Skip to main content
الطريق إلى الصفصاف
معن البياري
"الطريق إلى الصفصاف".. خريطة للعودة إلى قرية فلسطينية
لولا الفيلم الوثائقي المتقن "الطريق إلى الصفصاف"، والذي عرضه تلفزيون العربي أخيراً، لما أمكن أن يُعرف المجهود البديع الذي أدّاه المهندس الفلسطيني علي زيدان، ورفاقٌ له، في مخيم عين الحلوة، بصدد قريتهم الصفصاف قرب الجليل الأعلى شمال غرب صفد، والتي احتلتها العصابات الصهيونية في 1948، ثم دمّرتها دولة الطرد والتهجير (كما نحو خمسمائة بلدة وقرية فلسطينية)، وأقامت على أراضيها مستعمرةً ليهودٍ مستقدمين سمّتها "صفصوفا". صنع زيدان، وهو مهندس بيئي، بعونٍ من مهندس التخطيط المدني، إسماعيل الشيخ حسن، والمختص بالتاريخ الشفوي، محمود زيدان، وآخرين، وجميعهم من الجيل الثالث من اللاجئين الفلسطينيين، خريطةً تفصيليةً بمنازل القرية وأسماء أصحابها، والطرق والمعالم والمدرسة الابتدائية والجامع والبئر والساحة والسوق والحواكير والكروم والدكاكين، وأيضا الجدار الذي أقامه الأهالي لحمايتهم من اعتداءات العصابات اليهودية، وكذا موقع مقر قيادة منطقة صفد لجيش الإنقاذ العربي، وقد كان في الصفصاف، ومدفن خمسة شهداء سقطوا في أثناء ثورة 1936، وموقع المجزرة التي اقترفها الصهاينة في أكتوبر/ تشرين الثاني 1948، واستشهد فيها نحو سبعين من الأهالي، ولا تحظى بشهرة مجازر أخرى (دير ياسين، قبية، نحالين، وغيرها)، وإنْ لا تقل فظاعةً عن أيٍّ منها، فقد رُميت جثث الشهداء، بعد إعدام بالرصاص، في بئر القرية. 

وبذلك، جاءت الخريطة لتهزم جريمة المحو التي أجهز بها الغاصبون الإسرائيليون قبل سبعين عاما على الصفصاف، فلم يبق من منازل نحو 900 فلسطيني كانوا سكّان القرية عشية سقوطها إلا ثلاثة، صار واحدٌ منها مزارا يهوديا. وليس مجازا ولا استرسالا أدبيا أن يُقال إن علي زيدان ورفاقه أنجزوا خريطة طريقٍ للعودة إلى الصفصاف، طالما أنها خريطة للحياة في القرية المنهوبة، وللناس الذين كانوا هناك. واستوفت في تفاصيلها الدقيقة، والتوثيقية العالية للجغرافيا الاجتماعية فيها، شروطا علميةً تجعلها رواية الحقيقة التي تمحو كذب الإسرائيليين عن أرضٍ لهم كانت بلا شعبٍ عليها. وقد جمع صنّاع الخريطة معلوماتها من شهادات رواةٍ من الجيل الأول من اللاجئين من القرية في مخيم عين الحلوة، وأفادوا من أرشيفٍ متوفر تم تصوير بعض مقابلاتٍ فيه قبل خمسة عشر عاما، وكان استثنائيا أن تُشاهد في الفيلم الوثائقي واحدةٌ منها مع مصابٍ في المذبحة نجا من الموت، وأبان عن مواقع رصاصات في بدنه.
هذا عن الخريطة، بإيجازٍ لا يُغني عن تبيّنٍ أكثر للمنجز التاريخي والثقافي المقاوم الذي أبدعه أولئك الشبان الحاذقون، أما عن فيلم "الطريق إلى الصفصاف" نفسه، فلا تزيّد في الزعم إن لبثّه على شاشةٍ تلفزيونية عربية أهميةً عميقة، ويعدّ مساهمةً لافتةً في مقاومة النسيان الذي يُراد لنا، نحن العرب، أن نقيم فيه، أي نسيان فلسطين وطنا وناسا وحقّا وتاريخا. ومساهمةً في حماية الذاكرة العربية من الاعتداء اليومي الذي تمارسه عليها فضائيات التجهيل والتطبيع مع الغزاة المعلومين والخونة المعمّى عليهم. وتأديةً لدور مطلوب، وملحّ دائما، في صيانة الهوية الوطنية الفلسطينية، المقاوِمة والمتمسّكة بكل الأرض، من أعطابٍ غير هيّنةٍ تستهدفها، ليس فقط من التدليس الإسرائيلي المكشوف، وإنما أيضا من التخريب المرذول الذي لا تستحي من القيام به منابر ووسائط إعلامية لدول وأجهزة عربية معروفة.
شحيحةٌ جدا الأفلام التوثيقية والوثائقية التي تذهب إلى المطرح الذي يصل الحاضر بالماضي في الموضوع الفلسطيني الشاسع، في التاريخ والجغرافيا، وقد بادرت غير محطةٍ عربيةٍ إلى إنتاج شيءٍ منها، وبثّها، وبعضها أفلامٌ مميزة. وأنْ ينتبه تلفزيون العربي الطموح والناهض، في انطلاقته المتجدّدة خصوصا، إلى مقطعٍ جوهريٍّ من هذه الشساعة الفلسطينية، كما دلَ على ذلك تقديمه "الطريق إلى الصفصاف" (إخراج نور معتوق) للمشاهد العربي، فإن تثنيةً واجبةً يستحقها منا، مع "طمعنا" بمزيد من مثل هذا الفيلم الذي أفاد من الشفويّ والأرشيفي، وتوظّفت فيه موسيقى تصويرية ذات إيحاءٍ لافت، ووازى بين ماضٍ لا يُنسَى وحاضرٍ إسرائيلي لا يُنسِي أحفاد اللاجئين الأوائل من الصفصاف أنها أرضُهم. وعندما لم يغفل الفيلم التأشير إلى هذا البعد، فهذا مبعثُ احتفاءٍ مضاعفٍ به، وسببٌ مضافٌ لشكر تلفزيون العربي.