Skip to main content
فوتوغرافيا القدس
معن البياري
بركة حزقيا وقبة كنيسة القبر المقدس بالقدس (1900 Getty)
كانت الصورة الفوتوغرافية للقدس واحدةً من موضوعات إحدى جلسات مؤتمر "القدس: تحديات الواقع وإمكانات المواجهة"، والذي نظّمه، أخيرا، في عمّان المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، والجامعة الأردنية. ومن مقترحاتٍ بسطها الرسام والمصوّر الفوتوغرافي والباحث الأردني في الفنون البصرية، هاني حوراني، أن تعتمد أقسام تدريس التاريخ العربية برامج مناهج التاريخ البصري والأدبيات المصوّرة، وأن تُدرج كليات الفنون مناهج قراءة الصور الفوتوغرافية وتحليلها. وإنصاتُك في المؤتمر إلى ورقتي حوراني، والمختص الفلسطيني في تاريخ فلسطين الثقافي والاجتماعي، العثماني والانتدابي، عصام نصّار، يجعلك تستشعر هذه الضرورة، ويشيع فيك انجذابا إلى البحوث العلمية الجادة، المختصّة بصور فلسطين الفوتوغرافية، سيما الأولى منها، لما تكشفه من إضاءاتٍ مهمةٍ على أبعاد في الصراع على الأرض والهوية، سيما على مستويات ثقافية تتصل بالذاكرة، وباستهداف المستعمرين والمحتلين صورة المكان في المخيّلات الغربية، مع ما يُحدثه هذا الحال من دعاوى متصلة بكتابة التاريخ وتدوينه. 
قليلةٌ، أو شحيحةٌ على الأصح، المباحث المُنجزة في هذا الاختصاص. ولهذا جاءت محمودةً التفاتةُ المؤتمر إلى مسألة الصراع على الصورة والمكان، بشأن القدس، بعد أن كان المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في مؤتمره في الدوحة، "سبعون عاما على النكبة.. الذاكرة والتاريخ"، في مايو/ أيار 2018، قد شارك فيه عصام نصّار بورقةٍ معنيةٍ بالموضوع نفسه. وفي درسه الصور المبكرة للقدس، المدينة التي التقط لها مصوّر فرنسي أول صورة في العام الذي شهد أول اختراع للتصوير الفوتوغرافي، 1839، انتهى نصّار إلى أن الأوروبيين اهتموا كثيرا بتصوير القدس، ولكن ليس بسكانها بما هم عليه. كانت في صورها الأولى، الأوروبية، مدينة التوراة والإنجيل، وليست مدينة من فيها، وتربطها مخيلةٌ عنها بالتاريخ الأوروبي، وليس بتاريخ المنطقة، ولم يُلتفت إلى الناس من أهلها فيها. ويبدو مثيرا للتفكير أن نحو ثلاثمائة مصوّر التقطوا صورا في القدس في القرن التاسع عشر، غالبا بدوافع دينية، أو بأداء استشراقي، يعتني بموضوعة المدينة، القدْسية، سيما بالانشغال بتصوير قبة الصخرة، مع اعتقاد شائع بأن مسجدها هو الذي أقامه عمر بن الخطاب.
وعلى ما بين ورقتيهما من تباعد، سيما بشأن مراحل موضوعيهما، الأوسع عند هاني حوراني والأضيق عند نصّار، فإن التقاء بينهما ظهر واضحا، بشأن الأمر أعلاه. وقد أوضح حوراني أن استخدام التصوير الفوتوغرافي، مبكرا، للقدس، كان وسيلةً للوصول إلى إثباتاتٍ بصريةٍ للروايات والأحداث التي درجت في الكتب المقدّسة، الأمر الذي اختلف تاليا مع نشاط التصوير، ووجود محترفات تصوير واستوديوهات في المدينة، كانت الريادة فيها للأقلية الأرمنية، فصارت الصور لغايات الفُرجة، وتضاهي الواقع إلى حد كبير.
ثمّة التقاء ثالث بين الورقتين، الجذّابتين عن حق، جزئيا مع ورقة الباحثة الفلسطينية، مليحة المسلماني، يمكن استنتاجه في إشاراتٍ إلى أن الحرص المبكّر على أن تخلو القدس من ناسها في صورها الأوروبية المبكّرة، مع تصوير بورتريهات لشخصياتٍ دينية، بطاركة مثلا، في المدينة، يتقاطع، إلى حد ما، مع المنظور الصهيوني أولا، ثم مع التدبير الإسرائيلي لاحقا، فيما يخص المدينة القديمة التي يتم تقديم صور لها بوصفها "تراثا دينيا وثقافيا" لليهود. وعصام نصّار يخبرنا بأن صور القرن التاسع عشر إن كانت قد أشارت إلى الأمكنة المختلفة بأسمائها التوراتية، مثل المسجد الأقصى بأنه موقع الهيكل، فإن الاسم المعتمد إسرائيليا، وحتى عالميا في أيامنا هذه هو جبل الهيكل، أو في أحسن الأحوال جبل الهيكل - المسجد الأقصى.
مؤدّى القول هنا إن الفوتوغرافيا في فلسطين، وفي القدس تحديدا وغالبا، كانت معركةً منذ بداياتها الأولى، وأنها ظلت تحيل إلى مخيلاتٍ أريد لها أن تُصاغ عن القدس بكيفيةٍ توظّفها في سياقٍ يبعد أهل المدينة عنها، يلغيهم، من دون أن تكون المسألة تآمرا، وإنما هو المنظور المشحون بمواريث تاريخيةٍ، وأنفاسٍ استشراقيةٍ، مطبوعةٍ بهوس ديني. ولأن كل إيجازٍ مخلٌّ غالبا، فالمدعوّ هنا هو إلى قراءة ورقتي الصديقين، عصام نصّار وهاني حوراني، لأنها ستغني عن قراءة كل السطور أعلاه.