Skip to main content
الاقتصاد التركي أمام اختبار التحديات الخارجية
عبد الحافظ الصاوي
القطاع الخاص يقود الاقتصاد التركي (Getty)
لم تدع الأوضاع الإقليمية لتركيا مجالًا لتحقيق حالة من الاستقرار في العلاقات الاقتصادية مع دول الجوار والمحيط الإقليمي، وذلك بسبب الأحداث السياسية، سواء منها ما يتعلق بالصراعات القائمة في دول الجوار، أو تلك التي تمثل احتكاكا مباشرا بقضايا تخص تركيا.
وشهدت العلاقات التركية مع دول الخليج، خلال الأعوام القليلة الماضية، خلافاً حول مصير بلدان الربيع العربي، وما نتج عنه من تلويح لدول خليجية بسحب استثماراتها من تركيا.
كما أن حادث إسقاط الطائرة الحربية الروسية نهاية عام 2015 قرب الحدود التركية السورية، خلق توتراً مع روسيا، قبل أن تعرب أنقرة الأسبوع الحالي عن أسفها للحادث في محاولة لتطبيع العلاقات من جديد مع موسكو، وهو النهج نفسه الذي تم اتخاذه مع إسرائيل، حيث تم الإعلان يوم الأحد الماضي عن اتفاق لتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية، في خطوة لطي صفحة الخلاف بسبب حادث الاعتداء الإسرائيلي على سفينة الحرية في عام 2010، والتي كانت متجهة لإغاثة قطاع غزة المحاصر.
إن التحدي الاقتصادي في تركيا، لم يعد الحفاظ على ما تحقق في الفترة الماضية من منجزات اقتصادية، ولكن رؤية تركيا في 2030، والتي تستهدف أن تكون من بين أكبر 10 اقتصاديات في العالم، ووضعها الآن في المرتبة 18 من بين مجموعة الـ20 الاقتصادية.
وبلا شك أن توتر العلاقات السياسية لتركيا مع شركائها التجاريين أو الإقليميين من شأنه أن يعطل الوصول لهدف رؤية 2030، فضلًا عما يترتب عليه من مشكلات اقتصادية واجتماعية داخلية، من بطالة وتضخم، وركود، وتأثير سلبي على معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، والذي عُدّ من أكبر معدلات النمو من بين الدول الأوروبية، حيث قدّر بـ4% خلال عام 2015، وهي مشكلات خرجت من دوامتها تركيا على مدار نحو أكثر من عشر سنوات مضت.
وأظهرت بيانات رسمية صادرة عن معهد الإحصاءات التركي في وقت سابق من يونيو/ حزيران الجاري، نمو الناتج المحلي الإجمالي لتركيا بنسبة 4.8% على أساس سنوي في الربع الأول من 2016، ليتجاوز توقعات خبراء الاقتصاد.

مظاهر التحدي

لم تمر تلك الأحداث السياسية دون تداعيات اقتصادية سلبية، حيث أعلنت روسيا بعد إسقاط تركيا لطائرتها العسكرية عن عقوبات اقتصادية ضد المنتجات التركية، كما منعت وصول بعض رجال الأعمال، وهددت بوقف الرحلات السياحية.
كما ثمة مخاوف من أن يؤثر استدعاء السفراء بين كل من تركيا وألمانيا بسبب إدانة تركيا في أحداث الأرمن، على العلاقات الاقتصادية، في ظل كون برلين الشريك التجاري الأول لأنقرة.

وتبيّن أرقام عام 2015 أن حجم التبادل التجاري بين تركيا وألمانيا بلغ 34.7 مليار دولار، وأن رصيد التبادل التجاري يفضي إلى فائض لصالح ألمانيا بنحو 7.9 مليارات دولار. ولا بد من الأخذ في الاعتبار أن ألمانيا من أكبر دول أوروبا استيعابًا للجاليات التركية.
ووفقاً لأرقام معهد الإحصاء التركي، بلغت التجارة الخارجية لتركيا في عام 2015 نحو 351 مليار دولار، وتوفر لها في العام نفسه 12.7 مليار دولار كاستثمارات أجنبية مباشرة، وحصلت على 31.4 مليار دولار عوائد سياحية، على الرغم من تراجع أعداد السائحين في عام 2015 بسبب أحداث العنف التي شهدتها تركيا، وكذلك تهديدات روسيا بوقف الرحلات السياحية بعد حادث إسقاط الطائرة.
ونجد أن المكونات الثلاثة الرئيسة للعلاقات الاقتصادية لتركيا تصل إلى 395.1 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 49.5% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي البالغ 798 مليار دولار، أي أن العلاقات الاقتصادية الدولية تمثل درجة كبيرة من الأهمية للاقتصاد التركي، وبخاصة أن تجربتها الناجحة كدولة صاعدة في مجال التنمية، اعتمدت بشكل رئيس على مبدأ الاندماج في الاقتصاد العالمي.

محاولات التوازن

ورغم خلافات تركيا السياسية المعلنة سواء مع دول عربية أو أوروبية، لم تعلن عن استخدام ورقة العلاقات الاقتصادية في هذه الخلافات، بينما يأتي التهديد باستخدام العلاقات الاقتصادية من قبل أطراف أخرى، وتترك تركيا مسار تلك العلاقات للقطاع الخاص، الذي يمثل عصب علاقاتها الاقتصادية في الخارج.
ففي الوقت الذي من المفترض أن تتوتر فيه العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإيران بسبب عضوية تركيا في التحالف الإسلامي بقيادة السعودية التي تناصب إيران العداء والدخول في حرب مفتوحة في اليمن، نجد الشركات التركية تمهّد لعلاقات اقتصادية طويلة الأجل، مثل إنشاء مركز تجاري دائم لحوالي 100 شركة تركية في طهران، كما فازت شركة تركية في وقت سابق من يونيو/ حزيران الجاري بتنفيذ 7 محطات كهرباء تعمل بالغاز الطبيعي في إيران بنحو 4.5 مليارات دولار.


وفي الوقت نفسه توطد تركيا علاقاتها الاقتصادية في الخليج، من خلال القاعدة العسكرية التي ستقيمها مع قطر، والتي سوف تستغرق 3 سنوات للتنفيذ.
كما تشارك تركيا السعودية في أبحاث وتطوير منتجات عسكرية، وفي الكويت فازت شركة تركية بصفقة توسعة مطار الكويت بحوالي 4.3 مليارات دولار. وهي أعمال من شأنها أن تعزز من التواجد التركي في المحيط الخليجي، ولم يمنع هذا من علاقات اقتصادية لتركيا في المغرب العربي، سواء من خلال زيادة حركة التجارة مع كل من (تونس، والمغرب، والجزائر) أو الدخول في مشاركات استثمارية، بإنشاء مشروعات مشتركة.
وحرصت أنقرة كذلك على تقوية علاقاتها الاقتصادية مع دول الجوار في منطقة آسيا الوسطى، من خلال خلق مصالح اقتصادية استراتيجية، لتمرير خطوط إمدادات الغاز من هذه الدول لأوروبا، لتكون تركيا همزة الوصل بين هذه البلدان وأوروبا، وكذلك تحقيق استفادة مالية من خلال الحصول على حصة من عائدات صادرات النفط، كذلك الحصول على حصة من الغاز الطبيعي، والذي تعاني تركيا من نقص حاد فيه وتعتمد بشكل عام على استيراد الطاقة.

وعلى صعيد التغلب على المشكلات التي تواجه قطاع السياحة، اتجهت تركيا إلى تنمية مناطق وأنشطة سياحية خارج مدينة اسطنبول التي تحظى بأكبر عدد من السائحين، حيث خاضت إحدى المدن التركية نشاطا جديدا من شأنه أن يجذب المزيد من السائحين، وهو إغراق طائرة لمدة ساعتين ونصف لاستمتاع السياح برياضة الغوص تحت الماء.

عودة العلاقات

بعد تشكيل التحالف الإسلامي، حصدت تركيا العديد من المزايا الاقتصادية من قبل السعودية، وأُعلن أخيراً عن زيارة وزير خارجية تركيا لدولة الإمارات، والتي اصطدمت مع تركيا العداء بعد الانقلاب العسكري في مصر عام 2013.
كما تركت تركيا المجال للعلاقات الاقتصادية مع مصر مفتوحاً، ولم يتأثر حجم التبادل التجاري بينهما إلا بنزر يسير، بسبب تراجع الاقتصاد المصري، حيث بلغ إجمالي التبادل التجاري بين مصر وتركيا في عام 2015 نحو 4.3 مليارات دولار، مقارنة بـ4.7 مليارات دولار في عام 2014.
وبالنظر إلى وضع تركيا الإقليمي والدولي الآن، وسعيها لأن تكون أكبر من توصيفها كأحد المحاور الرئيسة إقليمياً، وأن تصبح القوة الإقليمية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، فسنجد أن لما يتخذ من مواقف سياسية ثمن لا بد أن تدفعه أنقرة، ولكن التحدي هو إدارة هذه الأزمات بأقل خسائر ممكنة في العلاقات الاقتصادية الخارجية.