Skip to main content
شرخ في التحالف الأميركي الأوروبي
بشير البكر

هي بداية شرخٍ كبير بين أوروبا والولايات المتحدة، بسبب التحالف الثلاثي الجديد بين الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا. ومنذ أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، في السادس عشر من شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، عن ولادة هذا الجسم الجديد، لم تهدأ ردود فعل العواصم الأوروبية، والتي تصدّرتها باريس، كونها المتضرّر المباشر، لأن التحالف يتضمّن تزويد أستراليا بغواصات نووية أميركية، ما يعني فسخ عقد بيع فرنسا 12 غواصة تقليدية لأستراليا، جرى توقيعه في عام 2016 بقيمة 66 مليون دولار. وأحدث قرار بايدن صدمةً سياسيةً كبيرة في أوروبا، لأنه مسّ فرنسا مباشرة من جهة، ومن جهة ثانية، لأنه أبعد الاتحاد الأوروبي عن منطقتي المحيطين، الهادئ والهندي. واعتبرت المواقف الأوروبية أن نظرة بايدن ضيقة إلى حد كبير، لأنها اعتمدت على تفضيل تحالفٍ تقليدي بين الثلاثي، بينما تطورت العلاقات الأميركية الأوروبية، وبلغت مستوياتٍ من التعاون والتنسيق، على مدى عدة عقود، ما يتجاوز بكثير المكاسب المرجوّة من التحالف ذي اللون الأحادي.

كان الأوربيون ينتظرون من الرئيس الأميركي خطواتٍ مهمة، من أجل معالجة أخطاء سلفه دونالد ترامب الجسيمة، على مستوى العلاقة بين ضفتي الأطلسي، وإذ به يسبّب شرخا أكبر بكثير من الذي خلفته أعوام ترامب الذي كان بارعا في المناورة، حتى لو ذهب نحو أقصى مدى في التطرّف. والصدع الذي هندسه بايدن حصل مع فرنسا، الدولة التي تمتلك علاقاتٍ خاصة، عبر التاريخ، مع الولايات المتحدة، حتى أن باريس درجت، رسميا، على إحياء ذكرى معركة بحرية حاسمة في حرب الاستقلال الأميركية، توّجت بانتصار الأسطول الفرنسي على الأسطول البريطاني في 5 سبتمبر/ أيلول 1781.

كان لخطوة بايدن مفعول "إيجابي"، لأنها وحّدت أوروبا وأشعرت القارّة العجوز بأنها يجب أن تتحرّك للدفاع عن دورها ومصالحها، بعد أن ترهلت في العقدين الأخيرين، ولم يكن "بركسيت" سوى نتيجة ذلك. وأحسّت بلدان الاتحاد الأوروبي، ذات الثقل السياسي والاقتصادي، مثل ألمانيا، أنها لم تتخذ موقفا قويا، بوجه الولايات المتحدة، فإنها تحكم على تهميش نفسها بنفسها. الأمر الذي قد يغيّر في طبيعة العلاقات الدولية الحاصلة، ويدفع أوروبا إلى سياساتٍ أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة، ما يبعث على مراجعة المواقف الأوروبية تجاه الصين وروسيا.

يبرهن بايدن الذي لم يكمل بعد عامه الأول في البيت الأبيض، على أمرين هامين. الأول، أن سلفه ترامب لم يكن استثناءً في عقيدة الأحادية الأميركية، بقدر ما هو نسخة مباشرة فجّة، على مقاس رجل الأعمال الذي يهتم بالصفقات أكثر من أي مسألة أخرى. الثاني، أن بايدن لم يخرج عن خط الرؤساء الديمقراطيين الذين كانوا أفضل من طبّق سياسات اليمين الأميركي الانعزالي. ومنذ أن وصل إلى البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني، يتنقل من مفاجأة إلى أخرى في السياسة الدولية، وسجّل الانسحاب من أفغانستان ذروة الارتجال، وعدم دقة الحسابات، والتفرّد بالرأي. وظهر بايدن على نحو لا يقل سوءا عن سلفه ترامب، ولم يأخذ برأي وزيري الخارجية، أنتوني بلينكن، والدفاع، لويد أوستن، اللذين نصحا بالتريث وتنظيم نقل الحكم في كابول. ولم يكن أحد يتوقع أن يكون بايدن خفيفا إلى هذا الحد، بعد أن حاول، في الأشهر الماضية، أن يصنع لنفسه صورة الرئيس الرصين، في مسعىً إلى محو صورة ترامب الذي يتحلّى بحضور كبير في وسائل الإعلام والمسرح السياسي بوصفه شخصيةً شعبويةً، ذات تأثير خطير على العلاقات الدولية. وقد لا يشكل بايدن القدر ذاته من الخطورة على هذا الصعيد، إلا أنه خلط الأوراق، وأوجد شرخا مع أوروبا سوف يتعمّق مع الزمن، بما يمكن أن يُنذر بنظام دولي جديد.