Skip to main content
حاشية في ذكر "الساتياغراها"
عبد اللطيف السعدون
المهاتما غاندي.. استعاد مفهوم اللاعنف وهجه (Getty)
ربما لم يسمع كثيرون بمفردة "الساتياغراها" التي تعني "قوة الحق"، أو "الثبات على الحقيقة"، والتي يطلقها أصدقاؤنا الهنود على فلسفة اللاعنف التي ابتدعها زعيمهم الراحل، المهاتما غاندي، وقد عاد ذكرها إلى الواجهة هذه الأيام مع احتفالات مرور قرن ونصف القرن على ولادته، وحلول اليوم الدولي للاعنف الذي اعتمدته الأمم المتحدة للتذكير بالآفاق التي تفتحها التوجهات السلمية في حل الصراعات بين الدول، والسعي إلى بناء عالمٍ جديدٍ خالٍ من قعقعة السلاح، وقد استعاد مفهوم اللاعنف وهجه مع خفوت وهج نظريات "العنف الثوري" التي صبغت حركات التحرّر في آسيا وأفريقيا في خمسينيات القرن الراحل وستينياته.
كان العالم العربي، في تلك الفترة، يموج على وقع تحولاتٍ كبرى، على صعيد مواجهة الاستعمار والفئات الحاكمة التي شكلت البديل لسيطرته المباشرة، مستخدمةً شتى أدوات القهر والإذلال في تعاملها مع مواطنيها، وكان علينا، ونحن نتطلع إلى حال أفضل، أن نواجه تلك التحدّيات على نحوٍ يضعنا في قلب حركة العالم السائر إلى الأمام. آنذاك، كنا مقتنعين بأن الكفاح المسلح وحده يمكن أن يحقق لنا تطلعاتنا. وفي غمرة حماسنا الذي لم نكن نملك أثمن منه، وإعجابنا بما حققه كاسترو، وما نظّر له جيفارا وفرانز فانون، لم نعط اهتمامنا لما كان يطرحه دعاة اللاعنف والمعجبون بتجربة الهند، بل كنا نعمد، في مناقشاتنا، إلى تسفيه فلسفة اللاعنف باعتبارها سلاح الضعفاء والعاجزين. وكنا وقتها ندعو إلى اعتماد "العنف الثوري" ليس في مواجهة قمع المستعمر المحتل فحسب، بل وسعنا هذا المفهوم إلى درجة استخدام العنف ضد رفاق طريقنا في الحركات الثورية الأخرى، حيث تبادلنا معهم لعبة "الجلاد والضحية"، واستخدمناه أيضا ضد رفاقنا في الحركة، أو الحزب الذي ننتمي إليه، مقتفين أثر شاعرنا الذي كتب معبّرا عما يحصل: "من قبل أن تقتلني سأقتلك، وقبل أن تغوص في دمي أغوص في دمك".
في حينها أيضا، استثمرنا أسلوب الاغتيال السياسي أسوأ استثمار، لتصفية الرفاق المنشقين عنا، أو المشاغبين ضدنا، وفي ظل مبرّر أننا لا نريد أن نموت على أيدي جلادينا السابقين، سلبنا 
الحياة من مئات الوطنيين المدافعين عن بلدهم، لمجرد خلافهم معنا أو اختلافهم عنا، وغيّبنا مثلهم في السجون والمعتقلات، وخسرنا مراتٍ فرصا كان يمكن أن تستغل لبناء بلداننا وتنميتها وتقدمها، لكننا، مع تقدّم الزمن، أدركنا واقع الحال الذي وصلنا إليه. واكتشفنا أن الحماس قد يقتل صاحبه، وهذا ما حدث معنا مرارا، ومن دون التوغّل في التفاصيل، بدأنا التحرّر من نظرياتنا المستعارة، متطلعين إلى فضائل فلسفة اللاعنف التي أخذت تكتسب شرعيتها من جديد لدى المكافحين من أجل الحق، بعد مئة عام على تبنّي أصدقائنا الهنود لها، وشرعنا نتأملها لنقرّ معهم "أننا لا نكسب معركتنا بمقدار ما نقتل من خصومنا. ولكن بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل"، ولنتعلّم منهم أن القتل لا يصنع دولة، وأن مسؤوليتنا أن نتحمّل سخط معارضينا، ونسمع انتقاداتهم التي تمثل وجها آخر للحقيقة التي نبحث عنها، والحقيقة بطبيعتها حمّالة أوجه.
وعلى وفق ما رد غاندي على معارضي فلسفته، فإن "الساتياغراها" ليست دعوةً إلى اللاعنف على نحو مطلق، إذ هي ترفض الضعف والاستكانة، ولا تستسلم لإرادة الطغاة، بما يعنيه ذلك من فقداننا إرادة الكفاح، وتراجعنا عن المطالبة بالحقوق. ولو خيّرنا بين الاستسلام لما يفرضه الطغاة علينا أو الرد بعنف، لكان علينا الأخذ بالاختيار الثاني، ولكن بعد استنفاد كل الخيارات السلمية المتاحة: الاحتجاج، التظاهر، الاعتصام، المقاطعة، الإضراب عن العمل، العصيان المدني، عدم التعاون مع السلطة وعدم تنفيذ قراراتها، وكل الأشكال الأخرى التي تضمنها لنا القوانين والشرائع الإنسانية. وعند هذا المنعطف، يصح أن نوثّق معاناتنا وننقلها إلى العالم لإحداث حالة وعي على المظالم التي نعيشها، وبالتالي الحصول على تعاطفٍ يمنحنا قدرا أوفر من الحماس، ويعزّز الثقة في نفوسنا، ويصعّد من قدراتنا على تمثّل "الساتياغراها" في مجريات حياتنا السياسية والاجتماعية.
نقرّ أخيرا بأننا جئناها متأخرين، بعدما تركناها وراء ظهورنا زمنا مديدا، وقد أصبحت اليوم مطلوبةً عربيا، حيث يتفجر عالمنا توتراتٍ عرقية، وصراعاتٍ مذهبية وآلاما، ويقيم أبناؤه ويقعدون على وقع مقادير لا حدّ لها من مظالم وشرور، تنال من حقوقهم الطبيعية في الحياة والحرية والكرامة.