Skip to main content
كلاب إعلانات الجمهورية الجديدة
وائل قنديل

هذا فيلم مثير للشجن، ومسيّلٌ للدموع على حال الإنسان المصري، العادي، الذي لا تجده في دراما تأتيك من كل الاتجاهات، وكأنها حشود أمنية مدرعة تحاصر الجمهور، وتفرض وعيًا بديلًا، مباشرًا وسطحيًا ومبتذلًا، لتصبح الدراما، في النهاية، سلاحًا أمنيًا رادعًا.

خرجت من مشاهدة فيلم "200 جنيه" بانطباع جيد يحيي الأمل في استعادة السينما المصرية بعض بريقها واحترامها، كون هذا العمل الذي كتبه أحمد عبد الله وأخرجه محمد أمين يبتعد تمامًا عن قيم السينما التجارية، وأيضًا تلك السينما المتهرّبة من الواقع، خوفًا وطمعًا، إلى مساحاتٍ آمنةٍ من التفاهة والسطحية والاسترخاص، استرخاص المتلقي، واسترخاص الإنتاج الفني معًا.

الفيلم الممتد أكثر من تسعين دقيقة، هو في الحقيقة مجموعة أفلام في شريط واحد، إذ يقدّم ست قصص إنسانية، منفصلة عن بعضها من حيث الشخصيات والأحداث، لكنها متّصلة على نحو يمنحك إحساسًا بأنك بصدد موزاييك مدهش، أو فسيفساء اجتماعية وإنسانية شديدة الإحكام والجمال.

الشخصية الرئيسة في الفيلم هي ورقة مالية من فئة 200 جنيه تتنقل من شخصية إلى أخرى، من طبقات وفئات اجتماعية مختلفة، لتحكي حكاية الإنسان المصري في هذا العصر، من خلال لوحاتٍ سينمائيةٍ بسيطة وعميقة في الوقت نفسه، وبلغةٍ سهلةٍ وتلقائيةٍ لا تسلم نفسها للشعارات الضخمة وتعقيدات التنظير.

تقابل في الفيلم المدرس المطحون الذي لا تتجاوز مساحة الكون بالنسبة له حدود قاعة دروس خصوصية، تنسيه كل شيء في حياته، حتى زوجته، إلا الورقة من فئة 200 جنيه التي يدفعها كل تلميذ في كل حصّة درس،  إلى أن تنساه الحياة ذاتها، كما تأخذك الورقة المالية إلى سائق التوكتوك وصديقه سائق شاحنة النقل، وساكن الفيلا والخادمة العابرة وسائق التاكسي الكادح ومالك العقار الجشع، ونجمة السينما، ولبّيسة النجمات الهاربة من الوسط الفني كله، لتدور في الشوارع تبيع الصور والتذكارات القديمة لتأمين نفقات علاج زوجها القعيد، وأستاذ علم الاجتماع الذي يسلك في حياته عكس ما يعلّمه للطلاب ويلقيه في المحاضرات، معلنًا ولاءه المطلق لأوراق الـ 200 جنيه فقط.

كل شخصية من هذه النماذج تظهر في العمل مرة واحدة، بطلًا لحكايتها في إيجاز سينمائي بديع، لتسلم خيط السرد إلى البطل أو البطلة التي تليها، من خلال أداءٍ رائع لمجموعة من النجوم، ليلى علوي وأحمد السقا وخالد الصاوي وهاني رمزي وأحمد رزق وأحمد السعدني وصابرين وإسعاد يونس.

لغة هادئة وشديدة البلاغة تذكّر بواقعية سينمائية تنتمي، بشكل ما، إلى عالم صلاح أبو سيف ثم عاطف الطيب ومحمد خان، تردّ الاعتبار لصناعة السينما التي جرفتها أمواج البروباغندا السياسية ولوثة دراما الوطنية الزاعقة.

بعد المشاهدة ، وجدتُني متعاطفًا مع كل شخصياته، حتى الفاسدة منها، والتي انتظمت أمامي مثل مجموعةٍ من الضحايا لواقع خانق ومُقبض، يحاولون ردمه تحت وابلٍ من الدراما التلفزيونية الفجة، والبروباغندا الإعلامية الساذجة التي تحدّث الناس عن الجنة التي صنعها جنرال الجمهوية الجديدة على الأرض، وتطلب منهم تصديقها، بينما هم قابعون في جحيم السياسات الاقتصادية التي تسحق الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ونار القبضة الأمنية التي تلفح كل من يجأر بالاحتجاج أو بالشكوى.

في الليلة ذاتها التي شاهدتُ فيها الفيلم، جلست أقلّب في قنوات التلفزة المصرية، المعروفة بأنها تابعة لشركات المخابرات، فوجدت إعلانًا يبدأ بصوت إنسان وصورة كلبٍ يقول إنه كلب إعلانات، ويحدّث المشاهد عن روعة الحياة في كومباوند سكني جديد، ويدعوهم إلى الشراء فيه والانتقال إليه، حيث الجمال والهدوء والراحة، والمساحات الخضراء التي توفر له الانطلاق والاستمتاع المطلق.

هذا الكلب، يتحدّث بلسان الجمهورية الجديدة وقيمها، تلك الجمهورية التي تتوعد قاطني نصف عدد الوحدات العقارية في البلاد بتسيير قوات الجيش للحرب عليهم وإجلائهم من بيوتهم، بناء على أوامر صارمة من الرئيس الجنرال الذي أمهل قواته ستة أشهر فقط لإنجاز المهمة.

هذه المرّة، يبدو عبد الفتاح السيسي مصمّمًا على الانتقام من الجماهير بعد عامين من تظاهراتها ضد قراراته بإزالة البيوت والمساكن في القرى والأحياء الفقيرة، وهي التظاهرات التي أجبرته على التراجع والانسحاب، وتقديم رئيس حكومته، مصطفى مدبولي، ليعلن عن إجراءات تصالح، على دفعات ميسرة، وذلك على ضوء تحذيرات الأجهزة الأمنية من انفجار الوضع.

تشير الأرقام الرسمية إلى أن 50% من الوحدات العقارية في مصر مخالفة، كما ورد في إفادة معتز محمود، رئيس لجنة الإسكان في البرلمان، في ذلك الوقت،  ولو أضفت إلى ذلك المباني المقامة على أراضٍ زراعية، تكون نحو 85% من المباني مخالفة .. هذا يعني أن السيسي يريد هدم مصر  كلها، إلا 15% تقريبًا.

لكن ذلك كله يهون أمام سعادة كلب الإعلانات برغد الحياة في براح منتجعات الجمهورية الجديدة.