خيمة فوق رؤوس متسوّلي العراق
آدم محمود ــ بغداد
تسعى إلى كسب عطف الناس (علي يوسف/ فرانس برس)

هو في العاشرة من عمره وقد بُترت ساقه. يحمل في يده كيساً شفافاً يضع فيه التمر والخبز. ملابسه رثة ومتسخة، وحذاؤه قديم وممزق، ويبدو أنه يقصّ شعره بنفسه. حاله هذه تجعل كثيرين يعطفون عليه، فيعطونه النقود من دون أن يضطر إلى طلب المال حتى.
كسب عطف الناس فن ومهارة، وهو ما يتمتع به ذلك الطفل، الذي كان يتخذ من منطقة الكرادة في وسط العاصمة العراقية بغداد موقعاً للتسوّل. ترك المنطقة مرغماً بعدما كشف صاحب مطعم حيلته، وتبين أن ساقه ليست مبتورة، ويجني يومياً ما لا يقل عن 450 ألف دينار عراقي (نحو 200 دولار أميركي).

في العراق، ليس صعباً أن يختار أيّ كان التسوّل ويستجدي عطف الناس لجمع المال. هذه الوسيلة لكسب الرزق تحوّلت إلى ظاهرة، ويُشاهد المتسوّل في كلّ مكان وفي أي وقت. يمكنك أن ترى متسوّلين من مختلف الأعمار وكلا الجنسين. وتتعدّد الوسائل وتتجدّد، ما يشير إلى وجود عقول مدبرة، فيما لا تمنعهم الظروف الأمنية عن التسوّل.

ويبدو المتسوّلون قادرين على استغلال جميع الظروف لصالحهم. لكن يكمن الخطر في وجود شبكات منظمة للتسوّل يديرها مسلّحون، ويعجز المعنيون عن إيقافهم، بحسب ما يقول ضابط في وزارة الداخلية العراقية رفض الكشف عن اسمه لـ "العربي الجديد". ويوضح أن ثمة شبكات منظمة تدير عمل المتسوّلين وتوفر غطاءً أمنياً لهم، وتحجز مناطق تمنع متسوّلين آخرين من العمل فيها. ويؤكد الضابط أن القوات الأمنية المتخصصة "لا تستطيع فعل شيء على الرغم من خطورة هذه الظاهرة التي تعد جريمة"، عازياً السبب إلى "ارتباط الشبكات بجهات مسلحة تستخدم نفوذها داخل المؤسسات الأمنية في حال اعتقل متسوّلون يدّعون أنهم غير أصحاء". يضيف أن "بعض النساء المتسوّلات يستخدمن الأطفال الرضع كوسيلة لكسب عطف الناس. تجلس امرأة على الرصيف وطفلها في حجرها. هذه جريمة بحق الطفل الصغير. لكن القوة أي المليشيات فوق القانون وهذه حقيقة".

ويلفت الضابط نفسه إلى أن "المليشيات التي تسيطر اليوم على الوضع في العراق معروفة، خصوصاً أن التسوّل يدرّ أرباحاً كبيرة". يضيف: "راقبت متسوّلين كانوا يجنون مبالغ مالية كبيرة، وعلمت من زملائي الضباط الذين حققوا مع متسوّلين أن بعضهم يجني في اليوم الواحد ما يعادل 500 دولار".
وتعدّ مراكز المدن في بغداد والمحافظات الأخرى المناطق الأكثر أهمية بالنسبة إلى المتسوّلين، علماً أن تدفق الناس على الأسواق والمراكز التجارية لا بدّ من أن ينعكس ايجاباً على المتسوّلين. ويقول محمد الربيعي، الذي يعمل في جهاز الشرطة في بغداد، إنه قابل عدداً من المتسوّلين، لافتاً إلى أن بعضهم يتحول كائناً مختلفاً خارج أوقات العمل. يضيف لـ "العربي الجديد": "أخبرني شخص أن ثمّة من يُشغّله، ويوفر له في مقابل ذلك السكن والحماية، ويعطيه نسبة من الأرباح. وقد تعرضت له الشرطة مرات عدة إلى أن تدخل رئيسه في العمل، خصوصاً أن لديه علاقات قوية".

ويشير الربيعي إلى أن ثمة أساليب كثيرة ومختلفة ومتجددة يعتمدها المتسوّلون، لافتاً إلى أن رؤساءهم يتابعون أفلاماً ويطلعون على تقارير تتعلق بالتسوّل، وهي ليست محلية فقط بل عالمية. يتابع: "يستغل هؤلاء أحوال الطقس لصالحهم مهما كانت سيئة. من يرى امرأة تستجدي عطف المارة وقد تبللت من المطر، أو ترتجف من شدة البرد، لا بد من أن يتعاطف معها ويرقّ قلبه".

إلى ذلك، فإن التفجيرات التي تشهدها العاصمة العراقية تستغلّ أيضاً من قبل المتسوّلين. فالتفجير الدامي الذي يحصد أرواحاً كثيرة هو فرصة لجني المال. الأمر لا يتطلب سوى البكاء والاستنجاد بكرم الناس، والعبارات جاهزة: "ولدي الصغير أصيب في تفجير الأمس، وهو في المستشفى عاجز عن الحركة، وقال الأطباء إن تسفيره ضروري إلى خارج العراق للعلاج".
في هذا السياق، يقول الشيخ القبلي أحمد العلكاوي لـ "العربي الجديد" إن التسوّل أمر لا يرضى به شيوخ العشائر لأبناء عشائرهم، موضحاً أن "العراق ما زال ملتزماً بالعشائرية، وعادة ما يدير الشيوخ شؤون عائلاتهم". يضيف أن "هذه العائلات والعشائر جميعها تعتمد مبدأ التكافل، وتخصص صندوقاً مالياً للمحتاجين من أبنائها. وفي حال عانى أحدهم من ضائقة مالية، تعينه بسبب رفضها اللجوء إلى التسوّل". ويوضح أن هؤلاء المتسوّلين لا يرتبطون بالعشائر، وقد خرج كثيرون عن طريق الاستقامة، وعلى الحكومة أن تتصرّف وتوقف هذه الظاهرة الخطيرة على المجتمع".

اقرأ أيضاً: أطفال الشوارع.. يلجأون للادمان في مصر لاتّقاء البرد