وكلما أعود.. يرحلُ الوطن!

وكلما أعود.. يرحلُ الوطن!

21 نوفمبر 2014
+ الخط -

الوطن، لا تقتصرُ حدوده على خطوط العَرْض والطول المرسومة على الخريطة. الوطن انتماء، الوطن تضحية، الوطَن فِداء! وليس كل الراحلين عن أوطانهم غرباء، بل الغرباء الحقيقيون هم الذين يعيشون في أوطانهم غُرباء!

استهواني كثيرًا بيتان، كُنتُ أتمثّلُهُما، لشاعر قديمٍ مُغرَمٍ بمصر، يصِفُ جمالها، وطِيب سُكناها، ويفضِّلها على غيرها من البلاد، فيقول:

جميع الأرضِ فيها طِيب عَيْشٍ ** وروضاتٌ وأزهار أنِيقةْ

ولكنْ كُلّ ذا في غير مِصر ** مجازٌ، وهو في مصر حقيقةْ

فالنعيم الذي يلوح في الأقطار الأخرى مجازي، أمّا النعيم الحقيقي فهو الذي ينعَمُ به أهل مصر. أينَ هذا الشاعر مما نحن فيه؟ أكانتْ كلماته صادقةً في زمنه الغابر، ولماذا يغيب صداها عن واقعنا المريض!

وتتواترُ المقولات التي تُؤِّكدُ الحفاوة بمصر وأهلها، فهذا "المقّريّ" المغربي صاحب "نفح الطِّيب"، يقول: (من لم يزُر مِصر، لم يعرف عِزّ الإسلام)!

إنّها مصر، مَوطنُ العِزَّة والفخار، على الرغم من أن واقعها منذ سنين مرير، لكنّها لا تعدِم الأخيار، فما أنقى معدِن أهلها، وما أشدّ نفاسته! وما أصلبَ بنيها أمام الشدائد والمِحَن! وإنْ بدا للرائي فيهم سكونًا، فإنّه سكون خادِع، كسخونة الرَّماد، حين تشتد، ينفجِرُ، فلا يُبقي ولا يذَر!

إنّ بني مصرَ مهما شرّقوا أو غَرَّبوا، أو غابوا عنها ورحلوا سعيًا وراء رزقهم، فهي لا تغيب عنهم، بل هي في سويداء القلب. وأكادُ أجزِمُ أنّ حبَّ مِصر متغلغلٌ في قلوب بنيها الراحلين عنها قَسْرًا، أضعاف أضعاف حبِّ الساكنين بها، وأنّ الشوْق العارم لهوائها وترابها، وحتى ضجيجها وزحامها، شوْقٌ لا ينقطِعُ، يُبدِّدونهُ بالدّعابة النّادرة، والفكاهة الحلوة الساخرة من آلامنا!

فما أكثر ما يحملُه شعبُها من إيمان عميق، وفطرة نقية مدفونة في بسطاء هذا الشعب، في الوقت الذي تطفو فيه على السَّطْحِ الجِيَفُ، فتنهب خيرات الوطَن، وتنصب نفسها قيِّمَةً على الشعب المقهور، ووصيِّةً تتحدّث بلسانه، وهي سبب فقره ومرضه وجهله، وكلّ النكبات التي حلَّتْ به!

لا يزال عزّ الإسلام نابضًا في عروق بنيها، ولا يزال أنقياؤها ممن لم تلوثهم مواخير السياسة يحملون همّ الوطَن، وعِزّ الإسلام، ولا يزالُ الراحلون عنها يشتاقون ليومٍ يعودون فيه إلى أحضانِها، يشتاقونَ العودَة لمصرَ التي يعرفونها وتعرفهُم، مِصرُ التي تضمَنُ لهم مجدًا وحُريَّةً وكرامةً يسودون بها في العالَمين.

لكنْ، ما أقسى غربة المصري خارجَ وطَنِه، وما أشدّ يأسه وإحباطَه، حين يعود فلا يجِد وطنَه الذي يعرفه، بل يجد وطَنَه راحلاً.  ولستُ أجِدُ تعبيرًا أصدَق في وصف هذه الحالة من كلمات الشاعر أحمد حسن عبد الفضيل:

لأنني غريب
ألعَقُ الشَّجَن!
أريدُ أن أعودْ
أريدُ أنْ أعودْ
أريدُ أن أعودْ
وكُلَّما أعود
يَرْحَلُ الوَطَن!

avata
avata
أحمد محمد الدماطي (مصر)
أحمد محمد الدماطي (مصر)