائط لنقل احتياجات العصر إلى أصحاب القرار. تبدأ كل جلسة عامة باقتراح وثيقة دولية وحقوقية وإنسانية توائم القرن الواحد والعشرين بمتغيراته ومفرداته، وبعد ثلاث ساعات يتم التصويت على البنود المقترحة. وأمام فضائحية ما يحدث على هذا الكوكب، بدت الشهادات وكأنها فانتازيات لما نعيشه فعلاً في أيامنا هذه.


تشريعات فنتازية

يرى القائمون على العرض وعلى البرلمان الافتراضي أن تشريعات القرن العشرين باتت غير قادرة على مواكبة أسئلة الهجرة والتبدل المناخي وأشكال الحروب حالياً. ولهذا لا بد من تشريعات، قد تبدو فانتازية هي الأخرى بدورها، ولكنها إحدى الطرق الوحيدة لمواجهة استعصاء القوانين الدولية والدبلوماسية في يومنا هذا. وهنا، وعلى سبيل المثال، طرح البرلمان في الجلسة الأولى (العلاقات الدبلوماسية، العقوبات والحروب) بنداً يخص حرية التنقل بين البلدان، وقدرة الأفراد على الانتخاب في البلدان التي يعيشون فيها، حتى لو لم يمتلكوا جواز سفر تلك الدولة. وبالفعل، سيكون من المنطقي أن يشارك العالم جميعه في الانتخابات الأميركية أو الألمانية أو البريطانية، بما أن سياسات هذه الدول الكبرى تؤثر بشكل مباشر على كل فرد على هذا الكوكب.  

كان هدف الفعالية الاتفاق والخروج بميثاق للبرلمان الأول من نوعه في التاريخ، ومن ثم ممارسة الضغط على البرلمان الألماني المنتخب حديثاً للتأثير عليه لفرض قرارات عديدة متعلقة بألمانيا وبالدول المتأثرة من السياسات الألمانية، سواء كانت أوروبية كاليونان، أو خارج القارة ممن تسلحهم ألمانيا أو تحتكر ثرواتهم. (في الجلسة الأولى تم عرض مقطع فيديو قصير على الشاشات نرى فيه ميلو راو وهو في العراق متحدثاً إلى أحد المسلحين الأكراد وراء حاجز ترابي. ويخبرنا المسلح أن البندقية التي بحوزته جيدة، ويشرح ميزاتها، ليضيف بعدها أنهم حصلوا على هذه الأسلحة من ألمانيا).

ومع انتهاء كل جلسة عامة، يتم التصويت على البنود المقترحة في ضوء الشهادات والمساجلات والأسئلة التي سمعها الجميع، ومن ثم يتم الاتفاق على هذه البنود، أو تعديل مفردات أو عبارات أو رفضها نهائياً. وبطبيعة الحال، تم الاتفاق على معظم البنود المقترحة. كان المشاركون بمعظمهم من خلفيات فكرية متشابهة، وخاصة في ما يتعلق باليسار والليبرالية مع استثناءات قليلة لبعض الأصوات اليمنية القليلة، كشيخ إسلامي ومندوب شاب عن حزب العدالة والتنمية التركي (يعتبر أن الأرمن هم أتراك، وبالتالي لا داعي للحديث عن مجزرة أو عن مطالبة بحقوق، كما يعتبر أن الأكراد هم أتراك أيضاً، وبالتالي لا داعي أيضاً للحديث عن دولة كردية) . كما نوه ميلو راو إلى رفض الأحزاب اليمينية الألمانية المشاركة في البرلمان لأنهم يعلمون المرجعيات اليسارية لمنظمي فعالية "الجمعية العامة".



مسرح وخطابة

لم يكن التوجه اليساري للفعالية أمراً خفياً. ففي اليوم التالي لانتهاء الفعالية، قام ميلو راو وطاقم مسرح الشاوبونة والمشاركون في عرض "الجمعية العامة" وحتى الحضور بإقامة مهرجان خطابي أمام البرلمان الألماني. انتهى المهرجان (كما كان معلناً ومخططاً له) باستعادة رمزية لثورة أكتوبر الروسية، والتي حصلت قبل مائة عام، وتمثيل هجوم معاصر على البرلمان الألماني من قبل الجمهور والمشاركين في الفعالية. بالطبع، لم يكن الهجوم حقيقياً بل كانت مسرحيته معلنة، ولم يتردد ميلو راو بالطلب من الجمهور أن ينتظموا جميعاً وإعادة تأدية الهجوم ليكونوا جميعاً ضمن كادر الكاميرات التي تصورهم قبل أن يهجموا على علبة خشبية وضعت أمام البرلمان وتم إلصاق شعارات عنصرية عليها ليدكها المشاركون في ما بعد. استغرقت الاستعادة التمثيلية لثورة 1917 بضع دقائق ثم انصرف الجميع بعد أن شاركوا في الصورة الطريفة.

وضمن العلاقة مع الثورات، كانت الفعالية استعادة أيضاً لما قامت به الثورة الفرنسية، عندما تم تشكيل الجمعية التأسيسية الوطنية عام 1789. ومن هنا كانت فكرة عرض "الجمعية العامة" لتكوين برلمان افتراضي في المسرح والبحث والإجابة عن أسئلة القرن الواحد والعشرين. كان المشاركون على وعي تام بحدود إمكانياتهم، وحرصوا على الابتعاد عن النشوة وتصديق حماساتهم. واتفق معظم المشاركين على محدودية الفعالية المسرحية للضغط على القوى العالمية وعلى البرلمان الألماني للوصول إلى ما اتفقوا عليه في المسرح، وخاصة أن القوى العظمى اعتادت على سلب المجتمعات والأفراد حقوقها بحجة الأمن والأمان كما يتم الترويج إليها في أيامنا هذه من قبل طغاة العالم.

هناك الحاجة إلى مصادر للقوة، ومن دونها سيبدو تشكيل هذا البرلمان خطوة ساذجة إن اعتقد المشاركون أن هذه الفعالية قادرة على حل مشاكل العالم. فاليوتوبيا غير كافية، وللوصول إليها يحتاج الساعون إلى قوة ما غير قوة اليوتوبيا. ولا يتنقص هذا الكلام من أهمية اليوتوبيا، فاليوتوبيا ضرورية للنجاة على حد تعبير أحد المندوبين. وفي الجلسة الختامية أصر ناشط باكستاني على تمسك الإنسان بحقه لتكون له حقوقه. وقد تبدو العبارة لوهلة إنشائية، ولكن وبتأمل سريع لمصائر شعوب عديدة، وبينها باكستان دون أي شك، يبدو أن النظام العالمي الحالي يسير بخطى واثقة لتجريد الإنسان من التفكير بحقوقه وشرط وجوده، ولعل تجريد الإنسان من حقوق الطعام والسكن والشراب هي الابتزاز الأشهر الذي تعاني منه البشرية.


خطاب الثورة القديم

مائة عام مرت على ثورة مفصلية فرضت نفسها لتكون تفسيراً للعالم وطموحاً لتغييره. ولكن بعد قرن من الزمن بات الخطاب قديماً، وكان خطاب المندوبين الشيوعيين الأكثر إنكاراً لأزمات القرن الحالي، معتبرين أن شعارات القرن الفائت ما زالت صالحة، الأمر الذي أثار ضحك بعض المتفرجين في الجمهور واستياءهم كما حصل أثناء إلقاء ممثلة حزب اليسار الألماني كلمتها، وعند الإجابة على الأسئلة المطروحة عليها. الدولة القومية، بدورها أيضاً، كانت محط تساؤل وتشكيك، ليتفق المندوبون على أن معناها وقيمتها كما كانت في القرن العشرين لم تعد صالحة. كما اتفق المندوبون على بديهية الرأي القائل بأن الدول القومية موجودة لتقمع شعوبها وتقسرهم على قبول قرارات المنظمات الدولية العابرة للقارات، كصندوق النقد الدولي. ومن ثم تم طرح السؤال البسيط: هل هناك سبب منطقي يجعلنا نحتفظ بفكرة الدولة القومية في زمننا هذا؟

يقول ميلو راو في تقديمه لعرضه "على المستوى العالمي، لا يوجد بناء ديمقراطي قادر على ضبط السوق العالمية، وعلى ملاحقة انتهاكات القوانين الدولية، وعلى اقتراح مشاريع تنمية بيئية بوسائل فعالة".  وبناء على "انحلال السياسة الوطنية"، على حد تعيبر راو، باتت شرعنة الدولة القومية اليوم مقتصرة على متاهات بيروقراطية وبهلوانيات لغوية. اجتمع المندوبون على أن ما يحرك التاريخ هو الصراعات الاجتماعية، وليتحرك التاريخ يجب على النخب الفكرية وعلى الناشطين أن يمتلكوا محاججاتهم وسردياتهم. وهنا كان صلب العمل الوثائقي في مسرح ميلو راو، وهو القدرة على استحضار أشخاص ووضعهم بصفاتهم الشخصية وأدوارهم الاجتماعية والمؤسساتية ليشكلوا ما يشبه برلماناً مؤلفاً من نخب مستقلة لها ثقلها المعرفي وتوجهها الأخلاقي، كما هو حال استراتيجيات وممارسات وأشكال المعرفة والتوجهات الأخلاقية لمنظمات أخرى عالمية، كصندوق النقد الدولي، واليونيسيف، واليونيسكو، والإنتربول.


جيد هنا وسيىء هناك

من المثير أن نعرف كيفية بناء هذه الفعالية والتعاليم التي اقترحها ميلو راو على المندوبين المشاركين للنجاح بالخروج بفعالية نظرية مليئة بالطروحات والخطابات، دون أي احساس بالملل. فالمشاركون حددوا كلماتهم ضمن المدة التي اشترطها العرض، وأضاف تتابع الكلمات والمندوبين دراما ما في "الجمعية العامة" لنستمع إلى مخرجة سينمائية من كوسوفو قالت إن تدخل الناتو ببلدها أنقذ شعب هذا البلد، ثم يأتي بعدها مؤرخ صربي ليقول إن "إمبراطورية الناتو" قامت بحرب غير شرعية على بلاده. كما انتفض المشاركون والجمهور أمام مندوب حزب التنمية والعدالة التركي بسبب أطروحاته، ووصل الأمر إلى أن يطلب ميلو راو من المشاهد التركي أن يخرج من البرلمان/ من المسرح. وبالفعل خرج الشاب التركي، ليعود مرة أخرى وينسحب مجدداً. ومع اختفاء مفردات عديدة عن الفعالية على مدى يومين كالفساد، والتمازج الثقافي، اختفت مفردة العدو أيضاً، ولكنها عادت لتظهر بعد أن علقت إحدى المشاركات في الفعالية على طرد الشاب التركي، لأنها تعتقد أن العداء ينشأ عندما يبدأ اللعب والالتفاف وتكذيب الحقائق، فالعدو لا يتشكل بسبب الاختلاف على الآراء، بل بسبب الاختلاف على الحقائق. 

قدم عرض "الجمعية العامة" دراما صناعة القرار، وقدم أيضاً دراما التضاد بين الأصوات المتكلمة عبر تتابعها، وكان هناك دراما في الحوار بين المندوبين والمراقبين السياسيين، وكان هذا مرضياً لمن يبحث عن دراما ما عند الذهاب إلى المسرح. ولكن وفي مسرحية سابقة لميلو راو بعنوان (الشفقة: تاريخ المدفع الرشاش) تقول الشخصية الرئيسية في بداية المسرحية: "كان المشردون الموضة المسرحية في تسعينيات القرن الماضي، وامتلأت خشبات المسرح بالمشردين، وبعدها جاء دور المعاقين، وانتهى دورهم. أما الآن، فبات اللاجئون الموضة المسرحية الجديدة، وامتلأت خشبات المسرح باللاجئين"، وبما أن المسرح بات مكاناً قادراً على استيعاب شخصيات حقيقية بشهادات حقيقية، فما المانع من تشكيل البرلمان العالمي الأول على خشبة المسرح أيضاً، بحضور ناشطين ونخب أكاديمية بأدوارهم الحقيقية؟

ينتقل ميلو راو في عرض "الجمعية العامة" إلى مستوى آخر من الصنعة المسرحية، والتي لا يوجد نظرياً ما يمنعها من التطبيق. والمسألة هنا ليست لغاية التجريب. ولا يريد عرض "الجمعية العامة" أن يعيد تعريف المسرح، بل أن يستخدم المسرح، ويستخدم أدواته وكل ما يتيحه لنا لنقول ما نريد أن نقوله. ولم يكن وجود ميلو راو كمخرج مسرحي، وحضور مسرح الشاوبونة كمكان حاضن للحدث الإشارتين الوحيدتين إلى المسرح، بل تم بث الفعالية مباشرة في عدة مسارح أخرى كمسرح تاليا في هامبورغ ومسرح الكامرشبيلية في ميونخ وفي مسارح أخرى في فرنسا وبلجيكا، هذا عدا عن بثها مباشرة على موقع مسرح الشاوبونة الإلكتروني. وبالطبع تخللت المداخلات والمساجلات لمحات مضحكة إلى حدوث هذه الفعالية في المسرح . فالمكان الحاضن لبرلمان القرن الواحد والعشرين هو المسرح، ولكن ما سيقوم به المسرح هنا هو الابتعاد عن الحديث عن الخيال، ربما لأن الحياة صارت أشد غرابة من الخيال.

يطرح عرض (مجلس العموم) أسئلة عديدة عن طاقات المسرح، وطاقات اليوتوبيا، وطاقات البشر. وأمام الإجابات التي اتفق عليها العرض المسرحي عبر تصويته على البنود المقترحة، كان هناك صندوق آخر من الأسئلة التي تبدو فانتازية وواقعية بالآن ذاته. هل ستكون إمكانيات حل مشاكل القرن الواحد والعشرين عن طريق الهجوم على البرلمانات كما كان عام 1917، أم عن طريق عمل المؤسسات، أم عن طريق إنشاء مظلة دولية للنخب، أم عن طريق المسرح؟ ما هي السبل أمام ضحايا الحروب لمخاطبة المركزية الأوروبية؟ هل ستستطيع توصيات "مجلس العموم" أو البرلمان الافتراضي أن تؤثر على المؤسسات العابرة للقارات، أم أنها ستبقى بروفة أنيقة لتلاقي النخب؟ يطرح العرض بشخصياته الحقيقية أسئلة عديدة عن عالمنا وعن المسرح، وقد طرحها المندوبون في مناسبات عدة، ولكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً هو ما وجهته مندوبة هندية عندما تساءلت: " عدا عن مسألة التمثيل وقدرة البرلمان على استيعاب الجميع، ما الذي سيحدث إن أصبح هذا البرلمان واقعاً حقيقيّاً ومعترفاً به؟ وكيف سيكون الأمر إن كان هذا البرلمان (المسرحي) قادراً فعلاً على اتخاذ قرار؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.