Skip to main content
عن "الشعب يريد" وفقدان المعنى في تونس
محمد أحمد القابسي
حشد في العاصمة تونس احتجاجاً ضد إجراءات قيس سعيّد (15/5/2022/الأناضول)

يختلف كثيرا ما يحيل إليه مصطلح الشعب في الاستعمالات العربية من انتقائية وتخصيص (الطبقات الشعبية، الأحياء الشعبية، المساكن الشعبية، .. إلخ) عما يحيل إليه عندما يُستعمل في اللغات الأخرى، وخصوصا ذات الأصل اللاتيني، كالفرنسية أو الإنكليزية من شمولية واتساع، عندما يجري استعماله في ارتباط بسياق حضاري واجتماعي وسياسي يحمل ملامح حقبة تاريخية، ميزتها الأساسية ظهور الشعب كائنا اجتماعيا فاعلا في سياق الأحداث والتاريخ، وهي حقبة متقدّمة ومرتبطة بتحولات المجتمعات الحديثة.
وإذا كان مفهوم الشعب يحيل، في معناه الواسع، على معان جمّة، تتعلق أساسا بأنساق ثلاثة من التمثلات، أي التمثل السياسي الذي ولد مع ظهور هذا المفهوم في القرن التاسع عشر، حيث يحيل مفهوم الشعب على مجموع المواطنين المستقلين الذين يتمتعون بحق التصويت الذي يتجاوز الإرادة الفردية للأشخاص، والتمثل الاجتماعي الذي يحيل على الطبقة الدنيا في المجتمع، أي الطبقة الشعبية التي تضم فئاتٍ وأشخاصا أقلّ تأثيرا على مستوى الإرادة الجماعية، والتمثل الأنثروبولوجي الذي يحيل على مفهومٍ للشعب تحكمه هوية جماعية واحدة. والملاحظ أن هذه الأنساق الثلاثة كثيرا ما تتقاطع، ليصبح مفهوم الشعب وفق ذلك حاملا معانٍ ثقافية وسوسيولوجية وهوياتية متعدّدة وقد تكون هذه الأسباب، وفي تطوّر زمني، قد جعلت مفهوم الشعب مرتبطا بمفاهيم حضارية وحقوقية حديثة، على غرار المواطنة بشروطها وسياقاتها الكونية ومنظومة حقوق الإنسان والعيش المشترك والمساواة والمشاركة والحق، خصوصا في تقرير المصير، وبذلك أصبح الشعب قوة فاعلة احتجاجية أساسا تتخذ الشارع فضاء لها وفاعلة في الأحداث الكبرى.

الفعل الشعبي يظل مرتكزا أساسا في حركات التحوّل الاجتماعي والسياسي والحضاري

وعبر تاريخه الحديث، شهد الشارع التونسي عددا مهما من هذه الأحداث عرفها نضال التونسيين في كفاحهم ضد المستعمر الفرنسي، على الرغم من نزوع الرموز إلى ركوب البطولات الفردية والانحراف بالأحداث والتاريخ وتضخم الأنا، إلا أن الفعل الشعبي يظل مرتكزا أساسا في حركات التحوّل الاجتماعي والسياسي والحضاري، وقد استمر هذا الفعل حاضرا في الشارع التونسي بعد استقلال البلاد في محطات تاريخية فارقة وعديدة، رفضا لسياسات دولة الاستقلال خلال عهدي الرئيسين بورقيبة وبن علي. وأشهر هذه المحطّات الصدام الدموي بين المركزية النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل) بقيادة الزعيم الحبيب عاشور والزعيم بورقيبة، فيما أصبحت تعرف بأحداث 26 يناير (1978)، والتي أدّت إلى الإضراب العام في البلاد، وسقوط عشرات الضحايا وأحداث ثورة الخبز خلال عام 1980، وصولا إلى أحداث الحوض المنجمي لعام 2008 التي هيأت شعبيا لثورة الكرامة، حيث نزل الشعب إلى الشارع يوم 12 يناير/ كانون الثاني 2011، ليهتف "ارحل" للدكتاتور زين العابدين بن علي الذي رحب به الشارع في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1987.

لم تعد خطابات سعيّد وشعاراته تعنيه، وهو يخوض حربه اليومية مع ارتفاع الأسعار والبطالة وانعدام الدواء

ومن المفارقات العجيبة أن الشارع نفسه (شارع الحبيب بورقيبة) ها هو يشهد اليوم شعبا محتجا يهتف "ارحل"، رفضا لإجراءات وقرارات أعلنها الرئيس، قيس سعيّد، يوم 25 يوليو / تموز الماضي، وما تلاها من إجراءات حلّ مؤسسات الدولة من برلمان ومجلس أعلى للقضاء، وأخيرا الهيئة المستقلة للانتخابات. وقد خرج الشعب التونسي بعشرات الآلاف يوم 15 مايو/ آذار الحالي، وهو الذي انتظر طويلا تفعيل الإصلاحات والبرامج التي أعلنها الرئيس يوم 25 يوليو/ تموز، ولكنه لم يجد بعد تسعة أشهر على إعلان هذه الإجراءات سوى شعارات واتهامات ضد مجهولين، ظل سعيّد يقتصر على تسميتهم "هم" و"أولئك"، من دون رؤية واضحة ولا مصارحة ولا فتح ملفات اقتصادية واجتماعية، فضلا عن الملفات المتعلقة بـ"الفاسدين" و"الخونة" و"الهاربين" بأموال الشعب و"السارقين"، لثرواته، فقد ظلت هذه الشعارات حبرا على ورق، ولم يعرف الشعب من "هم"، ولا "أولئك"، ولا ما ارتكبوه من جرائم تدينهم.
انتظر "الشعب الذي يريد" في سرديات سعيّد طويلا إجراءات وقرارات وإصلاحات و"صواريخ" ظلت منتصبةً على منصّاتها وطال انتظاره، من دون جدوى، ليقف في النهاية في الشارع أمام مواجهة ثنائية، أصبحت معلنة بين الرئيس وحزامه الضيق من المساندين ودوائر خصومه التي ما فتئت تتسع وتكبر من يوم إلى آخر، مواجهة لم تعد تعني هذا الشعب، كما لم تعد خطابات سعيّد وشعاراته تعنيه، وهو يخوض حربه اليومية مع ارتفاع الأسعار والبطالة وانعدام الدواء والبحث عن المواد الأساسية من حليب وسكر وسميد وغيرها. إنه يحارب من أجل ضروريات حياتية بسيطة، هي أدنى بكثير من المطالب التي رفعها هذا الشعب زمن ثورته يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011. وفي ظل مشهدية ثنائية لشعبٍ يظل يغرق في أزمات مركبة، وفشل إجراءات ومراسيم يصدرها الرئيس باسم هذا الشعب الذي لا يجد نفسه وهمومه مفعّلة على أرض الواقع لهذه الإجراءات الفوقية والمسقطة، والتي ما فتئت تدفع إلى متاهات العزلة للرئيس والبلاد.

الحقيقة الوحيدة المؤكّدة أن "الشعب الذي يريد"، ويتحدّث الرئيس باسمه منذ تسعة أشهر، أصبح اليوم "شعبا لا يريد"

وفي تشخيص واقعي للمشهد العام ومآلاته القريبة، يمكن الجزم بأن مضي الرئيس قيس سعيّد ومسانديه في اعتماد سردية "الشعب يريد" قد سقط نهائيا، وأن تداعياتها في فضاء الشارع بين هؤلاء المساندين والشرائح العريضة للمعارضين قد أصبحت تهدّد بمخاطر جمّة قد تصل قريبا للصدام والمواجهة بين هذا وذاك من أبناء الشعب الواحد المريد، كما أن إمكانية مرور الرئيس بالقوة إلى مشروعه السياسي القاعدي، والقفز على كل الشرعيات والمشروعيات أصبحت اليوم صعبة، إن لم نقل مستحيلة، في ظل ما يخيم على المشهد العام وعلى الشارع من فرضية الاحتراب والصدام والاقتتال، إذ أصبح من المستحيل إحداث التوازن بين إرادة سعيّد ومعارضيه من الشرائح الشعبية العريضة، ولا تقلّ، والحال هذه، المخاطر الأخرى أهمية عن فرضية المواجهة، وفي مقدمتها مقاطعة الاستفتاء الشعبي المزمع تنظيمه يوم 25 يوليو/ تموز المقبل، وفي أضعف الاحتمالات التصويت ضده، وبالتالي توقف كل المسار الذي يريد سعيّد أن يمضي فيه منفردا، وهو مسار تلاحقه اليوم مؤاخذات جمّة بخصوص انفراد الرئيس بالرأي، ورفضه الاستماع لأيٍّ كان، وتأخره في إعلان الانطلاق في الحوار السياسي المجتمعي المرتقب مع المنظمات والأطراف الاجتماعية والمدنية والوسائط السياسية التي لا يعترف بها سعيّد من أحزاب وغيرها، وهي في مجملها، مكونات أعلنت رفضها غياب مضمون هذا الحوار، والاشتراطات المسبقة التي يضعها الرئيس، علاوة على الإشكالات العميقة والمعقدة، سواء على المستوى القانوني أو السياسي أو الزمني واللوجستي، فهناك استحالة واقعية لإمكانات إجراء استفتاء شعبي بعد شهرين، ووضع دستور جديد للبلاد خلال أسابيع، ومن لجنة لم يعلن عن تركيبتها الرئيس بعد، وصولا إلى انتخابات تشريعية عامة خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل، في غياب عام لقانون انتخابي جديد.
وبذلك، يمكن القول إن كل الانتظارات تظل قائمة في المشهد السياسي في تونس، وإن الحقيقة الوحيدة المؤكّدة أن "الشعب الذي يريد"، ويتحدّث الرئيس باسمه منذ تسعة أشهر، أصبح اليوم "شعبا لا يريد" في سياقات واقع مأزوم وتحدّياته، فقد كل معنى.