Skip to main content
التصاق تكنولوجي سيامي
بسمة النسور

نهجو سطوة التكنولوجيا، ونبدي القلق الشديد على مستقبل صغارنا ممن صودرت طفولتهم، وضعفت أبصارهم، وثقلت أجسادهم، وتبلدت مشاعرهم، وتوارت نزعتهم الفطرية إلى طرق اللعب البدائي البسيط، جرّاء التصاقهم السيامي بأجهزتهم الإلكترونية المتطوّرة التي جعلتهم يستغنون عن قصص الجدّات، وينظرون إليها باستخفاف، كونها بالنسبة لهم ساذجة ومثيرة للملل، ويتجاهلون تعليمات الآباء العاجزين عن فرض أي سلطةٍ تربويةٍ على جيل متفوق معلوماتيا، لكنه محكوم عليه بالفشل الإنساني، مهما أدرك من أسباب التكنولوجيا المتوحشة منزوعة القيم. ينهمك هؤلاء الأطفال، على مدار اليوم، في عالمهم، مصطنع الذكاء في ألعاب مصمّمة على أساس تذكية صراع وهمي عنيف، يتخلله قتل وتفجير كثيران في مواجهة خصوم مفترضين. هدف اللاعب الوحيد هو إلحاق الهزيمة بالعدو وقهره، وتحقيق الأفضلية عليه. نُحمّل ثورة الاتصالات وزر كل القبائح التي يشهدها زماننا المعقد والصعب هذا، ونضيق بتوفر تلك المنابر المجانية أمام الجميع، بغض النظر عن مستواهم الفكري التي يتساوى فيها الأحمق الجاهل، العاجز عن تركيب جملةٍ صحيحةٍ، والذكي المتزن المثقف الذي يدرك قيمة الفكرة وأثرها، فيحسب كلامه بعناية، ولا يكتب منشوراته لمجرّد الثرثرة المجانية، بل رغبةً منه في التفاعل الحقيقي مع قضايا مجتمعه.
نعزو الظواهر الاجتماعية الطارئة في المجتمع إلى تغوّل التكنولوجيا. وفي ظل هذا المشهد السوريالي المربك، نطمئن أنفسنا قائلين إن ثورة الاتصالات هي السبب الرئيس للإحساس الجمعي بالعزلة الذي انتاب الكون برمته، فحوّلتنا إلى كائناتٍ متوحدة أقرب إلى "الزومبي" في أفلام الرعب، قاصرة اجتماعيا، لا تخلو من مركّبات نقصٍ واكتئابٍ متعدّد الأوجه. نطل من خلف الشاشات في جزرنا النائية عبر العالم الافتراضي الذي بات ضيقا على توقنا للخلاص، في ظل تفشّي وباء كورونا اللعين الذي زاد الطين بلة. ونرصد ظواهر العدوانية والاستعلاء المعرفي والانغلاق الفكري والعنصرية والاعتناق الأعمى للخرافة. نحمّلها ذنب اختراق خصوصيتنا، ونبش المستتر من دواخلنا التي نُقدم عليهما مختارين، ثم نتصرف كضحايا، مستلبين لشروطها. ولا نعترف بحقيقة إساءة الاستخدام، ولا نبادر إلى التخفّف من تأثيرها الخطير على عقولنا ومداركنا وتركيبتنا النفسية التي طاولها التشويه، على إثر الانغماس في عوالمها غير المتناهية التي تسلب طاقتنا، وقدرتنا على تذوّق متع الحياة الصغيرة. نقيم علاقة ملتبسة غير سويّة مع تكنولوجيا، المفترض أنها سخرت لخدمتنا، وتسهيل سبل عيشنا، غير أنها جعلت منا أسرى بلا إرادة، يجرفنا التيار من دون أن نبدي أي مقاومة.
حقيقة صعبة قاسية، علينا الإقرار بها، فقد تم تذويبنا في دوّامتها وانتهى الأمر. لا يستطيع الإنسان المعاصر الحياة بدونها، وتحت أي ظرفٍ تجده يسارع إلى تسديد فاتورة الإنترنت أولا وقبل أي شيء، قبل جلب الخبز والمواد التموينية اللازمة لبيته، تماما مثل السلوك التقليدي للمدخّن الشره المدمن الذي يظل يلعن تلك العادة السيئة المؤذية، عند إشعال كل سيجارة، ويصيبه الهلع إذا اكتشف أن الدخان نفذ من البيت. لذلك تفشل في العادة حملات نشطاء لمقاطعة شركات اتصالاتٍ جشعة في عقودها الإذعانية مع المستهلك المحتاج لخدماتها، مهما تمادت في الاستغلال والغش والمبالغة في تحقيق الأرباح، لأن القوة كلها تكمن في القدرة على الاستغناء. وهذه مرتبةٌ إنسانية عليا، لم يدركها سوى قلة نادرة من البشر على الأرجح إنها اندثرت وتلاشت، في ظل هذا الصخب الكوني الفج الذي يقتات على ما تبقى من إنسانيتنا، وقد تراجعت قيمها ومبادئها ومعانيها السامية، تحت عنوان الحداثة وما بعدها. ولا يبدو في الأفق المنظور، كما يرى كثيرون، أي حل لهذا المأزق الوجودي الأكثر خطورة على الإطلاق.