}

نساء فنانات مهاجرات: أثر المنفى على الفن

مها حسن 11 نوفمبر 2023
المنفى في المؤنث
بدعوة من جامعة رين في إقليم بروتانيا الفرنسي، وبالتعاون مع جمعيات محلية عدة أهمها ما يمكن ترجمته بجمعية "نزهة الكتب"، ذهبت للمشاركة في مهرجان أدبي وفني يختص بالنساء المهاجرات.
عبر ثلاث موائد مستديرة، تعلقت بثيمات اللغة المهاجرة، أو هجرة اللغات، إعادة التمثل الأدبي والفني في المنفى، وشهادات شخصية حول الذاكرة والمنفى، شاركت مع ثلاث كاتبات وفنانات قادمات من بلاد مختلفة، لنتحدث عن تجاربنا اللغوية والفنية في فرنسا بوصفها بلدًا اخترناه للهجرة والعيش.
مع لي تشين لين، التايوانية، كاتبة القصص المصورة، والتي استغرقتُ يومًا كاملًا لأتمكن من لفظ اسمها بطريقة سليمة، والروسية كذلك كاتبة قصص مصورة  فارفارا بوميدور، والفرنسية المولودة في فرنسا، ولكن من أب مجري توندي ديك، الكاتبة والمخرجة المسرحية، وبحضور قوي لماريلين ديغرين، المخرجة والممثلة والحكواتية، صاحبة مبادرة المهرجان بالتنسيق مع ميلود غرافي، الشاعر والأستاذ في جامعة ليون، والأستاذ عبد الفتاح نيسابوري رئيس قسم الدراسات العربية في جامعة رين، أمضيت أوقاتًا مكثفة، لا أثناء الندوات واللقاء مع الجمهور فقط، بل في لقاءات جانبية جمعتنا أثناء وجبات الطعام والتنقلات بين أماكن الندوات المتفرقة.
حسب الكلمة التي وردت في التعريف بمشروع المهرجان، أقتطف هذا المقطع: "من بين الجوانب الجديدة لهذا التدفق من اللاجئين والمهاجرين، أكثر من 50% منهم من النساء. في المنفى، في الأرض المضيفة، كشف جيل كامل من الفنانات والمؤلفات عن أنفسهن. نريد أن نتساءل عن خصوصيات الإنتاج الأدبي للكاتبات الفنانات، ولا سيما من خلال طرح مسألة تأثير تجربة هجرتهن، وموقعهن في مواجهة هذه التجربة. الاستيلاء على الهوية وإعادة الاستيلاء عليها، والتغلب على الحدود اللغوية، والهجرة كوسيلة للتحرر. كيف وفي ماذا ولماذا يتجاوز الإبداع الفني مواقف الحياة الواقعية؟".
لهذا ذهبنا، إذًا، نحن النساء، الفنانات، المهاجرات، لنتحدث عن إبداعنا في بلادنا الأصلية، وما أصابه في البلاد الجديدة، من انتكاسات، أو تطورات.

أسباب هذا التناسق والتناغم بيننا
في اليوم الأول لاجتماعنا، شعرت بغربة وببعض الامتعاض، كنت أستمع إلى شهادات النساء الثلاث وعلاقتهن بالمنفى، وسبب مغادرتهن بلادهن، فوجدت أن قصتي تختلف عن قصصهن، ومنحت لنفسي الحق في شرعية منفاي، إذ بدا لي منفى كل منهن كنوع من الترف.
تذكرت سريعًا فيلمًا أوكرانيًا تترك فيه البطلة بلدها وحبيبها لتذهب إلى أميركا، لأنها تكتب، ولأنها مؤمنة أن جائزة نوبل لا تمنح للأوكرانيين، لهذا عليها أن تعيش في أميركا لتحصل على جائزة نوبل.



ولأنه ليس من حقي عرض قصص النساء الأخريات، خاصة في ما يتعلق بالتفصيل السياسي الذي قد يثير أسئلة تعرضهن للمضايقة الشخصية، ولو كانت نسبة هذه المضايقة واحدًا في الألف، كونهن شخصيات معروفة إلى حد ما في الوسط الفني في بلادهن الأصلية على الأقل، فإنني لن أفصّل الأسباب التي دعت بعضهن لترك بلادهن، مع خيار العودة المفتوح متى رغبن، بينما أنا أعيش منذ عشرين عامًا خارج سورية، ولا أفكر في إمكانية العودة بسبب الخوف أولًا، حتى أن مناماتي التي أجدني فيها في سورية هي كوابيس أستفيق منها مذعورة.
هذا الخوف من ذلك البلد الذي تركته، والذي يشكل ربما بعض الغيرة من آخرين، جاؤوا إلى فرنسا، أو غيرها من البلاد الأوروبية، يضعني في خانة تختلف عنهم، حيث الخوف بالنسبة لهم مختلف.
هل أتحدث عن درجات الخوف؟ وهل هناك خوف أشد من آخر، وهل خوف أية امرأة/ كاتبة من قمع طفيف على أفكارها يمنحها شرعية ترك البلاد والذهاب إلى منفى يحقق لها حرية الكتابة؟
هذا ما تعلمته في اللقاءات التالية مع النساء الكاتبات اللاتي تركن بلادهن، منحنني زاوية رؤية أوسع، وأخرجنني من "ضيق" الرؤية ونرجسية المعاناة، هذه العقدة التي يعاني منها أغلبنا، ربما السوريون على الأخص، حين نرى أن قضايانا أهم من قضايا الآخرين.
هذا التعديل الذي طرأ على تفكيري، منذ اليوم التالي، وأنا أحظى بحرية نقاش طويلة، مع نساء بعضهن لم يسمعن عن سورية سوى في الأخبار، ولا يعرفن عنها كثيرًا، بل كنت أول سورية يلتقين بها، جعلني أشعر بالامتنان إلى هذا النوع من اللقاءات الذي يُخرجنا من تقوقعنا الفكري ونرجسيتنا المعرفية.
من هنا، رحت أنصت باحترام، متخلية عن دور الكاتبة الأكثر اضطهادًا ومعاناة، إذا أضفت إلى حكايتي أصولي الكردية، ومعاناتي الأدبية في سورية، بسبب هذه الأصول، لكنني وجدت أن معاناة توندي، الفرنسية الشقراء ذات العينين الزرقاوين، ليست أقل، حيث تحول هذا النموذج اليوم إلى مقياس يتنمّر عليه كثير ممن حولي.
هذه الكاتبة "البيضاء" لديها من القصص الموازية التي، بنظرة نسبية إلى الأشياء، لا تقل ألمًا عن معاناة أية كاتبة أخرى من منطقتنا. وهذا ما بدأت في ملاحظته وأنا أستمع بدقة إلى شهادات الكاتبات والفنانات، لأعرف بأنه ليست هناك مقاييس للمعاناة: الألم هو الألم.
هذه الصيغة من الاحترام والإصغاء والرغبة في فهم الآخر خلقت بيننا نقاط اشتراك لا نقاط اختلاف، ونبهتني إلى جملة مهمة تكررت من قبل حاضري ندواتي الفرنسيين، وأغلبهم من أصول بعيدة، وُلد أغلبهم في فرنسا، لكن آباءهم، أو أجدادهم، جاؤوا من بلاد أخرى، يقولون لي: من خلال قصصك الخاصة، ترسلين كل منا إلى قصته الخاصة، بغض النظر عن المكان الذي عاش فيه كل منا، أنت أو نحن، أو المكان الذي نعيش فيه الآن.
هكذا وجدنا أنفسنا نحن النساء الأربع، الغريبات، اللاتي تجمعنا فرنسا كبلد إقامة وهمّ الكتابة والفن، والرغبة في التطور.
هذا الأخير، التطور في المجال الإبداعي، وكذلك تنمية المهارات الشخصية، لا يمكن أن يحدث من دون التواصل مع الآخر المختلف، لأن هذا الاختلاف هو الذي يوسّع مساحات المعرفة، ويمنع من التكرار وإعادة إنتاج الأفكار ذاتها.

تناغم الغربة
كوننا غريبات، كان حجم الانتباه عاليًا، لمحاولة فهم الآخر، ثم إحداث هذه المقارنات التي تحدث تلقائيًا، حين نتخيل أنفسنا مكان الآخر، فيصبح الآخر بمثابة المرآة التي تعكس لنا صورنا الأخرى التي لم ننتبه إليها من قبل، أو احتمالات وجوهنا غير المرئية في مرايا مألوفة.
هذه الغربة، التي تتقاطع مع مفردة الغرابة، قادرة على صناعة الألفة لاحقًا، حين يتحقق لكل منا مكانه ومكانته: أمان المكان وتحقّق الذات المبدعة، هكذا تتحول الغربة إلى لهاث غير منقطع للاكتشاف والتعلّم والإلهام.
السؤال الذي لم يفارقني بعد انتهاء المهرجان وعودتي إلى حياتي اليومية، هو: لو كان هذا المؤتمر باللغة العربية، بين كاتبات عربيات، أو حتى بالفرنسية، بين كاتبات عربيات يعشن في المنفى، هل كان حجم التناغم سيكون مماثلًا بسبب الظروف المتشابهة التي عشناها في بلادنا الأصلية، مع معاناتنا اللغوية في البلد الجديد؟
لا أجرؤ على تقديم إجابة قطعية، لأنني أعتقد أن قناعة أغلبنا، نحن القادمين والقادمات من بلاد متشابهة، قائمة على أننا ملمّون تمامًا بتفاصيل الآخر، وهذا ما يعيق ولادة الدهشة، أو الإصغاء إلى تجارب قد تكون جديدة.
إن اعتقادنا الراسخ بأننا نعرف حكاية الآخر هو الذي يمنعنا من الإصغاء إليه، والتعرّف عليه كما هو، لا كما نعتقد أننا نعرفه، وبهذا نحرم أنفسنا من التعرف على هؤلاء الآخرين الذين يساعدوننا أيضًا، حين نتعرف عليهم، على التعرف على أنفسنا، والتعرف على العالم، من جديد، وفي كل لحظة، يكون هذا التعرف، قابلًا للتجديد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.