Skip to main content
قيمة رأس المال البشري
جواد العناني
سورية الخاسر الأول من هجرة أبنائها (العربي الجديد)

هنالك إشاعات وأقاويل كثيرة تدور حول اللاجئين المغادرين إلى أوروبا، عبر اليونان وإيطاليا وهنغاريا، والراغبين في الوصول إلى ألمانيا والنمسا، أو إلى بريطانيا وفرنسا. فمنهم من يقول إن الهجرات الأخيرة تتكون من أفراد، معظمهم من الشباب والذكور والإناث، وإنهم من البيض ومن حملة الشهادات الجامعية في التخصصات العلمية، أو فنيين من مستوى عالٍ.

ولا تتوفر معلومات أو إحصاءات دقيقة عن هؤلاء المهاجرين أو اللاجئين، وهم لاجئون لو ذهبوا إلى أوروبا، بقصد النجاة بحياتهم، هرباً مما ابتليت به أوطانهم من حرب ودمار، إلى أن يعطوا فرصة للعمل بدون نية العودة إلى وطنهم بعد ذلك، فيتحولون من لاجئين إلى مهاجرين.

ويقدر عدد اللاجئين في الفترة الأخيرة، والذين طرقوا أبواب الهجرة إلى أوروبا، ومن سيفيهم حتى نهاية العام بأكثر من نصف مليون شخص، جاء معظمهم بالدرجة الأولى من سورية ومن العراق واليمن وليبيا. وقد دخل هؤلاء اللاجئون منافسين للهجرة المعتادة إلى أوروبا من دول المغرب العربي.

وفي هذه الهجرة، اجتمع العنصران الكفيلان بخلقها: أولاً العنصر الطارد أو الدافع، والمتمثل في تعرض هؤلاء، في أوطانهم، للتهديد بالقتل والتشريد والاقتلاع. أما العنصر الثاني فهو العنصر الجاذب، حيث يكمن الوعد بحياة أفضل في أوروبا، خصوصاً في الدول التي تستقبل هؤلاء القادمين بالترحاب والتهليل.

ويبلغ معدل العمر المتوقع للرجال أكثر من 78 سنة، وللنساء حوالى 83 سنة. وبمعنى آخر، فإن هذه الدولة التي يبلغ الوسيط العمري أكثر من 46 سنة مقابل 30 سنة للعالم ككل، و21 سنة في الوطن العربي، وتقدر نسبة من بلغوا سن الخامسة والستين في ألمانيا أو أكثر بحوالى 21% من مجموع السكان.

حيال هذه الحقائق، ترى أهمية اجتذاب العنصر السكاني المتعلم خاصة أو المدَرب، أو القابل للتدريب من الشباب المتعلمين من كلا الجنسين من أبناء الأمة العربية، خصوصاً السوريين، فإنهم قادرون على تعلم اللغة الألمانية، وعلى التدرب لأداء أعمال كثيرة تحتاجها ألمانيا. وهؤلاء منجبون للأطفال، ما يسد فراغاً في هذه الخانة الديمغرافية.

وقد رأينا أن دولاً أوروبية، خصوصاً من شرق أوروبا، أو من كانت ضمن الاتحاد السوفييتي، أو داخل منطقة نفوذه، هي التي ترفض فكرة الحصص المقترحة من مفوضية الاتحاد الأوروبي.

وقد وصل الأمر، مثلاً، برئيسة وزراء بولندا، إيفا كوباش، إلى أن تصرح بأنها لن تقبل سوى المسيحيين منهم، ما يعكس درجة عالية من الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا)، أو حرصاً منها على تجانس مجتمعها.

اقرأ أيضاً: شركة ألمانية تعلن استعدادها توظيف اللاجئين

ولا يعني أن الاستقبال الحافل الذي شهدناه على شاشات التلفزة يعني أن كل الألمان، أو النمساويين، أو دول إسكندنافيا ترحب بالمهاجرين الجدد، بل حصلت تفجيرات داخل ألمانيا واحتجاجات، خاصة من أحزاب اليمين المتطرف.

وقد قويت الأحزاب اليمينية المتطرفة في دول أوروبية كثيرة، حتى المشهورة بسمعتها الطيبة حيال التسامح مع الأجانب، والتي يشهد سجلها على المساواة بين الجميع، بغض النظر عن أصولهم وأديانهم وألوانهم.

وقد رأينا ما جرى في النرويج وحتى هولندا وغيرها، ويكفي أن نستدل على أن حزب مارين لوبان أصبح ثاني أقوى حزب في فرنسا، وهنالك نزعة قوية ضد الأجانب (زينوفوبيا) داخل أوروبا، خصوصاً من المهاجرين من دول الجوار في جنوب البحر المتوسط.

وأمام هذه الحقائق كلها يكون السؤال: هل تربح هذه الدول من هذه الهجرة؟ الجواب: نعم. فالمهاجرون، في معظمهم، تركوا بلادهم، لكي لا يعودوا إليها، وهم بذلك خميرة طيبة قابلة بسهولة لنسيان ماضيها، وقطع صلتها به، والانخراط في الوطن الجديد والتأقلم معه.

ويعتمد مدى عمق هذا التفاعل على مقدار التسامح الممنوح للمهاجرين، إلا إذا نجحت الأحزاب اليمينية في دفعهم نحو التمحور دفاعاً عن النفس.

الأمر الآخر الذي يستحق الذكر أن هؤلاء الشباب، في معظمهم، من المؤهلين (أصحاب المهن والكفاءات) الذين لا يكلفون المجتمعات المضيفة كثيراً، قبل أن يصبحوا رصيداً إنتاجياً فيها.

وبلد صناعي، مثل ألمانيا، بحاجة إلى مزيد من الجهد البشري العضلي، والجهد الفكري والإبداعي. وألمانيا التي تحتل المركز الثالث أو الرابع الاقتصادي عالمياً (تتبادل هذا الدور مع اليابان)، علماً أن سكانها نصف سكان اليابان، ما يزال أمر التوسع الإنتاجي فيها كبيراً.

وانتقال الكفاءات والعقول يفقر البلد الذي تغادر منه، ويغني البلد الذي تنتقل إليه، وحتى لو كانت الأنظمة السياسية في بلد الأصل تدفع العقول إلى الهجرة، فإنها عندما تهاجر إلى بلد آخر، تغير من سلوكها وتقبل قوانين بلد الهجرة بكل أريحية.

وقد ألقى الأمير الحسن بن طلال عام 1977 الخطاب الأساسي في اجتماعات منظمة العمل الدولية في جنيف، قدم فيه مقترحاً بإنشاء صندوق دولي للتعويض العمالي.

وقال إن العالم لا يساوي بين الهجرة البشرية وهجرة رؤوس الأموال، ويوفر لرأس المال ضمانات بالتسديد، ويضع ضغوطاً فاعلة على من لا يسدد تلك الأموال، وهذا التمييز غير مقبول. وعليه، لا بد للدول المستقطبة للعقول أن تعوض الدول التي ترسل هذه العقول.

ومع أن الفكرة خضعت لأبحاث كثيرة، وقيل إن من غير اللائق اعتبار البشر مثل الآلة، علماً أن هذه الدول التي رفضت الفكرة بنت اقتصادها على العبودية، معلنين موقفهم أن من غير الممكن وضع قيمة على البشر.

وقد قمت، بالتعاون مع جاجديش باغواتي، الاقتصادي الهندي الدولي المعروف، بوضع نموذج لقياس قيمة العقول المهاجرة، لكن الدراسة رفضتها الدول المستوردة للكفاءات، وطويت صفحتها.

لذلك، لا داعي لإنكار قيمة الأدمغة والكفاءات المهاجرة، فما قيمة عالم مثل آينشتاين للولايات المتحدة؟ قيمته تفوق القياس.

نحن العرب الخاسرون من هجرة العقول، فالمدن كانت تهدم عبر التاريخ، ولكن يعاد بناؤها، أو ليست اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية أمثلة حية على ذلك؟


اقرأ أيضاً: النظام السوري يحمّل اللاجئين فشله الاقتصادي