}

المهرجانات المسرحية العربية وتبرير المسرح

زياد عدوان 27 ديسمبر 2016
مسرح المهرجانات المسرحية العربية وتبرير المسرح
من عرض "التخريب للمبتدئين"

هل حضر يحيى الفخراني مهرجان قرطاج المسرحي المنصرم، أم لم يحضر؟ هل تم تكريمه أم لا؟ تلك كانت بعض الأسئلة الساخرة في الأيام الأخيرة من المهرجان. فقد تمت دعوة يحيى الفخراني ليتم تكريمه في ختام مهرجان قرطاج المسرحي عام 2016، ولكن، وبعد وصول النجم المصري إلى تونس، اكتشف أنه لن يكرم، فغادر عائداً إلى مصر. تصدت بعض الصحف لتلميع الصورة، ولمغمغة الموضوع باللعب على الكلام، والتركيز على العلاقات الودية بين يحيى الفخراني والمشهد الثفافي التونسي، بينما أشارت صحف أخرى إلى أن الرجل أتى وغادر دون تكريم.

التخريب للمبتدئين

شخصياً، حضرت المهرجان نفسه من خلال المشاركة في العرض المسرحي الحركي (التخريب للمبتدئين) بإخراج مشترك مع الكوريوغراف السورية مي سعيفان، وكان مبرمجاً لنا أن نعرض مرتين. لم نستطع أن نعرض في المرة الأولى واضطررنا في المرة الثانية إلى الاستغناء عن بعض عناصر العرض، لعدم تأمين مستلزمات العرض من قبل المهرجان. الغريب أن الأمر لم يحرك ساكناً لدى منظمي المهرجان، ولكن دب الهيجان بسبب أمور تتعلق بغرف الفنادق. وبالطبع، يبدو أمر إلغاء أحد العروض أقل كلفة من تغيير غرف الإقامة.

لم يتعلق الأمر بفرقتنا فقط. منذ البداية، كان الاستهتار واضحاً بمسائل البروشور والمطبوعات والتجهيزات التقنية للعروض المسرحية الأخرى، وإقامة الضيوف المشاركين، وعدم توفير الديكور، والملاسنات والاستفزازت الشخصية. أصبح سوء التنظيم هو الحديث الأول الذي يتبادله المسرحيون الضيوف في المهرجان. ولم يكتف منظمو المهرجان بسوء التنظيم، بل أصروا على تقديم حجج وأعذار واتهامات تطاول الجميع. ولا أخفي حزني في معرض حديثي هنا، لأني، كالكثيرين غيري، أعتبر مهرجان قرطاج الفعالية المسرحية الأبرز في العالم العربي، ولم أكن لأكترث لو حدث ما حدث في مهرجان رسمي عربي آخر.

بالعموم، لا يبدو سلوك موظفي المهرجان خارج نطاق أسئلة حرجة تدور حول تنظيم الفعاليات المسرحية وتمويلها وإدارتها وتطويرها. وإن كان الموظفون الحكوميون القائمون على مهرجان قرطاج المسرحي غير معنيين باستثارة الأسئلة أو التأمل بتجارب تنظيمية أخرى، أو مواكبة تطور متطلبات العروض المسرحية، إلا أن فضائح مهرجان قرطاج المسرحي السابق وإجابات المنظيمن والموظفين عليها كانت، وبعمقها، تكرس مقولات بالية عن المسرح وقدسيته ونبله وذلك الطقس الاستثنائي الذي يضعنا في عوالم أخرى. وبالتالي كانت تكرس، كما دأب المسرح العربي الرسمي في فترات سابقة، المباعدة بين هذا الفن وجمهوره.

المسرح في العالم العربي إشكالي دوماً، ومنذ ظهور المسرح في المجتمعات العربية، دأبت المؤسسات والفرق المسرحية على تبرير وجود المسرح، فيربطونه تارة بالفن الغريب الذي أرسلته البعثات الأوروبية لتسلية رعاياها في البلدان العربية، وتارة بالنضال القومي ضد الاستعمار، وتارة بالتعليم والتنوير، وتارة بظهور الدولة القومية، وتارة بضرورة وجوده كمنبر ضد الاستبداد، وأخيراً بالفعل المدني الذي يدافع عن قيم الديمقراطية في المجتمعات المدنية. مر مسرحنا العربي بالكثير من هذه المراحل في القرن الماضي، وكانت عبارات قدسية المسرح وهالته وأبوته للفنون الأخرى ملازمة لكل مرحلة من هذه المراحل. وبالطبع لم يتوان الموظفون الحكوميون في مهرجان قرطاج عن ترداد هذه الشعارات والمطالبة بالتضحية لهذا الفن الراقي في معرض ردهم على احتجاجات الفرق المشاركة.

فن المجتمع المنتج

من الطبيعي، وأمام الانزلاق إلى هذه الإنشائيات، أن يبتعد المتحدثون الرسميون باسم المسرح عن أحد وجوه النشاط المسرحي، وهو حلقته الاقتصادية الخاصة به. وبعيداً عن الخطابيات الفارغة، يرى العديد من الباحثين استحالة أن تضعنا مسرحية ما عن هملت على سبيل المثال، خارج نطاق المدينة والدورة الاقتصادية المتعلقة بالمسرح. فلن ينسى المتفرج العالم الحقيقي خارج صالة المسرح، ووجود متفرجين آخرين في الصالة، والتذكرة التي دفع ثمنها، ورغبته بالحديث عن العرض المسرحي بعد انتهائه، كما يشير ريتشارد شكنر في مقالات عديدة تصدى فيها لتعريفات فنون الأداء وطرق تدريسها.

وبحقيقة الأمر، يعتبر المسرح من السلع القليلة التي يتقابل فيها المنتج مع المستهلك وجهاً لوجه:عندما يتقابل المتفرج الذي دفع ثمن التذاكر، مع الممثل الذي قبض أجره للعرض. هذه المواجهة هي التي أفرزت مفردات وأحاسيس متعلقة بالتجربة المسرحية حصرياً، كالارتباك، والإحراج، والإنكار، ورهبة الخشبة، والبقعة السوداء. ويروي لنا الباحث البريطاني جورج طومسن في كتاب (أسخيلوس وأثينا: 1941) بدايات التأسيس لعملية الفرجة المسرحية في المجتمع الأثيني، بشكلها المدني الذي نعرفه الآن. يقوم طومسون بربط ظهور المسرح والدراما في مدنية أثينا بتطور المجتمع الأثيني ليصبح مجتمعاً منتجاً، وبحسب طومسون تنامت لدى هذا المجتمع رغبات الاستهلاك، فكان المسرح أحد أشكالها.

قد تكون للمسرح جوانب عديدة متعلقة بالطقوس المقدسة، وقد يتشارك مع نشاطات أخرى كالكرنفالات والرياضة وطقوس الحصاد بعناصر عديدة كالعلاقة مع الزمن والأعراف المختلفة عما هو سائد في الحياة اليومية. ولكن يبقى المسرح مسرحاً، والعرس عرساً. وكما يتشارك المسرح مع فعاليات أخرى، فإنه بطبيعة الحال يختلف عن هذه النشاطات، ويمتلك الكثير من المفاهيم والتحضيرات التي لا تتشابه مع تلك الفعاليات. ولكن، ما زالت المؤسسات العربية حائرة بتصنيف هذا النشاط الفني. هل يتم وضعه في نقابة واحدة مع النوادي الليلية أم يتم إلحاقه بمؤسسات كوزارات الرياضة والشباب؟ هل يعتبر المسرح دائرة رسمية أخرى، أم أنه يتمتع باستقلالية ما عن السلطات، على صعيد الأفكار التي يستثيرها أو على صعيد آليات العمل والإنتاج؟ وهل يجوز أن يدخل المسرح في دوائر الفساد البيروقراطية الرسمية أم أن للمسرح هالة وقدسية تصب لعنات الأغريق على سارقي المسرحيين؟

دور ما للمؤسسات

لا يمكن إغفال ظهور مؤسسات عربية مستقلة للتجاوب مع المتطلبات الحديثة للمسرح. وشهدت السنوات الماضية إنشاء العديد من المؤسسات العربية الثقافية غير الحكومية المعنية بالمسرح. وكان لهذه المؤسسات دور ملموس في حركة الإنتاج للمسرح ودعم الكتابة المسرحية، وتأمين جولة العديد من الفرق المسرحية العربية في العالم. وبعض أعضاء هذه المؤسسات هم من درس الإدارة الثقافية، وواكب عمليات الإنتاج المسرحي بعيداً عن ترهات "المسرح أبو الفنون، وجدية المسرح أو المسرح الجاد".

قد يكون لحضور هذه المؤسسات أو الأفراد في الفعاليات الثقافية العربية الرسمية دور في هذا التخبّط. جمعت الدورة الفائتة من مهرجان قرطاج المسرحي مختصين وتلاميذ مستقلين ممن درسوا ويدرسون الإدارة الثقافية، وعاملين من وزارة الثقافة. توزع التنظيم بين عقليتين: الأولى، تعي تماماً متطلبات العمل المسرحي، ودهاليز متطلبات الممثلين والمخرجين، وحلولهم، وأحياناً أمزجتهم الشخصية، ومحسوبياتهم. بينما تفهم الثانية المسرح كمؤسسة حكومية أخرى للدولة، ولا تجد هذه الفئة مبرراً لاستثناء المسرح من الفساد، فينهبون المسرح كما تنهب دولهم مؤسساتها. وتعي هذه الفئة تماماً دهاليز البيروقراطية والفساد، ولا تلبي إلا أمزجة الوزراء والمدراء ومحسوبياتهم أيضاً. وهنا يكمن التضارب.

الشيخ إسبر

كان هذا التضارب واضحاً في مهرجان قرطاج. وبالطبع كانت هناك عادات التملص من الإهمال عبر إلقاء اللوم على الفئة الأخرى أو أشخاص آخرين أو لوم الضيوف. ولكن ظهر هذا التضارب جلياً في التطاول على المسرحيين التونسيين المستقلين كتوفيق الجبالي خلال ما سموه الندوات الفكرية. تلك الندوات التي صرف فيها المتحدثون وقتاً لا بأس به وهم يناقشون من سبق معمر القذافي في اكتشاف أن شكسبير هو "الشيخ اسبر". وتناطحت النعرات القومية ليؤكد متحدث عراقي أن هذا الاكتشاف يعود لباحث عراقي، بينما تنطح متحدث ليبي ليقول إن باحثاً ليبياً آخر كان الأسبق بهذا الاكتشاف قبل القذافي وقبل أي باحث آخر.

طبعاً، لا أريد من هذه السطور إرجاع العملية المسرحية برمتها إلى السياق الاقتصادي، فكما يعتبر المسرح محكوماً بمفردات التسويق وتقسيم العمل والمهام، والدعاية، هو محكوم أيضاً بمناقشة نظريات الجمال والأدب والارتقاء بها، ومناقشة سياقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فبالإضافة إلى الفهم الاقتصادي والتسويقي للمسرح، والذي يضع المنتج والمستهلك وجهاً لوجه، المسرح هو أيضاً اجتماع حي للعقول في قاعة واحدة. المسرح هو المكان الذي يجتمع فيه الناس في وقت واحد ليتشاركوا المعرفة والآراء السياسية والاجتماعية على حد تعبير ديريك هوبوود في كتاب (سوريا 1945-1986: السياسة والمجتمع: 1988).

يشمل تشارك المعرفة والآراء السياسية والاجتماعية، ما يختبره الجمهور والمسرحيون من العرض المسرحي نفسه. وكما أهمل مهرجان قرطاج عناصر توزيع العمل وأصر على انتهازيات الكسب والربح، استطرد بعض مدراء الندوات في الاستخفاف بعقول الحاضرين وبوقتهم، الأمر الذي دعا الباحث المسرحي الأميركي مارفن كارلسون إلى التعبير عن استيائه قبل بدء دوره في إحدى الندوات. وبعدما التزم المشاركون التهذيب وهم بحضرة كارلسون، اختفى المترجم الفوري فجأة. اختفى وفقط!

خوفاً من الفتنة

لعل السعي العربي لشرعنة المسرح في مدنه عن طريق ربطه بشعارات أخرى كالتنمية والنضال ضد الاستعمار والتعليم والمدنية، هو ما ورط المسرح بهذه الشعارات. أصبحت أي مساءلة عن الفعاليات المسرحية مساءلة عن هذه الشعارات التي يحتمي بها الموظفون الحكوميون. حاولت في هذه السطور أن أخرج بفهم ما لكيفية عمل المؤسسات المسرحية العربية، وما زلت أعتقد أن مهرجان قرطاج هو الأبرز، وحاولت أن أكون منصتاً لتبريرات الموظفين، وحاولت فهم استعلاء موظف ما في وزارة الثقافة التونسية على الفرق المشاركة كونه هو المستضيف، وأحزنني كل ما شهدته وخبرته، ولكني إلى الآن لم أفهم تبرير مدير المهرجان إرساله فرقة مسرحية للمكوث في فندق خارج العاصمة، لخوفه على ممثلات الفرقة من العوام والزعران التونسيين! فهذا ما قد يقوله أي فاشي متشبث بمنصبه.

                                                                                      
*مسرحي سوري يقيم في ألمانيا

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.