Skip to main content
انتصار البطش تتكلّم الفصحى
يامن سلمان ــ غزة
وجدت طريقها في الحياة (محمد الحجار)


ربّما يكون المسار الذي اختارته الغزية انتصار البطش غير مألوف. هذه الفتاة لا تتحدث إلّا بالعربية الفصحى التي قررت عدم استبدالها بلغة أخرى

يتفاجأ كثيرون حين تتحدّث اللغة العربية الفصحى، وقد قطعت عهداً على نفسها ألّا تتحدث العامية بالمطلق، وإكمال رحلتها في الحديث بالعربية في المنزل والشارع وكليتها وجلساتها مع صديقاتها. كما استطاعت التأثير على من حولها. انتصار إياد البطش (21 عاماً) تدرس الإعلام وتكنولوجيا الاتصال في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية، وتتحدّث اللغة العربية الفصحى منذ تسع سنوات، أي منذ كانت مدرسة اللغة العربية وردة عبد العال تدرّسها اللغة العربية في المرحلة الإعدادية.



وهذه المدرّسة كانت تتكلّم الفصحى أمام تلميذاتها. واعتادت انتصار قراءة الكتب التي كانت تحضرها برفقة والدها من مكتبة اليازجي منذ كانت في الصف الرابع الابتدائي، وأول كتاب حصلت عليه من والدها هو كتاب "رياض الصالحين". تعلّمت البطش الفصحى من الكتاب، وتعمقت في اللغة العربية من خلال قراءتها المستمرة للقرآن والمناهج المدرسية. ثم بدأت تقرأ الكتب الثقافية والدينية والتنمية البشرية التي أكسبتها ثقة أكبر في نفسها.

وتقول البطش لـ "العربي الجديد": "والدي كان مشجعاً لي، إضافة إلى المدرّسة عبد العال التي شجعتني على التحدث باللغة الفصحى. لكنّني لم أجد الاهتمام الكافي داخل المدارس الحكومية، خصوصاً أنني كنت التلميذة الوحيدة التي تتحدث العربية الفصحى. إلا أن أسرتي المكونة من 11 فرداً منحتني الاهتمام".




واجهت البطش في البداية انتقادات وسخرية من زميلاتها في المدرسة، وكانت تلجأ إلى والدتها وتبكي. لكن الأخيرة كانت تشجعها، وكانت تعلم مدى صعوبة أن تتحدث ابنتها الفصحى في مجتمع يتحدث العامية.

أنهت انتصار مرحلة الثانوية العامة في عام 2015، لكن لم يكن عاماً عادياً. وبسبب ظروف خاصة عايشتها، رسبت في مادتي الجغرافيا والتاريخ. وبعد إعادة تقديمها للمادتين في مرحلة الإكمال في العام نفسه، نجحت وحصلت على معدل 60.6 في المائة، والتحقت في الكلية الجامعية.

ودرست في الفصل الدراسي الأول التربية الأساسية بناء على رغبة أسرتها في أن تكون مدرسة، لكنّها قررت تغيير تخصصها، وتوجهت إلى كلية الإعلام، فانتقدها الأستاذ لأنها تتحدث العربية، وشجعها على التحدث بالانكليزية.

بعد مضي فصل كامل، تغيرت نظرة الأستاذ للبطش، وعرض عليها أن تقدم حفلاً في إحدى القاعات المعروفة في قطاع غزة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية في عام 2016، ثم انطلقت في المجال الإعلامي. واليوم، تكاد لا تترك أياً من الورش التدريبية أو المؤتمرات والمعارض الوطنية بهدف التشبيك، إضافة إلى الدورات التدريبية الإعلامية والحقوقية.

وتتعرّض في الكثير من الأحيان للانتقاد في الشارع ومع بعض الباعة، لكن اعتاد البعض على طريقتها في الحديث بالفصحى، بل أصبحوا يبادلونها الرد بالفصحى خصوصاً الباعة في شارع عمر المختار وسط مدينة غزة. بدأت انتصار تنطلق أكثر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأنشأت لها حسابات شخصية، وأصبحت تحظى بأكثر من 41 ألف متابع على تطبيق انستغرام الذي تنشر عليه بعض مقاطع الفيديو التي تتحدث فيه عن بعض الأخطاء اللغوية الدارجة في حياتنا اليومية.



تضيف البطش: "البعض كان يتعجب من المحتوى الذي أقدمه، لكن أضفت شيئاً جميلاً بالنسبة لأصول اللغة العربية، وبان الناس أكثر تشجيعاً لي. نجحت بعد تسع سنوات من التحدث بالعربية الفصحى في كل مكان ومع أقرب صديقات، لكن ما زال البعض يسخر مني، خصوصاً الذين أقابلهم للمرة الأولى".

استطاعت البطش التأثير بالآخرين من حولها، وأصبحوا يبادلونها الحديث بالفصحى بعدما كانوا ينتقدونها. وتشير إلى أن رجال الأمن على بوابة الجامعة يتحدثون معها بالعربية الفصحى، ويردون عليها بطريقتها نفسها، إضافة إلى عدد من أساتذة كليتها وزميلاتها. وتقول: "لست ضد اللغة الإنكليزية، لكن هناك من يشعرون أنهم أكثر قوة عندما يتحدثون الإنكليزية أمام الناس . لكنّني أرى أن لغتنا العربية هي أجدر أن نتحدث بها ونفهمها بشكل صحيح".




في الوقت الحالي، تتولّى البطش التدقيق اللغوي لنشرات الكلية الجامعية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وما زالت تنشر مقاطع فيديو صغيرة على موقع انستغرام. وتفكّر أن تنشئ مركزاً لتعليم اللغة العربية ليس بهدف تحويلها إلى لغة تخاطب، بل لتعزيز العربية في فن الخطابة وأصولها وبيئة العمل وغيرها. وتدرك أن الطريق ما زال طويلاً، لكن جهودها بدأت تثمر على الأقل.