Skip to main content
ربيع شائك ومتجدّد
فاطمة العيساوي

لم يكن ببال بائع الفاكهة المتجوّل، محمد البوعزيزي، أن مشهد انتحاره المريع سيطلق غضبا يتجاوز بكثير صفعة شرطية البلدية التي حاولت مصادرة عربته، بحجة أنها مركونة في مكان غير مسموح به. ولم يكن في بالنا، ونحن نراقب فصول الربيع أن شرارته الأولى ستنطلق من تونس، أحد أكثر الأنظمة انغلاقا، والبلد المنسي في قائمة الأحداث الكبرى في المنطقة. لم يكن بالإمكان أيضا أن يخيل لنا أن أنظمة دموية، كنظامي الأسد والقذافي، ستواجه تمرّدا، وأن مواطنين مسالمين سينزلون إلى الشارع للمطالبة بالتغيير في ما كان يعتبر رأيا عاما نائما ومستسلما لقدره. تعب العالم من مراقبة تداعيات ثورات الربيع، بعدما تحوّلت معظم فصوله إلى عنف أو قمع غير مسبوق. عاد الخطاب المقولب عن العالم العربي ليركز على مكافحة الإرهاب، لتأكيد "استثنائية" منطقة عاجزة عن التغيير. وكما فاجأ الربيع في موجته الأولى المراقبين، لا يزال يقدّم فصولا متجدّدة وغير متوقعة من الغضب، من دون أن ينجح الغاضبون في الانتقال من حيز الغضب ورومانسية شعارات الثورة إلى التخطيط لتأثير فاعل من أجل تغيير حقيقي في الهياكل. لا تزال ثقافة قبول الرأي المختلف بعيدة المنال، في ظل تجدّد القمع وشيطنة الآخر، وعودة القيود باسم التابوهات السياسية أو الدينية.

يبدو العالم العربي اليوم أكثر تعبا وتفكّكا وانهيارا مما كان عليه قبل عشر سنوات، عندما انطلقت موجات التغيير، إلا أن العالم بأجمعه اليوم تعب، وزادت جائحة كورونا من غوغائية السياسات الشعبوية، من الولايات المتحدة إلى البرازيل، في ظل نزعة متصاعدة من الثيوقراطية يغذّيها التضليل الإعلامي في وسائط التواصل الاجتماعي، كما في الإعلام التقليدي. باختصار، بات بالإمكان القول إن العالم لم يعد مختلفا كثيرا عن مشكلات المنطقة، وإن رقعة التباعد بين العالمين انكمشت، ليس بنشوء أنظمة ديموقراطية جديدة في عالمنا، بل بتراجع الديمقراطية في الغرب، والتشكيك بجدواها. ليس من المبالغة أيضا القول إن حراك الشارع العربي ألهم حركاتٍ مماثلة حديثا، من الحركة المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ إلى الحراك المناهض للعنصرية ضد السود في الولايات المتحدة وتظاهرات الفيليبين ضد قانون مكافحة الإرهاب الجديد، وتقييده حرية التعبير. تنافست حركات الاحتجاج في العالم العربي في أشكال الابتكار ضد القمع، للسخرية منه، أو محاولة اختراق حواجزه في فضاء الإنترنت وخارجه، في تظاهرات متنوّعة يصعب إحصاؤها على كثرتها وفرادتها. تخطر في بالي أولا مبادرة مجموعة من نساء دمشق لاستخدام أكياس النفايات في رسم شعارات ضد الأسد في أولى أشهر ثورة سلمية نجح الأسد في تحويلها إلى حرب أهلية. 

لم تسقط الأنظمة لكن جدار الخوف سقط، والأهم منه سقوط الهيبة التي استخدمها الطغاة لكسب مشروعية ما لحماية آلية القمع من أي محاولة مساءلة أو تهديد

لم تسقط الأنظمة لكن جدار الخوف سقط، والأهم منه سقوط الهيبة التي استخدمها الطغاة لكسب مشروعية ما لحماية آلية القمع من أي محاولة مساءلة أو تهديد. ليس مفاجئا أن تكون كنية "بلحة" لا تزال تؤرّق عبد الفتاح السيسي في مصر، على الرغم من السجون الواسعة التي حشر فيها معارضيه. توفي الشاب شادي حبش، مخرج أغنية "بلحة"، في سجن طرة، إلا أن مسلسل السخرية من السيسي ونظامه لا يزال متواصلا في أغنياتٍ يتداولها الناشطون، على الرغم من عنف غير مسبوق. في السجون السعودية، تواجه الناشطات النسويات السعوديات، منهن لجين الهذلول، عقوبات السجن بتهمة الإرهاب، لمطالبتهن بحقوق أساسية للنساء في المملكة. شهد العام الماضي تصاعدا كبيرا في حجم تقييد التعبير وأشكاله، إلا أنه جاء مصحوبا بقدرة متزايدة على الصمود للأصوات المعارضة التي يبدو أنها لن تصمت. لم تسقط الأنظمة، إلا أن التغيير انطلق ولم تتوقف عجلته، ولعل أبرز إنجازاته ما يمكن وصفه بمواطنة جديدة بين الفرد والنظام. مواطنة أكثر إيجابية وتشاركية لا تكتفي بالإنصات والخنوع. لم يسجل تغيير كبير في بنى السياسة التقليدية، إلا أن الربيع فتح الباب أمام نزعة تحرّرية تجاوزت السياسة التقليدية إلى تحدّي أكثر التابوهات حدّة. النساء تقدّمن حراك الشارع في معظم الدول التي شهدت تظاهرات احتجاج. الحركات النسوية استغلت الحراك، ليصبح مناسبة للمطالبة بحقوق أساسية، من الحق في منح الجنسية إلى الحق بالحياة في وجه عنفٍ غير مسبوق باسم "الشرف". أفراد تجرأوا على الحديث علنا عن تجاربهم، كمثليي الجنس، بعدما كان الأمر يمثل عارا اجتماعيا. تجاوز الأفراد، بتجاربهم الخاصة، ذواتهم.

يبدو العالم العربي اليوم أكثر تعباً وتفكّكاً وانهياراً مما كان عليه قبل عشر سنوات، عندما انطلقت موجات التغيير

لن تتوقف موجات الربيع في مد وجزر عن مفاجأتنا. حقّق حراك الشارع، في الموجات المتجدّدة للربيع في الجزائر والسودان والعراق ولبنان، قدرة أكبر على الاستمرارية، وباتت شعاراته أكثر راديكالية، بالدعوة إلى تغيير شامل، وليس مجرد إصلاحات. هل ينجح في الانتقال من تعبير غاضب وخلاق إلى عمل منسق استراتيجي، قادر على إحداث تغيير جـذري في البنى، بما في ذلك القدرة على التفاوض والضغط والمناورة؟ يقول الباحث آصف بيات، في كتابه "ثورة من دون ثوار"، إن الثورات العربية عجزت عن تحقيق تغيير جذري، لضعف ركيزتها الفكرية وراديكالية مطالبها، واصفا المنضوين فيها بأنصاف ثوار وإصلاحيين مقارنة بثورات مماثلة في العالم، كإيران وكوبا. ولعل فشل التغيير السياسي حيث حصل، تونس مثالا، في تقديم حلول فعلية للمشكلات الاقتصادية التي دفعت الناس للنزول إلى الشارع يمثل قنبلة موقوتة لعودة الأنظمة الآفلة، ومعها القمع والتقييد. 

لن يتوقّف الحراك الشعبي في العالم العربي عن تقديم الجديد، على الرغم من العثرات، مقارعا من يقول إن التغيير مسار متصاعد، وسوي بالضرورة، لا تشوبه انتكاسات. للمشكّكين، تقول موجات الحراك المتواصل: ربيعنا لم ينته بعد.