}

معرض "المجلس" القطري بمدريد يدلنا على أنفسنا من جديد

ميسون شقير 26 أكتوبر 2020
تغطيات معرض "المجلس" القطري بمدريد يدلنا على أنفسنا من جديد
رسالة المعرض المتنقل متعدد الثقافات: نشر رسالة السلام والازدهار
كعودة الروح إلى منابعها الأولى، أو كوميض جمالي يدلُّنا على أنفسنا من جديد، ويعيد فينا إنتاج الحضارات الأولى في حوار بين قطع أثرية تعود لأربع قارات، وتعيد تفاصيل حوار الوعي البشري الأول بين الضوء والظل، بين الزخرف والخط العربي، وبين صوف السجاد الذي يحمل دفء الأرض القادم منها والمعدن الجاف والبارد الذي تم تحويله إلى تحف ناطقة بالصمت الثرثار، هكذا يلاقيك المعرض القطري في مدريد الذي يحمل اسم "المجلس: حوار بين الثقافات" والذي يعرض حاليا في المتحف الأثري الوطني (MAN) في مدريد، والذي يجمع رموزا دينية وثقافية من الصين وإيران وأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، تؤكد للكون أن فكر التعايش والحب قد ولد منذ ولد الإنسان على هذه الأرض.
هكذا يستقبلك متحف الشيخ فيصل بن قاسم آل ثاني، الذي وصل إلى إسبانيا بعد جولة بدأها في أيلول/ سبتمبر 2018 زار فيها قصر جراند ماستر في فاليتا (مالطا)، وقصر فونتينوي، مقر اليونسكو في باريس، ومعهد العالم العربي في باريس، ثم متحف ولت في فيينا، فاتحا لك قلبه وذراعيه، وملقيا عليك إشعاعه الذي يمتد بين الزجاج الفينيقي المعتق القادم من السواحل التي دلت العالم على اللون، وبين الخزف الإسلامي الذي يطرز الحاضر بخيوط فضة الماضي المعتقة، ويتركك معلقا بين قصص الكون المرسومة على السجاد، وقصص الوجود والديانات الإبراهيمية الثلاث المحفورة على نحاس الوقت الذي لا يصدأ.
ما أن تدخل المعرض، حتى تطالعك لوحة الإعلان عنه والتي تحتوي على رسم يمثل فكرة المجلس في المجتمع الإسلامي بشكل عام ومجتمع الخليج العربي بشكل خاص، اللوحة تحتوي عددا من الرجال والعلماء الذي يرتدون الزي الإسلامي وهم يتحاورون ويتداولون معارفهم وآراءهم السياسية والدينية، وضمن التعريف المكتوب تجد أن كلمة "مجلس" تعني بالعربية حرفيًا "مكان للجلوس"، ولكنها في الحقيقة تمثل "أكثر من ذلك بكثير"، فـ"المجلس" في العالم الإسلامي، وخاصة في منطقة دول الخليج العربي، يمثل "مساحة نبيلة مخصصة للترحيب بالزائر والمسافر، ومكرسة للحوار والنقاش والتعليم"، وقد اعترفت بها منظمة اليونسكو منذ عام 2015، على أنها "تراث ثقافي غير مادي" للبشرية.






قبل أن تبدأ بالتجول في مقتنيات المعرض تشعر وكأن هذا المعرض القطري، العربي، الإسلامي، قد وجد في بقايا الروح العربية التي تسكن مدريد وسكانها، بعضا من روحه ومن رسالته التي يحملها للعالم، رسالة الفن التي كانت ولا تزال تتجاوز كل ما يفرق البشر وتعيدهم إلى رشد الجمال والمسامحة والتعايش والحب، تشدهم من قلوبهم وتأخذهم من عالم يشتتهم إلى حضن الدهشة والتناغم والتناسق.



السجاجيد وقصصها
في بداية تجوالك تلاقيك مجموعة من السجاجيد التي كانت ولا تزال تملأ المجلس في دول الخليج العربي، السجاجيد التي تحكي قصص الأيدي التي صممتها والتي حاكتها على نول الجَمال وابتدعت من الصوف والقطن حكايات الحضارات التي عبرت وتركت في ناسها إرث التعايش وقبول الاختلاف، إرث الحب وتبادل ما حملته الأيادي من فخار الابتكار الذي سكبته في خيوط الصوف والقطن لتجعل حتى الأرض التي تدوس عليها مليئة بالجمال الذي لا ينتهي.
في أول مجموعة السجاجيد، تباغتك سجادة تعود للقرن الثامن عشر عليها رسم لمريم العذراء مع زخارف متعددة اللغات منها اللغة الروسية، ثم تلاقيك سجادة تصوّر الإمبراطور البروسي غيوم الثاني وعائلته مع وجوه ملوك من بلاد فارس، وبعدها تحتفي فيك سجادة فارسية طاعنة الجمال تعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر تصوّر "أقطاب الكون الواحد والخمسين" ومنهم كونفوشيوس وسقراط وكريستوفر كولومبوس ونابليون والإسكندر المقدوني، وتكمل طوفانك بين قطع السجاد لترحب بك سجادة تحتوي كل أسماء الأنبياء وتعيد رسم قصة النبي يوسف وإخوته، ثم سجادة أخرى تحتوي على رسوم للنبي موسى، وعلى كتابات صوفية قديمة عبرت العالم العربي ووصلت إلى الهند.

الشيخ فيصل آل الثاني: نريد من خلال هذا المعرض التركيز على أوجه التشابه التي تربطنا كبشر من ديانات وثقافات مختلفة، يتم الوصول إلى هذه الأهداف بشكل
مثالي من خلال القطع الأثرية التي اخترناها لعرضها
في المتحف الأثري الوطني بمدريد



من معروضات "المجلس": سجادة عليها صور القيصر وليام الثاني وعائلته. بلاد فارس. بداية القرن العشرين 

















وما أن تترك السجاد حتى تبدأ برؤية التحف الموضوعة حول المجلس وتبدأ بمطبوعة من الصين ومصابيح للمساجد مصنوعة في فيينا ومخطوطة عرضها أربعة سنتيتمرات ونصف السنتيمتر خُطّت فيها كلّ آيات القرآن، كان الحجاج يضعون مثلها في جيوبهم، وأول ترجمة للقرآن طلبها الفاتيكان في القرن السابع عشر، وترجمة للكتاب المقدّس إلى العربية، ووعاء نقشت عليه عبارات عربية وعبرية.
ثم يلاقيك في صدر المجلس هودج يعود للقرن الثامن عشر، كان لحمل النساء في رحلة الحج، يعود لمنطقة بلاد الشام، يحتوي على زخارف ورسومات لورود وعلى آيات قرآنية مكتوبة بالخط العربي يجعلك تحس أنك محمول في بيت طاعن الجمال والإلفة على ظهر جَمل يسير في قافلة عائدة من مكة ومتجهة إلى الشام التي قادت قوافل المعرفة والتجارة وحرير الزمن الذي لا يموت.
تمر بالكشكول المطرز بالآيات القرآنية والنقوش، والذي كان يستعمل لجمع الزكاة في المسجد، وعلى كشكول آخر مصنوع من قشرة جوز الهند ومحفورة عليه سورة البقرة، ثم تصل إلى صفيحة فخار فارسية تعود للقرن الحادي عشر، تروي قصة حب كاملة كانت قد حدثت قبل قرون وتشهد عليها رسومات لحديقة غناء.

 

آنا باوليني: معرض حوار الثقافات، ليس مجرد معرض يتضمن قطعًا جميلة وهادفة من مجموعة الشيخ فيصل آل ثاني فحسب، بل هو مثال يكشف كيف
يمكن للتحف الفنية أن تحكي قصة تشابك الثقافات المختلفة




نشر رسالة السلام والازدهار وفهم الثقافات المتعددة
أخيرا تصل إلى "صينية القديس جورج"، وهي أعجوبة حقيقية من البرونز تعود للقرن الثامن عشر، قادمة من دير مسيحي في الموصل، ومنقوشة بأحرف عربية، ومكتوب عنها بأن هذه الصينية قد شكلت أصل المجموعة "الفخمة" للشيخ فيصل آل الثاني الذي قال عند افتتاح المعرض في مدريد بأن فكرة إقامة متاحف متنقلة عبر العالم، كانت تراوده منذ عدة سنوات وذلك من أجل إبراز ثقافة المواطنين والمقيمين التي تستحق إظهارها خارجيًا، وأنه "في خضم الهجمات التي تشن على ثقافتنا الإسلامية والعربية، فإن هذا المعرض، هو بمثابة ردّ عملي على تلك الهجمات"، وأن رسالة المعرض المتنقل متعدد الثقافات هي نشر رسالة السلام والازدهار وفهم الثقافات المتعددة والإيمان بالتعايش وقيم التسامح، مضيفا: "نريد من خلال هذا المعرض التركيز على أوجه التشابه التي تربطنا كبشر من ديانات وثقافات مختلفة، يتم الوصول إلى هذه الأهداف بشكل مثالي من خلال القطع الأثرية التي اخترناها لعرضها في المتحف الأثري الوطني، وسيساعد ذلك في الحفاظ على التاريخ والثقافة والتقاليد للأجيال القادمة للتعلم والاستفادة منها، بالإضافة إلى المساعدة في تعزيز واستدامة الحوار الثقافي في مختلف البلدان التي سنزورها".

من معروضات "المجلس": صفحات القرآن المنفصلة مخزنة في صندوق محمول. غرناطة أو شمال إفريقيا، أواخر القرن الخامس عشر  

















وكانت الدكتورة آنا باوليني، مديرة مكتب اليونسكو بالدوحة، قد أوضحت أن معرض حوار الثقافات، ليس مجرد معرض يتضمن قطعًا جميلة وهادفة من مجموعة الشيخ فيصل آل ثاني فحسب، بل هو مثال يكشف كيف يمكن للتحف الفنية أن تحكي قصة تشابك الثقافات المختلفة، وأن تقوم ببناء التوعية الذاتية، وبتعزيز الانفتاح على المعرفة، وبتقدير وفهم التنوع الثقافي، وتبني منهج التعلم طوال الحياة.
من الجدير بالذكر أن متحف الشيخ فيصل بن قاسم آل ثاني تم تأسيسه عام 1998، في الحصن القطري الكبير بمزرعة السمرية، في الدوحة، وحصل على لقب أضخم متحف شخصي في العالم، وتم تنظيم معرض الشيخ فيصل آل ثاني المتنقل هذا تحت رعاية أمير دولة قطر سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ومتحف FBQ بالتعاون مع متاحف قطر ومكتب اليونسكو في الدوحة واللجنة الوطنية القطرية للتربية والثقافة والعلوم.
وربما ما قالته الشيخة العنود، ابنة الشيخ ناصر آل ثاني، بأنه "يسود اعتقاد بأن العولمة أمر جديد، لكن هذه القطع تشير إلى وجود صلات بين الإمبراطوريات التي حكمت العالم القديم"، هو أوضح انعكاس لهذا المعرض، فكل الزخارف والكتابات والنقوش تعيد لنا جميعا حضاراتنا الأولى كلها، كما تعيد تشكيلنا لنعود من جديد أناسا كونيين ينتمون دائما إلى الإنسان، وإلى الكون.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.