}

إدواردو مندوثا: الإيديولوجيات فقدت السلطة على تفكيرنا

أحمد عبد اللطيف 2 أكتوبر 2018

يعتبر إدواردو مندوثا، صاحب "مدينة المعجزات"، أحد أهم الكُتّاب باللغة الإسبانية الآن، وأكثرهم شهرة عالمية وحصدًا للجوائز وتقديرًا عالميًا. وهذا التقدير الذي ناله مندوثا ربما بدأ منذ روايته الأولى وظل يتصاعد معه من عمل إلى عمل.

ويميل هذا الكاتب الكتالوني إلى التعمق في الواقع حتى يبدو عمله وثيقة سوسيوثقافية، ترصد الراهن وتربطه بالسلوك الإنساني، ربما من هنا كان كاتبًا كتالونيًا بالمعنى الواضح، إذ تحتل كتالونيا مساحة كبيرة من مرجعيته، لكن كتالونيا كجزء من إسبانيا الأم، كمقاطعة تتحول وتخلق ثقافتها في إطار السياسة الإسبانية، غير أنها مع ذلك ذات خصوصية. وربما الغربة، لكونه عاش سنوات طويلة في الولايات المتحدة، كانت سببًا في أن يكتشف هويته من جديد، ويسعى لتسجيلها، وربما اللحظة الزمنية التي تكوّن فيها ككاتب (ولد في عز ديكتاتورية فرانكو ونشر روايته الأولى في فترة غروب الفرانكوية)، والمؤكد أن روايته أعادت الأنظار إلى إسبانيا مجددًا بعد أن سحبت أميركا اللاتينية البساط منها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وهو، بجانب خوان خوسيه مياس وخابيير مارياس، مثلوا معًا لافتة جيل السبعينيات في الرواية الإسبانية.

هنا ترجمة لحوار مع مندوثا أجرته جريدة "لا بانجوارديا" الإسبانية حول روايته الجديدة "الملك يستقبل":

يعود إدواردو مندوثا (برشلونة، 1943) إلى الأدب برواية شبه سيرية، عنوانها "الملك يستقبل"، هي بداية لثلاثية اختار لها عنوان "ثلاثة قوانين للحركة"، وتغطي الفترة من 1968 وحتى عام 2000. أربعون عامًا من التاريخ يستعرضها مندوثا من خلال شخصية الصحافي روفو باتايا، هو ليس مندوثا لكنه يتشابه معه، أو على الأقل فعلا نفس الأشياء التي فعلها المؤلف، بدايةً من العمل في نيويورك إلى السفر إلى أوروبا الشرقية ليرى كيف تسير الأحوال في ظل الشيوعية الواقعية. إنها مغامرات يرصدها الجزء الأول من الثلاثية، "الملك يستقبل"، والذي ينتهي بموت كاريرو بلانكو. إنه عمل ينصهر فيه ملوك الأوبريتات بملوك القصور الملكية، وفيه يرى البطل السلبي كيف تبدأ تغيرات العالم الذي نعيش فيه الآن.

الكتابة بالضمير الأول

(*) في أي لحظة ظهرت لك فكرة الثلاثية؟

- ثمة لحظة فكرت فيها: هل سأواصل كتابة روايات حتى يعجز جسدي أم ربما أفعل مثلما قال لي أحد إنه حانت لحظة كتابة المذكرات، أو السيرة الذاتية، أو أي شيء شبيه؟ لقد فكرت في المسألة وأعتقد أني سأفعل ذلك، لكن في شكل رواية، وبشخصية لن تكون حتى الأنا العليا، لكنها تعيش نفس الزمن الذي عشته وتكتب بالزمن المضارع والضمير الأول. بدأت ذلك ثم انتبهت إلى أن كتابًا واحدًا لن يسع كل ما أريد إن رغبت بأن أتأمل في كل لحظة.

(*) وهل تتطلع إلى أن تصل حتى اليوم؟

- أعتقد أني سأتوقف قبله. سنرى. في الكتاب الأول فكرت أن موت فرانكو كان لحظة جيدة لإغلاقه. ربما الجزء الثاني يضم عامين فحسب، أو الفترة الانتقالية. فكرت في الوصول إلى عام 2000، وأن تكون مراجعة للنصف الثاني من القرن العشرين. وأسير بهذه الفكرة.

 (*) ولماذا اخترت هذا العنوان للثلاثية؟

- لأنه ثلاثة كتب، ولأن الكتاب يضم قوانين الحركة الثلاثة عند نيوتن. في نفس الوقت لأن الفرانكوية وما بعد الفرانكوية والإرث الفرانكوي لا تزال موجودة. إن أحد الموضوعات التي تهمني والتي أعود إليها باستمرار ما فعله فينا النظام الفرانكوي.

(*) وماذا فعل فينا؟

- لأشرح ذلك أحتاج إلى ثلاثة كتب، لكني أعتقد أن لدينا إرثًا لا يمكن أن نتعامل معه بالترميز، رغم أن الرمز يساهم في فهمه، وأن علينا أن نحلله. وهو إرث ليس الفرانكوية فحسب، ففرانكو مهم جدًا، هو أداة لطريقة كينونة وعقلية اجتماعية كوّنتنا على مدار أربعين عامًا. نحن بلد تمثل فيه الدولة والقانون والدستور عدوًا، بدلًا من أن يكونوا البداية، وها نحن فهمنا ذلك، وسأرى كيف يمكنني التعبير عن ذلك، التعبير عن هذه الصعلكة. إن تجاوزهم القانون، تمردهم عليه، وصنع الفخاخ، كل ذلك يعتبرونه جدارة، وهي أشياء لا تفعلها الدول الديمقراطية الأخرى. يصنعون فخاخًا لكن من دون تصفيق. وهذا أحد الكوابيس/الإرث الخاص بتاريخ إسبانيا الطويل.

(*) أبو خطيبة البطل رجل فرانكوي مقتنع بأن هذا النظام هو تقريبًا فجر الحضارة.

- نعم، وهو إحدى أكثر الشخصيات احترامًا لأنها على الأقل تعتقد فيما تفعل. الـ 99% من المجتمع لا يعتقدون في ذلك، لكنهم مع ذلك كانوا يشعرون بالراحة في وضعهم ذاك. الحقيقة أن هذه الشخصيات كانت موجودة لكننا الآن نسيناها، وفيلق فرانكو يبدو لنا كرقصة أقنعة تقريبًا، لكن كانت له لحظته، سبب كينونته وتأثيره الكبير مثلًا في كتالونيا. لقد أصبح كثيرون من مثقفي كتالونيا من نفس الجيل أتباعًا لفيلقه لأنه بدا لهم حركة حديثة تتجاوز الأحزاب السياسية والفساد. وفي النهاية، نفس الحكاية المعروفة.

في روفو باتايا

شيء مني

(*) من هو شخصية روفو باتايا؟ وما مدى قربه من حضرتك؟

- فيه شيء مني. هو أكثر سلبية، أنا لم أكن كذلك كثيرًا. هو سلبي نسبيا، إذ إنه عندما تلوح له الفرصة يستغلها. يدخل في مغامرات متعددة وفي لحظة ما يفرض على نفسه نفيًا ذاتيًا وسهلًا وذهبيًا بالسفر إلى نيويورك. وهو نفس ما فعلته أنا في نفس اللحظة وفي ظروف شبيهة. هو سلبي كذلك لأنه يسمح بأن تمر الأحداث من خلاله، الناس يحكون له، ويستسلم للتأثر. لكنه مع ذلك يتمتع بفضول كبير. على سبيل المثال، حركة المثليين تبدو لي ذات أهمية لأنها عنت أشياء كثيرة في نفس الوقت، وهو، رغم أنه ليس مثليًا، إلا أنه كان يدخل الحانات ويتعرف ويتكلم معهم. إنه لم يقرأ عن ذلك في الجرائد، وفي هذا يتشابه معي. أنا سلبي مثل كل الكُتّاب، ومن أجل ذلك نكون كتابًا: من يصنع أشياءً لا يحتاج إلى أن يؤلف أحداثًا أخرى. 

(*) ولا يعثر روفو على مكان في العالم.

- هذه العبارة الأولى في حياته تغيّر كثيرًا آراءه، وهو شيء أصفق له عليه لأني فعلت نفس الشيء. بالنسبة إلى كثيرين من جيلي ومن وجهة نظر ثقافية لم يكن فهم العالم ممكنًا من دون قراءة ماركس وفرويد. والشيوعية كانت تطورًا للعدالة. شيئًا فشيئًا انتهى خداعنا، ليس كليًا. ولا أظن أنه يمكن التخلي عن ماركس وفرويد، فهما ببساطة ليسا دواءً لكل شرور العالم، لكنهما يداويان بعض الأعراض. ونحن هنا في هذه اللحظات نفكر أننا لا نعرف أين نضع هذه البقايا القديمة. التحليل النفسي، لاكان... لكن منذ ذلك الحين لا الإيديولوجيات ولا المفكرون يتمتعون بسلطة على طريقة تفكيرنا مثلما كان ماركس وفرويد وليفي شتراوس وبارت يسيطرون علينا. كيف كانوا يفكرون، كيف يمكن أن أستخلص منهم شيئًا، كيف ينبغي أن أكتب. ويجب أن نرى المآزق التي وضعونا فيها. الآن ما من قضايا جديدة لنفكر فيها، رغم أن هناك الآن إيديولوجيات أخرى لم تعد كما كانت. فالإسلام إيديولوجيا شديدة القوة. وكوننا لا نفهم كيف تعمل فهذا لا يعني شيئًا. الماركسية كذلك بالنسبة لأفارقة القرن العشرين لم يكن لها أي معنى؛ فما معنى السلع المنتجة في مكان لا توجد فيه سلع ولا إنتاج؟ ربما ما اختفى لم يكن الإيديولوجيا، وإنما المركزية الأوروبية.

النسوية، مثلًا، تأتي من زمن أبعد، لكنها في الستينات والسبعينات تقفز إلى وسائل الإعلام وتتحول إلى إيديولوجيا باقتراحاتها ومطالبها. ومع حركة المثليين، تخرج لأول مرة حركات منقطعة الصلة عن الإيديولوجيات العابرة للقارات. كأنها نقابة رأسية. الجميع يتحدون من أجل قضية، وليس من أجل مصالح اقتصادية أو سياسية. وهذا سيترك بصمة واضحة، والآن يترك بصمة واضحة؛ إذ يبدو أن الأحزاب السياسية لم تعد متكاملة وأنها باتت مجرد أدوات وشبه وقتية. سأصوت لهذا، سأصوت للحزب الآخر، دائمًا على عكس المتوقع. في المقابل، الأفكار العابرة تتحرك، الأفكار البيئية والقومية. إنها ظاهرة بدأت منذ ذلك الحين، وتشغل حيزًا في الإعلام. وحركة المثليين تظهر لأن التلفزيون يرى ما يحدث ويعد تقارير يشاهدها الناس في البيوت ويخلق رأيًا عامًا. من كل ذلك لم يبق إلا وعي قليل جدًا في الحاضر. ويقال إن التلفزيون حماقة لتزجية الوقت، وأننا ننسى سريعًا ما يعرضه. ربما لذلك أكتب هذا الكتاب.   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.