Skip to main content
توزر التونسية... رحلة "الشاقْ واقْ" الساحرة
وليد التليلي ــ توزر
تُعتبر محافظة توزر قلب الصحراء التونسية ومنفذها الأجمل إلى كثبان الرمال والشلالات الطبيعية، وهي بالخصوص واحدة من أورَف واحات النخيل فيها، عرفها التونسيون وغيرهم بتمورها الاستثنائية التي تُصدَّر إلى كل بقاع العالم.


ولكن توزر أيضاً مدينة العلماء والقضاة، وهي بالأساس مدينة شاعر تونس الخالد، أبو القاسم الشابي، صاحب "إذا الشعب يوما أراد الحياة.." و"سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشمّاء"، ولذلك نقش "الجريديّون" (نسبة لأهل الجريد، أي سعف النخيل) صورته ونسره الشهير على الصخر في مدخل الصحراء في منطقة تسمى "عنق الجمل".


ولأنها كانت دائماً ملهمة للقصص والقصائد والأساطير، فقد أقدم أحد أبنائها، رجل الأعمال عبد الرزاق شريّط، على تحويل جزء من واحاتها إلى متحف عملاق، أطلق عليه اسم "الشاق واقْ"، نسبة إلى المدينة الأسطورية التي شغلت كتّاب الأسطورة والحكايات القديمة.


و"الشاق واقْ" متنزّه عملاق، ومتحف تاريخي في الهواء الطلق، يسرد قصة الإنسان منذ بدأ الخلق، يتضمن مجسمات بالأبعاد الحقيقية لكل المراحل التاريخية التي مرّت بها الإنسانية، وفقا للقراءة العلمية وللتاريخ الديني.


وتبدأ الرحلة من فضاء إلى آخر بحسب التسلسل التاريخي، مع قصة الانفجار الكبير ثم العصر الحجري والديناصورات وسفينة نوح وكل مرحلة من مراحل الديانات السماوية وقصص الأنبياء، بمجسمات غاية في الإتقان. ومع كل مرحلة من المراحل، يمكن للسائح أن يستمع إلى قصة صوتية باللغة العربية أو الفرنسية أو الإنكليزية، تساعده في فهم المرحلة.


وتشكل المرحلة الفرعونية بالذات تحدياً تقنياً كبيراً، إذ أقدم الفنيون التونسيون على محاولة تجسيد انفطار البحر عند عبور النبي موسى بقومه هرباً من الفرعون، علاوة على مجسمات الأهرامات والفراعنة وغيرها.


ولعل "الشاق واقْ" من أكبر المتاحف المفتوحة في المنطقة، وهي بكل الأحوال رحلة تعليمية وخيالية فريدة للصغار وللكبار على حد سواء، كانت تثير دهشة آلاف السائحين الذين يتوقفون عندها قبل الولوج إلى رحلة الصحراء المذهلة، ولكن السياحة اليوم تتحرك ببطء شديد بسبب الأزمة التي تمر بها، عدا بعض الحافلات التي تجيء بعشرات من التلاميذ والطلبة التونسيين.


وتتحدث مواطنة توزرية عن هذا التراجع السياحي الذي أتعب المدينة وأهلها، آملة في تحقق الوعود بعودة سياحية قوية هذا العام مثلما يقول المسؤولون، وبسخرية جريديّة معروفة، تتجادل مع الطلبة الذين جاؤوا من مكان بعيد يتذوّقون أكلتها الشهيرة ("المطبّقة")، وهي بيتزا تقليدية حارة عرفت بها توزر وسائر بلاد الجنوب.




رحلة توزر العجائبية لا تتوقف عند "الشاق واقْ"، بل تنطلق من متحف دار شريّط الذي سبقها في الزمن، عندما قام عبد الرزاق شريّط بجمع مقتنيات تقليدية تشمل كل العادات والتقاليد، وحاول تجسيمها في لقطات تصوّر بعض العادات التونسية، مثل مراحل الزواج، والحمّام التقليدي، والكُتّاب، حيث يتعلم الصبية القرآن واللغة العربية، وتفاصيل من الحياة التقليدية اليومية والحرفية، بالإضافة إلى متحف كبير للوحات التشكيلية البارزة التي اقتناها لأهم الرسامين التونسيين. 


وشهدت مدينة توزر مع ولادة متحف دار شريّط، انطلاقة سياحية جديدة في تسعينيات القرن الماضي، وأصبحت تضم عشرات الوحدات الفندقية الراقية التي تشهد ذروة إشغالها في فصلي الخريف والشتاء ورأس السنة، ولكنها تشكو اليوم، ككل الفضاءات السياحية، تراجعا مخيفا يتضح تأثيره على أهالي المدينة، مع بوادر بتحسن الأحوال وتجدد المهرجانات التي كانت تحرك كل الجهة.


لكن توزر ببنائها الفريد وجدرانها المصنوعة من الآجر، وبقصصها القديمة وشعرائها، وسخرية أهلها الشائعة من كل شيء، تبقى رحلة خيالية ملهمة للتونسيين والزائرين على مدى الزمن، وتنتظر كما كل شيء في الصحراء أن تهدأ العواصف قليلا حتى تستمر الحياة فيها.