Skip to main content
السودان بعد ترامب وإمكانية لديكتاتور مفضّل
سامي حسن

ستة أشهر وتنتهي رئاسة عبد الفتاح البرهان المجلس السيادي في السودان. بعدها يجب أن تنتقل الرئاسة إلى أحد المدنيين من تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، بموجب اتفاق موقع بين هذا التحالف والمجلس العسكري الانتقالي، فهل ستسير الأمور وفق ما اتفق عليه، أم أن ثمّة سيناريوهات أخرى تنتظر السودان؟
تفيد الوقائع التاريخية بأن المؤسسة العسكرية في الأنظمة الديكتاتورية تدين بالولاء والطاعة للنظام والطاغية، ما داما قويين ومتماسكين. وما أن تدخل البلاد في حالة من الاضطراب، وتهتز صور الحاكم الطاغية، حتى تصبح التضحية به إنقاذا للنظام، وبالتالي حفاظاً على مواقعها ومصالحها، خياراً مطروحاً وبقوة على طاولتها. الأمثلة على ذلك كثيرة، لعل أقربها زمنياً، ما حصل في مصر في أعقاب ثورة يناير 2011، حين تمّت إطاحة الرئيس حسني مبارك، التفافاً على الثورة وحماية للنظام ودولته العميقة، وتولّى المجلس العسكري قيادة مرحلةٍ انتقاليةٍ انتهت بانتخابات أوصلت ممثل جماعة الإخوان المسلمين، محمد مرسي، إلى سدّة الرئاسة. وقبل أن يكمل عامه الأول، أطاحه الجيش، بقيادة عبد الفتاح السيسي الذي أصبح فيما بعد ديكتاتورا حاكما لمصر. أي أن الأمور عادت إلى ما كانت عليه قبل ثورة 25 يناير، بل وأسوأ منها، من ناحية الممارسات القمعية وانتهاك حقوق الإنسان.

ما أقدم عليه عسكر السودان تم بتنسيقٍ عالٍ مع أنظمة مصر والسعودية والإمارات، أي مع المحور الداعم للثورات المضادّة للربيع العربي في المنطقة

بالعودة إلى السودان، وبانتظار القادم من حلقات مسلسله، يمكن القول إن ما حصل هناك هو تكرار لما حصل في مصر، مع تعديلاتٍ، أظنها طفيفة، في السيناريو، فبعد ثورة الشعب السوداني ضد نظام حكمه، أطاح ما سمي المجلس العسكري الانتقالي الرئيس عمر البشير في 11 إبريل/ نيسان 2019، وأعلن عن بدء حواره مع القوى الأساسية الفاعلة في الثورة، ممثلة بقوى الحرية والتغيير، انتهى بتوقيع اتفاق بينهما في 21 أغسطس/ ىب 2019 نص على تشكيل "مجلس سيادي" لإدارة المرحلة الانتقالية، مكون من 11 عضواً، خمسة عسكريين يختارهم المجلس الانتقالي، وخمسة مدنيين تختارهم قوى الحرية والتغيير، بالإضافة إلى مدني يختاره الطرفان. وأن يتولّى رئاسة المجلس خلال الفترة الانتقالية الأولى (21 شهراً) أحد العسكريين، بينما يتولى المرحلة الثانية (18 شهراً) أحد المدنيين. من خلال هذه الشراكة، وهذه الانحناءة أمام عاصفة الثورة السودانية، تمكّن العسكريون من إيقاف اندفاعة الثورة، وضمنوا بقاءهم في مواقع السيطرة وصنع القرار. وظهروا أمام الشعب السوداني والعالم، وكأنهم ليسوا جزءاً من نظام البشير المتهم بارتكاب جرائم حرب، بل أظهروا أنفسهم جزءا من الثورة الشعبية، وأنهم ديمقراطيون، وغير طامعين في السلطة.

ستة أشهر وتنتهي رئاسة البرهان المجلس السيادي في السودان. بعدها يجب أن تنتقل الرئاسة إلى أحد المدنيين من تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير

ليس خافياً أن ما أقدم عليه عسكر السودان تم بتنسيقٍ عالٍ مع أنظمة مصر والسعودية والإمارات، أي مع المحور الداعم للثورات المضادّة للربيع العربي في المنطقة. وأن ثلاثتهم يتحينون الفرصة للانقلاب على منجزات الثورة السودانية، وإعادة إنتاج نظام استبداد جديد في السودان. وبعد نيلهم الرضى الأميركي، وإسقاط اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مكافأة لهم على التطبيع مع إسرائيل، تشكلت لدى العسكر، على ما يبدو، قناعة بأنهم قد أمنوا غطاءً دولياً وعربياً لما يمكن أن يقوموا به في المستقبل من إزاحة للمدنيين واستفراد بالسلطة. ولم يبق أمامهم سوى اختيار التوقيت الملائم، وتهيئة الظروف المناسبة لذلك، كإحداث الأزمات أو استغلال أزمات قائمة، أو.. إلخ. ولكن ما يعقد مهمة عسكر السودان، ويوقعهم في مأزق، أنهم جزء أساسي من السلطة، بل إن رئيس المجلس السيادي الذي يحكم السودان من العسكريين، وهذه إحدى نقاط الاختلاف عن الحالة المصرية. بالتالي، قد يكون قبولهم رئاسة أحد المدنيين المجلس السيادي، أي التزامهم بالاتفاق الموقع مع قوى الحرية والتغيير، المخرج من مأزقهم، وهو في الوقت نفسه، بداية العد العكسي لانقلابهم.

شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان لا يشهرها الأميركان سلاحا ضد أنظمة الاستبداد إلا عندما تكون لهم منفعة بذلك

وقد تزيد خسارة المرشح في الانتخابات الرئاسية الأميركية، الرئيس دونالد ترامب، من تعقيد وضع العسكر، وتربك خططهم ونواياهم، فإذا كان عبد الفتاح السيسي هو الديكتاتور المفضل لترامب، فإن من الصعوبة بمكان أن يحصل البرهان، أو نائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، على هذا اللقب، من الرئيس الأميركي الجديد بايدن! لا تختلف السياسة الخارجية للديمقراطيين، في جوهرها، عن سياسة الجمهوريين، من حيث اعتمادها على المصالح لا المبادئ. وشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان تبقى شعارات، لدى كلا الحزبين، ولا يشهرانها سلاحا ضد أنظمة الاستبداد، إلا عندما تكون لهما منفعة بذلك، فتاريخهما في الحكم يشهد على وقوفهما إلى جانب أنظمة عديدة مستبدة (لم يكن لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة، جمهوريين وديمقراطيين، أي مشكلة مع حكم جعفر النميري الاستبدادي للسودان الذي استمر نحو 15 عاماً). وقد أكّدت المواقف العملية، لإدارتي أوباما وترامب، من ثورات الربيع العربي (انظر الموقف من الثورة السورية ومن جرائم نظام الأسد) صحة ذلك، وصحة ما ذهب إليه المفكر الأميركي، نعوم تشومسكي، أن مصلحة أميركا تتعارض مع وجود أنظمة ديمقراطية في منطقتنا. إلا أن الترامبية كسرت أعراف السياسة الخارجية الأميركية وتقاليدها، وجرّدتها من مساحيقها الأخلاقية، ووسمتها بالبلطجة. من هنا، على القادم الجديد إلى البيت الأبيض إعادة تجميل وجه الولايات المتحدة، وتخليصه من آثار الترامبية، الأمر الذي سيلقي بظلاله، بهذا القدر أو ذاك، على عسكر السودان وحساباتهم. وربما يدفعهم إلى التريث، والتفكير ملياً، قبل أن يقدموا على أية خطوة انقلابية، أقله إلى حين؟