}

ترشيحات "الباييس" الإسبانية لأفضل كتب الأسبوع

أحمد عبد اللطيف 13 أكتوبر 2018
 

قفزة بابا

منذ سنوات بعيدة، يفكر مارتين سيباك في الطريقة التي يحكي بها تراجيديا حياته الكبرى، والتي تدور حول انتحار أبيه خورخي سيباك، وهو مصرفي أرجنتيني شهير، عام 1991، وذلك بعد أن أفلست شركته وحين أتم ابنه، الذي صار اليوم كاتبًا، الخامسة عشرة. سيباك (بوينوس آيرس، 1975) صحفي محترم ومشهور بكتابته لسيرة إيبو موراليس خيفاثو، وكتب أخرى حول قضايا رئيسية في الأرجنتين مثل مجموعة كلارين، واختار في هذا الكتاب أن يسخر من نفسه، ومن أبيه، ومن حكايته نفسها، وربما كانت هذه أفضل طريقة يستخدمها الأرجنتينيون للمطالبة بحق الشخصية الهذيانية التي كانت المنتحر. استطاع سيباك في هذه الرواية أن يجعل من القصة الدراماتيكية رواية في شكل صحفي ومروية بنبرة متهكمة، وأحيانًا بسخرية سوداء، نبرة تجعل القارئ يلتهم الكتاب من صفحته الأولى التي تكشف كل شيء، حتى الصفحة الأخيرة.  

من الصعب تخيل استهلال أكثر تجريدًا وفي نفس الوقت ساخر من انتحار الأب، وفي كتاب عنوانه "قفزة بابا": "قبل أن يقفز واقفًا من الطابق السادس عشر، ودّع بابا الطبقة العاملة الأرجنتينية". كان أبوه يوفّق بين حياته كرجل مصرفي مليونير يعيش في قصر يبلغ ألفي متر مربع وبين عقيدته العمياء في النموذج السوفياتي الذي دفعه لنقد جورباتشوف بسبب البيريسترويكا. لكنه حين تعرض للإفلاس، انتحر. وقبل أن يلقي بنفسه إلى الفراغ، حيّا العمال الذين كانوا يشيدون أمامه "فندق حياة"، وحاولوا دون جدوى أن يثنوه عن فكرته.

الحكاية أن أبا خورخي، الجد سيباك، بدأ حياته بتأسيس شركات من أجل الحزب الاشتراكي الأرجنتيني، لكنه في النهاية احتفظ بها لنفسه. "كان مجرد واجهة للحزب الذي استقل"، يقول سيباك بسخرية. الاشتراكية الحقيقية كانت جدته. أما زوجها فلم يكن إلا رجلًا يسعى لجمع الثروة. "كان لافتًا جدًا هذه الثنائية بين الذكي الذي يبقى مع مال الحزب وزوجته التي كانت اشتراكية بالفطرة. ولم يتجاوز أبي قط هذا الجرح". ومن خلال طبيب أبيه النفسي، يكتشف سيباك أن الأب كان يتعذب بسبب أسهم في منجم كان الحزب يقاضي الجد بسببه. وبعد سنوات طويلة، كان الأب يتعالج من هذا الذنب الأصيل في عائلته المليونيرة.

أما العم أوسبالدو، عم مارتين، فكان وريث الروح التجارية للجد أكثر من الأب، غير أنه تم اغتياله عام 1987 على يد مافيا شرطية بعد أن اختطفته. شغلت قضية سيباك الصحافة في تلك اللحظة، وخلال أكثر من عامين، بعد أن دفعت مليون يورو، ظنت العائلة أنه حي. كان هناك كل نوع من نظريات المؤامرة، لكنهم في النهاية عرفوا أنهم قتلوه في الحال، في أغسطس 1985.

لقد بذل سيباك مجهودًا صحفيًا كبيرًا ليعيد بناء حكاية عائلته التراجيدية، والأهم أنه أراد أن يرسم أباه بدقة، وهو شخصية أثرت كثيرًا في حياة المؤلف، خاصة حين كان يتساءل وهو مراهق لماذا انتحر أبي. لكنه، وبينما كان يكتب، كان يشيّد، من دون أن ينتبه، حكاية الأرجنتين الكبيرة، اضطرابات الثمانينات، وهذه العلاقات القاتمة بين المال والسياسة والعسكر الذين يهيمنون على القارة بأكملها.

يقول سيباك: "كنت أريد أن أكتب حكاية أب وابن، فقرأت كل ما وجدته حول هذا الموضوع، من كافكا إلى بول أوستر، لكن الآن ثمة من يقول لي إنها حكاية عن الأرجنتين". ومن بين هذيانات المصرفي الاشتراكي الكثيرة محاولته في التوسع في ثرائه ببيع الهمبورجر والحفاضات المصنوعة في الأرجنتين لدول مثل بولندا ويوغسلافيا، مستغلًا علاقته بالاتحاد السوفياتي. وكانت الخسارة مدوية، لكنه لم يهتم أبدًا. حتى انهار في النهاية.

لقد حقق الكتاب نجاحًا منقطع النظير في بلده، باع بمجرد نزوله 25 ألف نسخة، وشهرته تنتقل من فم لفم. والآن يعاد طبعه في إسبانيا بمقدمة لـ كلاوديا بينيرو. يحكي سيباك أنه كان يبكي ويضحك أثناء كتابة الكتاب، وأنه رأى الدقة الصحفية طريقة مثلى لحكي عالم الشخصيات التي تحيط بأبيه وبالأرجنتين في تلك السنوات، حيث الديكتاتورية أولًا، ثم الديمقراطية التي يسيطر عليها الأعمال القذرة ثانيًا. ما من أحد غيره كان بوسعه أن يحكي عن ذلك، فتلك كانت حياته التي تربى بداخلها، حياة النخبة والأثرياء، وحياة البيزنس والمصالح.  

تسرد الرواية من بين أحداثها، ومن وجهة نظر أخرى، قصة اختطاف واحدة من عائلة بورن، أكثر العائلات ثراءً بالأرجنتين. حدث ذلك عام 1974، ودفعت العائلة سبعين مليون دولار للخاطفين الذين كانوا عصابة حربية، وفي أواخر الثمانينات دفعت هذه العصابة جزءًا من المبلغ لتمويل حملة كارلوس منعم الانتخابية، بعد وعد منه بإصدار حكم بالبراءة لرؤوس العصابة.

إنها نفس الأرجنتين التي فيها قام الجد سيباك، الذي تعرض للحبس لأنه يساري خلال ديكتاتورية لانوسي، بدعوة الجنرال، بعد ذلك بسنوات، لتناول الشاي في قصره لأنه كان يريد التواصل مع العسكر وبالمرة البحث عن معلومات حول زنزانة ابنه المختطف. هذه هي الأرجنتين التي لا تنتهي.

 

المقززون

سانتياجو لورينثو (بورتوجاليتي، 1964) لا ينافس أحدًا إلا نفسه. لكن في حالة منافسين له، فلا بد أنه الأفضل. ما يكتبه اختيار شخصي، وغريب، له خط واضح وقاطع ومباشر، مع ذلك مُطعّم بالباروك الصرف.

 لكن السهل بالنسبة لـ لورينثو، مستحيل بالنسبة لأي كاتب آخر أو سيناريست حي، إنه ساخر وممرور وإسباني. يجمع ما بين القديم والجديد في قالب ما بعد حداثي وسِيَري. يجمع النقد الاجتماعي مع الشعور بالتوازن والاحتقان والرقة. يستحق أن ينتج روايات جيدة إذ كانت روايته الأولى التي قفز بها كانت "إيفرست" ثم "المليونات"، تلاهما "اليتامي" و"الرغبات".

في كل هذه الأعمال، يتناول لورينثو مسألة الفرد كغريق لا يكف العالم الخارجي عن مد فخاخ التبني إليه أو الحياة الاجتماعية التي لا يحتاج إليها ولا يريدها. العالم لا يتركه في حاله ويحاول أن ينقذه من فردوس أن يكون الواحد في انسجام مع نفسه بعيدًا عن إغراءات رأسمالية سان أنطونيو. شيء مثل: ما أجمل أن تكون وحيدًا (أو وحيدين) ويا للآخرين من ثقلاء.

في الرواية الجديدة، يروي القصة مانويل، عم البطل– هذا الصوت وهذا المنظور أحد أكبر صوابات لورينثو-. ابن الأخ، دفاعًا عن نفسه، وداخل بنايته نفسها، يطعن بمفك رجلًا من شرطة فض الشغب وعليه أن يهرب من مدينته، مدريد. ويقرر أن يختبئ في واحدة من آلاف القرى بإسبانيا المهجورة. وفي البيت يعثر على كتب من سلسلة أوسترال القديمة، ويزرع ويحصد ويكتفي بهذه الحياة، بالإضافة لما يرسله له عمه من مشتريات أسبوعية ورئيسية. ويكتشف مانويل أنه لا يحتاج إلى أي شيء من الأشياء التي تستعبدنا.

 لا يسعى المؤلف إلى الانتصار للانعزال فحسب، بل يقدم وثيقة تمرد ناقدة للسلعية المتوحشة، والنصب السياسي والاجتماعي، ولغزو العته.

 

كان عندي حلم

قصة واحدة تكون كافيةً أحيانًا لقول كل شيء. وفي كتاب "كان عندي حلم"، للروائي خوان بابلو بيّالوبوس ثمة قصص متعددة. لكن أهمها قصة بعنوان "الجانب الآخر هو الجانب الآخر". فيها، يظهر صبي في الـ 14 يرجع من مدرسته سيرًا بشارع بإحدى مدن السلفادور. يحمل حقيبة على ظهره ملأى بالكتب والكراسات وفي يده كيس بطاطس مقلية يقرمشه بينما يسير. يسير على مهل لأنه سمين، ولأن الجو حر، ولأنه مرهق. لقد مر ببيت زميل له وانتهى من الواجب المدرسي.

في منتصف الطريق يقطع خطوته أحد أعضاء مارا سالباتروتشا، عصابة عنيفة مكونة من مراهقين يسيطرون على الأحياء بهندوراس والسلفادور وجواتيمالا. فرد العصابة يتهم سانتياجو، الولد السمين، بأنه قادم من أحد أجزاء المدينة التي يسيطر عليها عصابة عدوة، عصابة لاس ميرداس. كلاهما كان يعرف أن المرور بهذه الحدود غير المرئية بدون ذريعة مقنعة عقابها علقة أو طلقة نار بدون أي سؤال. والولد السمين يشرح لولد العصابة أنه كان ببيت زميل بالفصل. ويضيف كطوق نجاة أنه يعرف يوني، أحد رؤساء عصابة لامارا.

ويتجهان إلى يوني ليتحقق الولد من صدق الصبي. وفي الطريق ينتزع فرد العصابة كيس البطاطس من الولد. ويوني يؤكد أنه يعرفه. وعند حل المشكلة، يتلقى يوني مكالمة تحذره من أن الشرطة تبحث عنه. بعد أن يغلق الخط، يأمر التلميذ السمين أن يخبئ في بيته صندوق هيروين، فيعترض الولد بخجل. لكن يوني يلح. وحتى يحمل الصندوق كان يجب أن يفرغ الحقيبة من الكتب والكراسات التي أنهى فيها واجبه المدرسي. بعد عدة أيام، يروح أحد أفراد العصابة ليتسلم الصندوق من بيت التلميذ السمين، وحينها يعرف أن السمين سافر إلى الولايات المتحدة من جدته التي سلمت الصندوق للعصابة.

كل شيء يكمن في هذه الحكاية: الأسباب التي دفعت الولد إلى المجازفة برحلة خطيرة من دون تذكرة عودة، الخوف من البقاء في مدينته. هنا تكمن قوة القصة، قوتها في وصف ما حدث لصبي في الرابعة عشرة يعيش في ركن من أميركا الوسطى. إنه الميكروسكوب الأدبي المطبق على علم الاجتماع. لقد كتب بيّالوبوس عشر قصص ترصد لماذا وكيف يقوم الصبية بدول أميركا الوسطى بخوض مغامرة السفر للولايات المتحدة. قصص مبنية على مقابلات شخصية، اختار المؤلف أن تكون قصيرة، قصيرة جدًا، مستخدمًا تكنيك كاتب قصة ماهر، حيث يستخدم وجهة نظره بينما يختفي كمؤلف ليترك الأبطال يستعرضون تجاربهم بكل تعر وهزيمة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.