}

تجربة إقامة إبداعية بأربيل: أن يعمل الروائي داخل فريق

مها حسن 15 يناير 2024
هنا/الآن تجربة إقامة إبداعية بأربيل: أن يعمل الروائي داخل فريق
الكاتبة في تجربة إقامة إبداعية في أربيل

أربيل... اليوم الأول
بدعوة من معهد غوته في أربيل، توجهت للمشاركة في ورشة الإقامة الإبداعية، التي اختار لها فريق غوته عبر بعض المناقشات والمقترحات المسبقة تيمة "الداخل والخارج".
لم يكن ذهابي إلى إقليم كردستان جديدًا، فقد ذهبت قبل عامين للمشاركة في مهرجان غلاويش في مدينة السليمانية، ولكنها أول مرة أذهب فيها إلى العاصمة أربيل، التي يقيم فيها أصدقاء لي تواصلنا منذ سنوات، ولم يتسنَّ لنا الوقت لنلتقي.
في أربيل، وقبل أسابيع قليلة من وصولي، تمت مناقشة روايتي "مترو حلب"، التي تُرجمت إلى اللغة الكردية ـ اللهجة الكرمانجية، وهي اللهجة التي يستخدمها أكراد سورية وتركيا، بينما يستخدم أكراد العراق اللهجة السورانية.
كانت الندوة السابقة لوصولي مقترحة من نادي المدى للقراءة، إذ تم أيضًا اقتراح قراءة روايتي بالعربية، من قبل جمهور لا يقرأ أغلبه الكردية. وهكذا تابعت الندوة عبر الإنترنت، وأنا أصغي إلى جمال الحوار مع المترجم الصديق خالد جميل محمد.
لهذا، كان من الطبيعي أن يكون صديقي خالد أول شخص ألتقي به حين وصلت إلى أربيل، وكانت حواراتنا حول الترجمة غنية وثرية، لأول مرة تضعني في مواجهة شخص آخر غيري، يتعامل مع نصي على أنه نصّه، إذ كتبه خالد روايتي مجددًا بالروح الكردية، وقال لي جملة مؤثرة أثناء الحوار: الرواية مكتوبة بالعربية، لكنها تحمل روحًا كردية، فكأن خالد أعاد الرواية إلى أصلها: اللغة الكردية التي لا أجيد قراءتها وكتابتها.
وقد سبق لي كثيرًا في ندواتي، وبعض مقالاتي وحواراتي، أن تحدثت عن كتابتي المتعددة الهويات، حيث روايتي المكتوبة بالفرنسية، مصنّفة في رفوف بعض المكتبات الفرنسية في قسم الأدب الفرنسي، بينما بعضها الآخر يضعها في قسم الأدب الأجنبي.
كان لا بد لي، وهذا شغفي القديم، من الذهاب إلى المدينة القديمة، وزيارة قلعة أربيل، تلك التي أراها في الصور، وأحسد أصحابي ومعارفي حين يكتبون عن زيارتهم لأربيل، إضافة إلى ولعي الشخصي بالمدن القديمة والأسواق، هذا الشغف الذي نما معي منذ طفولتي في حلب، وتجوالي في صباي، كلما شعرت بالنزق، في شوارع حلب القديمة وأسواقها وجاداتها المحيطة بالقلعة، وهذا ما ورد في روايتي "مترو حلب"، حين وصفت الشوارع الصغيرة، وقبضات الأبواب الحديدية المزركشة، وأنواع النباتات المزروعة في أسطح البيوت القديمة، حيث الجلسات العائلية، والفطور الصباحي، وتجمعات النساء من العائلة والحارة، وصديقات المدرسة.
كان لا بد لي، أيضًا، وفق مقترح صديقي المترجم الذي يعرف مزاجي، ويفهم علاقتي بالأمكنة، حيث لم ينكر أن أحد أسباب انجذابه إلى ترجمة روايتي حبه لحلب التي قضى فيها سنوات من صباه، كما لو أنه عثر على جزء من ذاته، ومن ذاكرته، في الرواية التي كتبتها أنا، ثم تبنّاها ليولّدها باللغة الكردية، وهو العاشق والمتمكن من اللغتين. إذًا، وفق مقترح صديقي، توقفنا أمام مقهى "مجّو" التاريخي، الذي تحول إلى أحد معالم المدينة، وكان قلبي يرقص من الفرح، حيث أعيش لحظات جديدة لم أختبرها من قبل: أمزج بين ذاكرتي في حلب العربية والمكان الكردي الذي أراه لأول مرة، فكأنني أمسك من جديد بنسختين من روايتي: مترو حلب بالعربية، ومترو حلب بالكردية، لأصبح أنا أيضًا شخصين، نسخة سورية قديمة جاءت من حلب، ونسخة كردية قديمة تستعيد ذاكرتها في أربيل، عبر شخصية ثالثة كانت حائرة ومتأملة أكثر مما تجرؤ على التدخل، شخصيتي الثالثة: الفرنسية.

في غاليري سيف
في صباح اليوم التالي، وفي بهو الفندق، التقيت بمجموعة من الصبايا والشباب الجالسين معًا في حالة مودة تُظهر معرفتهم ببعضهم، وخمّنت أنهم الفريق الذي سأكون بصحبته لنبدأ فعاليات إقامتنا الإبداعية.




توجهت إلى ركن منفصل عنهم، فأنا في طبيعتي أفضّل المسافة والحذر في بداية أية علاقة، ولا أتمتع بتلقائية التواصل مع أشخاص لا أعرفهم: ربما يكمن هنا قسمي الفرنسي العقلاني إلى حد البرود، لكنه يحميني من احتمال تجاوز الآخر.
مع ظهور مصطفى مختار، الذي التقيت به في مساء اليوم السابق، بصحبة سوزانا وهيلين، من فريق غوته، لشرح بعض التفاصيل العملية لترتيب يوميات الورشة، تأكدت أن مجموعة الصبايا والشباب نفسها هي التي ستكون برفقتي لمدة أسبوع.
هكذا انطلقنا جميعًا من الفندق الذي نقيم فيه معًا، في منطقة عينكاوا، صوب صالة سيف "تفاحة بالكردية"، والتي تبعد أمتارًا عدة، نقطعها سيرًا على الأقدام، في جو من الألفة وتبادل الأحاديث، قبل الوصول وبدء العمل.

وبدأ السحر...
برفقة الصديق الروائي محسن الرملي، حيث ندير الورشة معًا، بدأنا بالتعرف على المشاركين، وبدأت أستمع إلى تقديم كل منهم لنفسه.
برودتي وعقلانيتي الفرنسيتان ـ عشرون عامًا في فرنسا، عشتها داخل محيط فرنسي، وعائلتي الفرنسية التي أسستها هنا، واندماجي المطلق إلى درجة صارت فيها مع العالم العربي محددة بمناسبات أدبية ولقاءات ضيقة ـ بدأتا بالتبّخر...
صرت شخصًا آخر...
مع أنني أحتفظ بتكويني الشرقي، لكن هذا المكون أستخدمه فقط في الكتابة، وليس في علاقاتي مع الآخر، وكأنني أعيش انفصالًا حادًا، بين عالمي الإبداعي، الذي يحدث باللغة العربية، وعالمي اليومي المعيشي الذي يحدث باللغة الفرنسية، لتصبح الفرنسية لغة الواقع، والعربية لغة الخيال. لكن التحول الذي أصابني، منذ الساعات الأولى، كان استدراج شخصيتي الشرقية، التي بدأت تظهر ساحبة معها كثيرًا من المؤثرات الغربية التلقائية التي اعتدت عيشها، ووجدتني أحلّق في عالم من المتعة: كأجنبية تكتشف الشرق، أو كشرقية تستعيد جذورها.
منذ نهاية اليوم الأول، أدركت أنني متواجدة ضمن مجموعة من المبدعين، وهذا ما جعل السحر يتحرك في رأسي.
هنا امتزج تاريخي الشرقي مع ثقافتي الغربية، وأحسست بمسؤولية صوب هذه الطاقات الإبداعية التي تحتاج إلى رعاية وانتباه، لتقدم الصورة الحقيقية للإبداع العربي، الذي نتذمر غالبًا منه نحن الكتّاب ذوي الخبرة، وكذلك النقاد، بل والقراء، متحدثين من وقت لآخر، عن ضحالة المشهد الثقافي.
هنا، كنت أفكر ما معنى المشهد الثقافي الذي ألومه دائمًا، لأتنبّه إلى أن المشهد الثقافي ليس هذا الذي يُعرض علينا ويُقدم على أنه صورة الثقافة العربية، بل ذلك الآخر، المخفي، الذي لا ينتبه إليه أحد، والذي، يا للتناقض، يأتي الغرب، عبر معهد غوته الألماني، بفريق شرقي يعرف تفاصيل المنطقة العربية والكردية، ليساعد في إظهار هذه المواهب وتعديل الصورة غير العادلة للمشهد الثقافي.
من هنا عثرت على مشهد ملوّن جديد لم يسبق لي، رغم خبرتي الطويلة خلال ثلاثين عامًا من الكتابة، في التجول في العالمين العربي والغربي، أن ألتقي بهذه الخصوبة وهذه الأصالة وهذا الشغف في الاكتشاف والعمل والرغبة في الإبداع، لدى مجموعة بدت لي متنوعة ومختلفة، لتكون بوصلة الكتابة هي الجامعة والنابذة لأي اختلاف.
اكتشفت لذة جديدة في الكتابة، هي العمل داخل فريق مبدع، هنا يتكثّف مفهوم العائلة الإبداعية المُختارة. هنا تحوّلنا إلى أقارب يربطنا الأدب، ويجعلنا نبذل مجهودًا إضافيًا للتعرف والتلاقي والتواصل.
الشباب الذين يحملون ثقافة غربية: يكتبون بالإنكليزية، ويصعب عليهم الكتابة مباشرة بالعربية، وبعضهم الآخر الذين يكتبون ويتحدثون بالكردية، ولديهم صعوبات مع العربية، قدموا لي نماذج جديدة من المبدع اللامألوف، وقدموا لبعضهم أيضًا هذه التجربة النادرة من الاحتكاك بالآخر والتعرف عليه.
صبايا كرديات يتقنّ الكردية والإنكليزية، لديهن صعوبة مع اللغة العربية، مع صبايا عربيات، يتقنّ العربية والإنكليزية أحيانًا، صرن صديقات، وصارت الكرديات يكتبن ويعبرن عن أنفسهن بالعربية: مع أخطاء ساحرة تضفي جمالًا على اللغة التي نتحدث بها بتلقائية، بينما هنّ يفتشن عن المفردات بطريقة تقلب توقعات المعتاد على هذه اللغة، حين تحل مفردة محل أخرى...
الشباب الذين اعتادوا الكتابة بالإنكليزية بذلوا مجهودًا كبيرًا، ليقدموا أنفسهم ويترجموا نصوصهم إلى العربية، لتصلني أعمالهم باللغة التي أستخدمها: العربية.
كل ذلك الثراء الإبداعي والإنساني الذي اكتشفته في أربيل جعلني أشعر بالامتنان الكبير لمجموعة العاملين في غوته، الذين أعادوا لي الثقة بالخصوبة المعرفية في منطقتنا.
في أربيل، المكان الأكثر أمانًا، اكتشفت خصوبة المبدعين الشباب المغمورين، واكتشفت أشياء جديدة عن نفسي، حيث كنت أفكر وأتأمل وأتخيل، بينما أسير في شوارعها من دون أوراق شخصية، أو حقيبة يدي، أحمل هاتفي وبطاقة غرفة الفندق، وأسير في الشوارع مكتشفة عوالمي الجديدة والقصص التي تنتظرني لكتابتها مجددًا في هذه المدينة: أربيل، أو كما ندعوها: هولير.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.