Skip to main content
في ذكرى عمر حجّو
خطيب بدلة
مضت خمس سنوات على رحيل الفنان الكوميدي السوري عمر حجّو. منذ تعرفت عليه، أصبحنا أصدقاء، على الرغم من أنه يكبرني بعشرين سنة. كانت اللغة الوحيدة التي نتبادلها عند اللقاء، أو الاتصال الهاتفي، هي لغة المزاح، ثم ننتقل إلى الحديث عن مشروع مشترك بيننا ذي صيغة كوميدية. والحقيقة أن حياة عمر حجّو نفسها كانت عامرة بالكوميديا. هذا ما استنتجته من خلال حوار أجريته معه في سنة 2009، بقصد نشره في كتاب، ولكن مشروع النشر لم يكتمل يومذاك. 
ولد عمر في حلب سنة 1931، في حارة اسمها المحتسب، قريبة من باب النصر في وسط المدينة القديمة. المنزل كان جناحا مستأجرا ضمن دار كبيرة يسمونها الحوش، مؤجّرة لأكثر من أسرة، والمنتفعات مشتركة بين الجميع. وكانت أسرته تنتقل من حوش إلى حوش، بمعدل مرة كل سنة، وسبب هذا التنقل أن والده كان يقرّر، فجأةً، أن "هالحوش ما أجا وجّو علينا إغر".. أي أنه لم يكن وجهَ سعد على الأسرة، وسرعان ما يحملون أمتعتهم التي تتألف من فرش ولحف وطناجر وطشوت وخواشيق ويرحلون. وذات مرة، عاد الطفل عمر من المدرسة، ودخل إلى البيت، فقال له الجيران: أهلك يا عمر انتقلوا.. قال: لوين؟ قالوا: ما منعرف.. فخرج ووقف في الزقاق أكثر من ساعتين، حتى تذكّره أهلُه وأرسلوا أخاه محمداً ليصطحبه إلى المنزل الجديد الذي لن يكون وجهه عليهم "إغر" مستقبلاً، كالعادة.
اضطر عمر للتوقف عن الدراسة بعد الصف السابع، والسبب أن الفقر في أسرته كان أصلياً، وليس طارئاً أو مستحدثاً. وبدلاً من أن يورثهم الوالد عقارات وأطياناً، أورثهم قائمة بالديون المستحقة، ومجموعها 75 ليرة سورية. ومن أجمل وأغرب ما يتذكره عمر من حارة المحتسب أن أطفال الحارة خرجوا، في إحدى سنوات المحل، حاملين الفؤوس والجواريف والمحاريث والعصي، وهم يهتفون: يا الله الغيث يا الله الغيثْ، نحنا زغار بدنا اخْبيزْ... وبقي طوال عمره عاجزاً عن تفسير هذه الظاهرة، ويتساءل: طالما أنهم خرجوا يستعطفون الله تعالى ليغيثهم، لماذا كانوا يحملون هذه الأدوات القتالية في أيديهم؟
كان والده سائق سيارة بين حلب ومارع والسفيرة. إخوته لم يدخلوا المدرسة، أما هو فقد وافق أبوه على تسجيله في المدرسة بناء على توسّلاته. وكان معظم التلاميذ يذهبون إلى المدارس "حَفَايا"، أي من دون انتعال أي شيء في القدمين. وفي أحد الأيام، لاحظ عمر أن بعض زملائه قد اشتروا "صرامي حُمر"، ولبسوها في أقدامهم، فشعر بالغيرة، وانطلق راكضاً إلى "باب الحديد" حيث ينتظر أبوه أن تمتلئ السيارة بالركاب، لينطلق بها إلى مارع، فوقف بين يديه وقال له: يوب، رفقاتي اشتروا صرامي، وأنا بدي صرماية.. فقال الأب: والله معك حق. تعا معي. واصطحبه من يده ومشى به إلى حارة بنقوسا، واشترى له صرماية حمراء، فردتاها مربوطتان من الخلف بخيط قنب. ارتدى عمر الفردتين ومشى دون أن يقطع الخيط، وكان يقع بين الفينة والأخرى، ويتقي الأرض بيديه، ثم ينهض ويتابع جريه، ويقع، ويقف، ويتابع.. وكان العابرون يقولون له: يا بني اقطع الخيط.
أصل أسرة "حجّو" من بلدة جبلية صغيرة اسمها دركوش، تتبع لمحافظة إدلب اليوم، تقع بين جبلين ويمر بها نهر العاصي. وكان جدّه، أحمد حجو، عازف ناي ممتازاً، يعمل بصفة "مكاري"، أي يحمل البضائع بين دركوش وإدلب بالكراء، وفي أثناء سراه في الليل كان يعزف على الناي، فتطرب لعزفه الطبيعة كلها. ومن الأساطير التي رويت عنه أن "الجن" اعترضوا طريقه ذات ليلة، وطلبوا منه أن يعزف لهم، وكان قد خبأ الناي بين ثيابه، وزعم لهم أن الناي ليس معه، فضربوه على جسده حتى تكسر الناي، ووقتها تركوه يمشي في حال سبيله.