Skip to main content
"ورشة" دانيا بدير: ذلك الإنسان الذي يستطيع مشاهدة العالم
أشرف الحساني
تصوِّر بدير ذاتها ومشاعرها وأفكارها وأحلامها (رامي منصور)

في فيلمها القصير، "ورشة" (2021)، تبتعد المخرجة اللبنانية دانيا بدير عن مواضيع مرتبطة بالتاريخ والذاكرة والأيديولوجيا والقومية واليسار، لأنها تصوِّر ذاتها ومشاعرها وأفكارها وأحلامها، بكلّ مسرّاتها ونتوءاتها، لا بما يجعل هذه الذاتية تحتكم إلى هواجس الجسد، النفسية والتخييلية، بل بوصفها جسداً، له تاريخه وذاكرته في تعلّقه بالواقع.

في أفلامها، يتحقّق وجود الجسد وإمكاناته، الفكرية والتخييلية، من خلال الشرط الواقعي. فيلمها "بالأبيض" (2017)، بقدر ما يُشكّل ثورة على هذا الواقع، بكلّ أفكاره وتقاليده وعاداته، يظلّ سنداً فكرياً لتبلور مفهوم التخييل في تجربتها السينمائية.

الأمر نفسه يتكرّر سينمائياً في "ورشة"، الذي يروي حكاية عامل بناء، تقهره تقاليد الواقع من التعبير بحرّية عن شغفه بالرقص، فتبحث بدير له، بصرياً، عن فضاء مُتحرّر من ربقة العين والتفكير الديماغوجي، فيتفلّت الجسد من ماديات الواقع، ويخضع لسُلطة دفقة، شعورية وروحية، تجعله يُبدع ويغنّي ويرقص ويحلم نشداناً للحياة.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by Dania Bdeir (@daniabdeir)

هكذا، يُصبح للسماء في "ورشة" دلالاتٍ أنطولوجيّة، ترمز إلى الصفاء والحرية والحلم. لكنّ الحلم يظلّ، بدوره، خاضعاً للشرط الواقعي، الذي ـ وإنْ حاولت بدير في كلّ مرّة تجاوزه سينمائياً ـ يبقى تتويجاً قوياً للحلم، ودافعاً داخلياً إلى الثورة عليه، بصرياً. عن "ورشة"، وعن كتابته ومَعالمه الفنية والجماليّة، حاورت "العربي الجديد" مخرجته دانيا بدير.

اختير جديدك "ورشة" للمُشاركة في "مهرجان صندانس السينمائي الـ38" ((2022). ماذا يعني هذا لك؟
"مهرجان صندانس" من أهم المهرجانات في العالم. كنتُ أحلمُ دائماً بعرض فيلم لي فيه، فالمهرجان معروف عالمياً، بمنطق القوّة والمنافسة. تختار إدارته 0.7 في المائة فقط من الأفلام القصيرة التي تقدَّم إليها. إنّه مشهور أيضاً بكونه يكتشف مخرجين وأفلاماً جديدة في السينما المستقلّة. لهذا، فرحةٌ أنا، لأنّ أناساً يذهبون إليه وفي نيّتهم مشاهدة فيلمي، الذي سيكون عرضه كبيراً بالنسبة إليّ كمخرجة. أنا متحمّسةٌ للذهاب إلى هناك، إذا سمح كورونا بذلك. هناك، أستطيع الاستماع إلى المُشاهدين، ومعرفة آرائهم به، وشعورهم لحظة مشاهدته. أستطيع التعرّف أيضاً على منتجين، يستطيعون مساعدتي على إخراج أفلامي المقبلة.

كتابةً، ماذا عن تعلّقك وجدانياً بحكاية الفيلم؟ ما مدى ارتباطه واقعياً بالاجتماع اللبناني؟
بدأت الفكرة تتشكّل في ذهني، حين كنتُ ـ في أحد أيام عام 2016 أو ربما 2017 ـ جالسةً في شرفة المنزل في لبنان التي تُطلّ على بيروت كلّها. المنظر طبيعي جداً، لأنّ بيروت تتميّز بمعمارٍ مختلف الحجم والطول. حينها، رأيتُ رجلاً واقفاً على السطح. خفتُ، في بداية الأمر. لكنْ، انتبهتُ لاحقاً إلى أنّه كان يُصلّي. كان المنظر جميلاً وقت غروب الشمس، والرجل يقف لوحده على السطح.
هكذا صرتُ أهتمّ بعالم "الونيشة"، كما نسمّيه في لبنان. صرتُ أحسّ بالإنسان الذي يستطيع مشاهدة العالم، ولا أحد يستطيع ذلك. أصبحتُ أذهبُ إلى ورشٍ، وأحكي مع مُهندسين، وأسألهم، وجميعهم أخبروني أنّ الونيشة شخصٌ يجلس فوق، إذْ يأتي صباحاً ويصعد إلى هناك، ولا يعود إلى الأرض إلاّ في آخر اليوم. في السطح، لا يستطيع سماع أيّ ضجيجٍ.
هكذا بدأتُ أفكّر في عالم الونيشة، الذي لا نعرف عنه الكثير. ثم حضرت حفلةً لـ"خنسا"، وهو مُغنٍّ وراقص وفنّان جيّد. أحببتُ عمله، لأنّ فنّه مركّب للغاية. تحدّثت إليه، فأخبرني عن فيلم "الونيش" الذي أريد الاشتغال عليه، قائلاً لي إنّ الونيش يريد أنْ يهرب من العالم السفلي، ليهرب من كلّ شيء: هوية أو إحساس أو حلم لا يستطيع التعبير عنه على الأرض مع الشغيلة.
وبدأت الفكرة تنضج وتتطوّر، فبدأت أكتب. أحببت فكرةَ رجالٍ سوريين يعملون في لبنان. اللبنانيّ لا يفكّر كثيراً في العامل السوري، وفي حلمه وطموحه. أحببتُ أكثر فكرة هذا الرجل القادم إلى البلد للاشتغال، ويُشارك بيته مع نحو 10 أشخاص يعملون معه، ولا يتوفّر على مكان فسيح يتنفّس فيه، أو يغنّي ويرقص.
وجدانياً، أعتقد أنّ الأمر يتعلّق بي كثيراً، لأنّي أجد نفسي دائماً أروي للناس قصصاً عن شخصياتٍ، وعن عالمٍ يُفترض بهم أنْ يعيشوا فيه، في مقابل هوية مختلفة كلّياً في دواخلهم.

ماذا عن مرحلتي التصوير والمونتاج: هل هناك تغييرات في البنية الأولى للسيناريو؟
لا أعتقد، لأنّي اشتغلتُ طويلاً على السيناريو، ولأنّ الفيلم كان يحتاج إلى وقتٍ أطول لجمع المال لتحقيقه، بسبب الطموح والتقنية العالية فيه. هذا جعلني أشتغل على السيناريو أكثر، الذي يتناول ونيشاً يريد الهروب إلى حيّز يُتيح له التعبير عن شيءٍ فيه. بعدها، طوّرت السيناريو، فأصبح فيه حوارٌ. في فترةٍ ما، جرّبت سيناريو يعبّر فيه الممثل/البطل عن ذاته أمام رفيقه. لكنْ، في ما بعد، قرّرت أنّي لا أريده أنْ يتكلّم، بل أنْ يكون شخصاً كتوماً.
في النهاية، جرّبت سيناريو آخر، قبل البدء بالتصوير. اكتشفتُ أنّي لا أريد ذلك. لحظة وصوله إلى فوق، لا وقت لديه، لكنّه يمتلك صورة في جيبه، كأنّها تحرقه من كثرة حماسته، فالصورة أوحت له بالنظر فيها، وبالتفرّج عليها واضعاً موسيقى، فينسى حاله، ويتذكّر أمّه والأيام التي كان يسمع فيها هذه الأغنية عندما كان صغيراً. هذا آخر ما تغيّر فعلياً، بين آخر سيناريو والتصوير.

في الفيلم، اشتغالٌ مُكثّف على الصورة وعناصرها الفنّية، في رصد واقعٍ متصدّع. لماذا تبدو السماء، جمالياً، كأنّها خلاصٌ؟
صحيح، لأنّي اشتغلتُ كثيراً على الموضوع مع المُصوّر شادي شعبان، ومسؤولة الديكور ريتا شاغوري، ومع المنتجين، لخلق عالمٍ واقعي متصدّع، فهذا يجعل المُشاهدين يشعرون بالاختناق، وتنتابهم رغبةٌ في التنفّس. شخصية محمّد لا تتوفّر على مكان تتنفّس فيه. حاولتُ، بالصورة والتلوين، أنْ أجعله دائماً مع رفاقه في كل مكان، لإظهار هذا الاختناق، ولإظهار الصورة أيضاً بشكلٍ أكثر تركيباً.
لذلك، كان "فوق ـ السماء" المكان الوحيد الذي يستطيع الهروب إليه. صوّرت السماء رائقة وزرقاء، مع غيومٍ. بهذا، يتبدّى أنّه يقبل الذهاب إلى الخطر، لأنّ الخلاص موجودٌ في السماء فقط.

هل الواقع العربي مهزوم إلى هذا الحدّ، الذي تجعلين فيه بطل فيلمك القصير يهرب إلى سماء بيروت، ليُمارس شغفه بالرقص والتعبير؟
الواقع العربي مضغوط في مستويات عدّة: الثقافة والدين والعائلة والمجتمع والسياسة والاقتصاد. الإنسان العربي تُفرض عليه قواعد ينبغي عليه أنْ يلتزمها في حياته، فتظلّ القواعد تمارس سُلطتها على الأجيال، لأنّهم يعتبرون أنّ هناك طريقة واحدة للعيش.

على مستوى الإطار، هناك تفاصيل صغيرة وجميلة ترصدها الكاميرا بشكل عاديّ وتلقائي. كيف يُدرك المخرج نفسه من خلال التعبير عنها في صورة، كما في فيلمك؟
شكراً على ملاحظتك بخصوص التفاصيل الصغيرة، إذْ لا يوجد شيء تلقائي، فكلّ الأشياء دقيقة. اشتغلتُ كثيراً مع مسؤولة الديكور ومع فريقها. تحدّثنا مُطوّلاً عن الشخصية والفيلم، وعن الإحساس الذي أردتُ أنْ ينوجد في العناصر المرتبطة بالفضاء. اخترعتُ الصورة التي تطلع من جيبه، وبالتالي، وبسبب هذا الحكي، أزرع تفاصيل صغيرة في الفيلم، حتّى أصبحتُ أتخيّل لكلّ شخصٍ تفاصيل صغيرة، أحاول توظيفها في الفيلم، لإعطاء حياة إلى العالم الذي أخترعه. هذا ساعد على تركيب حياةِ شخصيةِ محمّد، وحيوات الشخصيات كلّها أيضاً.