}

قديسون ومحتالون وأنصاف آلهة: أبرز ملامح الشخصية بروايات 2023

سناء عبد العزيز 31 ديسمبر 2023
يرى ميلان كونديرا أن سرفانتس، مخترع الشخصية التي لا تنسى، دون كيخوته، هو مؤسس العصور الحديثة بجدارة، وإن غفل الجميع عن هذه الحقيقة المهمة. فمع هبوط الإنسان من عليائه بفعل الاكتشافات العلمية والتاريخية والأنظمة السياسية، باتت الرواية هي الدرع الأخير لحماية هشاشته من خطر النسيان. بمعنى آخر، كلما ارتقينا في سلم الحضارة، بدونا مجرد نقاط بعيدة لا تلفت الانتباه. ينطبق هذا على واقعنا بشدة، لجهة فكرة نسيان الكائن أمام تعاظم التقنيات، واستفحال الصراع، وازدياد الحياة تعقيدًا. لا غرابة، إذًا، أن تحتفي الرواية بالشخصية كي تفجر من خلالها الأحداث، سواء أكانت مستمدة من سجل التاريخ مثل تارار الذي عرف بنهمه في فرنسا الثورية، أو من بنات الخيال، كما "بامبا كامبانا"؛ بطلة سلمان رشدي.

رغمًا عني أرقص
هنالك ثلاث روايات ضمن حصاد 2023 تلتقي على خلفية موسيقية، منها "السيرة الذاتية لـ إكس/ Biography of X" التي ظهرت في عدد من قوائم أفضل الكتب هذا العام. وهي رواية جريئة تكشف عن تطور جديد في أعمال الكاتبة الأميركية كاثرين لاسي المعروفة بأسلوبها الحالم والشرس في الآن ذاته. أرادت لاسي في البداية أن تجرب كتابة السيرة ذاتية لشخص ما زال على قيد الحياة، وأخيرًا امتثلت لرأي أحد معلميها بألا تفعل، ونتج عن هذا روايتها الأكثر طموحًا التي تمزج الواقع بالخيال وتدور في جدول زمني بديل انقسمت فيه الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، إلى ثلاث دول: واحدة ليبرالية، وواحدة تحررية، وواحدة ثيوقراطية، ويتم إعادة توحيدها الآن.
وما بين الانقسام وإعادة لم الشمل، تحكي لاسي قصة فنانة متعددة المواهب تدعى إكس كانت تمثل قوة إبداعية حاسمة في عصرها. حين تموت تنتاب أرملتها "سي. لوكا" حالة من الحزن وعدم التصديق. فإذا بها تنغمس في كتابة سيرة المرأة التي شغفت بها حبًا، على الرغم من كونها تجهل حتى البلد التي ولدت فيه. لوكا وإكس امرأتان تعارفتا في منتصف الثمانينيات، وتزوجتا عام 1990 بعد أن أصبح زواج المثليين قانونيًا، بفضل جهود إيما جولدمان، مؤسسة النسوية اللاسلطوية، وكبيرة موظفي روزفلت. لكن أجندة جولدمان التي حررت المرأة من قيودها، هي ما أدت إلى انفصال الجنوب عام 1945. وبينما تتبع لوكا خط سير إكس على مدار عقود، من أوروبا إلى أنقاض أميركا المنقسمة، ينفتح أمامها صندوق أسود مليء بالأسرار والخيانات، فتدرك أن خداع إكس لها كان أكثر قسوة مما تخيلت.





فنانة أخرى تتبعها الكاتبة البريطانية ديبورا ليفي في روايتها "أغسطس الأزرق/ August Blue"، وهي بدورها مزيج من لحظات واقعية وسريالية في حياة عازفة بيانو، تعرضت لصدمة عنيفة في صغرها حين تسببت بانسحابها المفاجئ من خشبة المسرح في إفساد حفل موسيقي، فقررت أن تستبدل الممارسة بتدريس الموسيقى للأطفال من مختلف أنحاء أوروبا. وفي أثناء زيارتها لأحد الأسواق في أثينا، تقابل امرأة تشبهها ويتواصل ظهورها المفاجئ على طول رحلتها وكأنها من صنع خيالها المضطرب. تدور "أغسطس الأزرق" في الوقت الراهن، وتحديدًا أثناء الوباء، لكن زمن السرد يبدو منقسمًا مثل هوية الفنان في عصر السيولة، فبينما يتصدر اللون الأزرق المشاهد المضببة بدءًا من شعرها المصبوغ بالأزرق وحتى السماء الزرقاء التي تظللها، يتراوح انقسامها بين الاكتئاب الشديد والحرية المنعشة. لكن أجمل ما قدمته مؤلفة كتاب "الرجل الذي رأى كل شيء" هو انطباعاتها الرائعة عن كوكبة من الفنانين، منهم رحمانينوف، وموزارت، وأغنيس فاردا، وجوزفين بيكر، وغيرهم كثيرون داخل رواية موسيقية بامتياز.

سلمان رشدي (Getty)


الموسيقى قوة لا يستهان بها أيضًا، في رواية الكاتبة الجامايكية جاكلين كروكس "اندلاع النيران/ Fire Rush"، التي ترشحت فى القائمة القصيرة لجائزتي المرأة، وجائزة ووتر ستونز، هذا العام. نتابع بطلتها وهي روائية تدعى "ياماي" إحدى ضحايا الشتات الجامايكي في لندن فجر الثمانينيات، تربت على يد والدها بعد هروب والدتها إلى موطنها الأصلي في جامايكا، لكن أصواتًا بعيدة يتردد صداها داخلها تدفعها إلى محاولات تشويشها بالرقص والموسيقى في دهاليز لندن المليئة بالدخان. إنها قصة لا تنسى عن كيان هش يبحث عن وطن، وحين يصبح على مقربة منه يتلاشى كالسراب. أحست ياماي بذلك عندما تعرفت على رجل يحكي قصصًا مثيرة عن جدته الجامايكية، وسرعان ما وقعت في حبه. لكن الحب لا يصلح درعًا في زمن العنصرية والفقر والخوف، فإذا بها بعد أحداث مروعة، تتحول إلى امرأة شرسة هدفها الأساسي هو تحرير نفسها من قيود الحكم المستبد وعدوانية الرجل. تقول ياماي: "يستغرق الأمر وقتًا دائمًا لأدرك أن شخصًا ما يؤذيني... بضع دقائق، يوم، سنة، أربعة وعشرون عامًا، أربعمائة سنة".

الشره والطيب والغامض 
في روايتها "الشره/The Glutton"، تستوحي الكاتبة والشاعرة البريطانية إيمي كاترينا بلاكمور قصة غريبة من سجلات فرنسا الثورية عن رجل أكل كل شيء، من الأزرار إلى الأطفال. تبدأ القصة عام 1798 بمشهد للراهبات أثناء سيرهن في الرواق، من ضمنهن الأخت بيربيتوي التي يتم تكليفها بمراقبة مريض شديد الشحوب ومنتفخ البطن يقولون إنه أكل شوكة من الذهب. بلاكمور تبدأ حكاية الشاب الريفي تارار من نهايتها، فما هي إلا أيام ويموت الرجل الذي لم يرد في قاموسه كلمة شبع من جراء شوكة انحشرت في لحمه. تنتصر بلاكمور لبطلها الذي أثار الاشمئزاز حتى أن أسرته طردته للشارع حين لم تستطع تحمل تكلفة قربه منهم، فعاش متشردًا مع فرقة متجولة، ثم انضم إلى صفوف الجيش، وهناك عانى أيَّما معاناة مع الوجبات المحدودة التي تقدم إليه، فراح يتولى مهام زملائه مقابل وجبة، إلى أن تم استغلال معدته الغرائبية في ابتلاع صناديق تحمل معلومات سرية. لكن شخصية تارار، رغم تبلدها الحسي حين وقع في يد أعدائه، وتعرض للتعذيب، والوضع على المقصلة، حدث لها نوع من النمو الذي عادة ما يغري الروائيين باختيار الشخصية. امتثل تارار للعلاج من مرضه الغريب، وهناك كان يبتلع القطن والشاش والجرذان والقطط، وكل ما تطاوله يده، ومع اختفاء طفل من المستشفى عمره أربع سنوات، تخلى الأطباء عن فضولهم، وطردوه نهائيًا، حتى انقطعت أخباره تمامًا.




بعد موت تارار، دفع الفضول طبيبًا واحدًا إلى تشريح جثته لمعرفة مدى الاختلاف بينه وبين الإنسان العادي، ورصد بالفعل اختلافات جوهرية في الأعضاء الداخلية، كالكبد والمعدة وغيرها، ولكنه لم يعثر على الشوكة التي ادعى تارار أنه ابتلعها. مر أكثر من عقدين قبل أن يتوصل أحد الأطباء إلى أن تارار كان يعاني من تلف في اللوزة الدماغية، والذي يؤدي لداء البطنة عند الحيوانات.
بعد غياب طال انتظاره، صدرت للكاتبة النيوزيلندية إليانور كاتون رواية جديدة بعنوان "بيرنام وودBirnam Wood". كاتون هي أصغر كاتبة توجت بالبوكر 2013، لأطول رواية في تاريخ الجائزة "المتألقون" (832 صفحة). أبطالها هنا مثاليون للغاية، هدفهم في الحياة هو إعمار الأرض المنسية والمهملة وتعهدها بالرعاية حتى تتفجر بالحياة، وتصبح بساتين غناء. لكن الطريق إلى الجحيم دائمًا ما يكون مفروشًا بالنوايا الطيبة، فهم ببساطة يستولون على أرض الغير بحجة أنهم لا يحسنون حيازتها. إحدى البقع المهجورة تضعهم في مواجهة ملياردير أميركي غامض يعرض عليهم ما يكفي من المال لدفع مشروعهم قدمًا، شرط أن يعملوا لحسابه، وهنا يحدث التطور في الصراع بين مبادئهم واحتياجهم لرأس المال كي يستمروا في أهدافهم النبيلة.
يرى النقاد أن "بيرنام وود" رواية شكسبيرية في رؤيتها ودراماها وانغماسها في الشخصية، كاتون بالفعل تستغرق كثير من زمن الخطاب في تقديم شخصيتها على نحو مفصل، حتى ليشعر القارئ بالبطء وربما الضجر، إلا أن النتائج التي تبغي الوصول إليها تعتمد على فحص النوايا والتصرفات والعواقب وهو ما يبرر تباطؤ السرد ويشفع للإطالة في الآن ذاته. من جهة أخرى، تستجيب الرواية لموضوعات راهنة، مثل الأممية، والرأسمالية، وتغير المناخ، لتضع أقدام شخوصها المثاليين على أرض الواقع.
كان عام 2023 عامًا مثمرًا حقًا للكاتبة البريطانية زادي سميث. فيه حصلت على جائزة للتميز الأدبي عن مجمل أعمالها، كما صدر لها كتاب بعنوان "الاحتيال/ The Fraud"، هو أول رواية تاريخية في مشوارها. استوحتها من قضية تيكبورن المعروفة، والتي وصفت بأطول محاكمة في التاريخ. وتتعلق بادعاء آرثر أورتن بأنه الوريث المفقود لبارونة تيكبورن، ورغم تصديق كثيرين له، جاء الحكم عليه بالإدانة والحنث باليمين، وقضى 14 عامًا في السجن، لكن الحقيقة إلى الآن لا تزال غائبة.

الكاتبة البريطانية ديبورا ليفي (Getty)


إلى جانب شخصيتها المحيرة التي اعتمدت عليها السينما في كثير من أعمالها، ترسم سميث صورة كوميدية للوسط الأدبي في لندن في القرن التاسع عشر، رابطة بين التاريخ الجامايكي والبريطاني، بما يعكس عصرنا الحالي الذي يتسم بالعولمة والنفاق.

البقاء للحكاية 
اختار الكاتب الأسترالي بنجامين مايرز، الحائز على جائزة جولدسميث، شخصية القديس لينسج حولها أحداثه في روايته "كادي/ Cuddy"، وهي ملحمة تغطي ألف عام من التاريخ الإنكليزي من أول غزاة الفايكنغ الذين قتلوا المسيحيين في جزيرة ليندسفارن في القرن الثامن إلى إنكلترا المعاصرة.  كادي هو الاسم المحبب للقديس كوثبرت (634 ـ 687)، الذي أصبح من أكثر النساك شعبية في بريطانيا، وحظي بالاحترام والتبجيل بسبب ارتباطه بالحيوانات، وتعاطفه مع العمال وارتباطه بالمناظر الطبيعية والأماكن المقدسة في شمال إنكلترا. استفاد مايرز في تقديم شخصيته من الشعر والرسائل والحوار الدرامي والمراجع الببليوغرافية والسيناريو المسرحي لرسم صورة حية للصبي الراعي الذي مات ناسكًا على جزيرة صغيرة لم ترحب به، ودوره المحفز على بناء كاتدرائية دورهام بعد وفاته بأربعة قرون.
بطلة سلمان رشدي "بامبا كامبانا" البالغة من العمر تسع سنوات، نصف إله ونصف بشر. يقدم إلينا قصتها في روايته الثالثة عشرة "مدينة النصر/ Victory City"، على هذا النحو "مخبأة في وعاء من الطين. مختومة بالشمع. مدفونة في قلب قصر مهدم وسط أطلال واحدة من أعظم إمبراطوريات الهند وأكثرها نسيانًا، قصة تنتظر أن تروى".
إنها أول رواية تصدر له منذ حادث الهجوم عليه في العام الماضي. على الرغم من كونه كتبها قبل الحادث فهي تتضمن ما أفضى إليه في ظل التعصب والهمجية. يمنح رشدي في مدينة النصر البطولة للمرأة من خلال بامبا الطفلة التي ماتت أمها في الحرب، وتستغل البذور التي منحتها لها الآلهة في تشييد مملكة تضمن عدم تعرض مزيد من النساء لمصير والدتها الحبيبة، كما تستفيد من موهبتها في التبوء وقدرتها على تسخير الكلمات في رسم خريطة صعود وسقوط إمبراطوريتها وتحفيز شعبها على التغيير والازدهار، وبعد مرور نصف ألف عام، يتم اكتشاف كتاباتها في جوف الأرض العتيقة كدليل على فنائنا المثير للأسى، وكبرهان على أن القصص مهما دفنت هي ما يدوم إلى الأبد. يبدو أنها الوسيلة الأخيرة التي تسلّح بها الإنسان، ضد خطر نسيان الكائن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.