}

لويس فياض.. هوية عربية في سرد كولومبي

أحمد عبد اللطيف 22 أبريل 2017
يعتبر لويس فياض أحد أهم الكُتّاب الكولومبيين الأحياء، وأكثرهم غزارة في الإنتاج، وأكثرهم ترحالًا وتضادًا لفكرة الهوية. ولد فياض في بوغوتا عام 1945، من عائلة فلسطينية مهاجرة لأميركا اللاتينية أثناء الخلافة العثمانية، ومثل الكثير من تلك العائلات كان السبب يتنوع ما بين الشعور بالاضطهاد والإجبار على التجنيد. استقرت العائلة في نهاية المطاف في كولومبيا، حيث ولد لويس وتلقى تعليمه وقام بدور السيناريست للعديد من الأعمال المسرحية والتلفزيونية والإذاعية. في ستينات القرن الفائت، عمل فياض كصحافي وشرع في نشر قصصه وهوامشه الأدبية في المجلات والجرائد المحلية والأجنبية. درس علم الاجتماع في جامعة كولومبيا الوطنية ثم درس الأدب والصحافة حتى رحل عن كولومبيا عام 1975، متجهًا إلى باريس، حيث عمل هناك بالكتابة للصحافة وإلقاء المحاضرات والورش الأدبية، كذلك درّس الفن والتاريخ في الجامعات والمدارس العليا والمعاهد المتخصصة. ثم انتقل إلى إسبانيا ثم استوكهولم، واستقر به المطاف في النهاية في برلين، حيث يقيم الآن ويعمل في الترجمة من الألمانية للإسبانية.

صدر لفياض العديد من الأعمال الهامة التي لاقت استحسان النقاد، ووصفوها بأنها "روح جديدة في السردية اللاتينية، منها روايات "أقرباء إستر" (1978) "رفقاء رحلة" و"سقوط الاتجاهات الأصلية" (2000) "إنجيل رجل أعمال" (2004)، ومجموعات قصصية مثل "خطاب المستقبل" (1993) "عودة الأصداء" (1993) "مرآة بعد ذلك" (1995) "أصوات النار"(1968) "رائحة المطر" (1974) "درس للحياة" (1984).

ورغم تنقلاته المستمرة، بل وحتى اكتسابه هويات جديدة، تبقى الهوية العربية هي الأكثر لفتًا في سردية لويس فياض، إذ تبرز من آن لآخر في أعماله، خاصة روايته الشهيرة "سقوط الاتجاهات الأصلية". هذه الهوية لا تكتفي بالظهور كموضوع للتناول فحسب، بل تبزغ كذلك في عوالمه السردية بمفرداتها، لتعبر بذلك عن أكثر معاني الاغتراب عمقًا: الاقتلاع من الجذور.

هنا نقدم ترجمة لإحدى قصص فياض.

 

 رجل وكلب

يسير ليونثيو بأحد شوارع المدينة المتورمة، بيده جريدة وأكلاسير، ومن خلال الجاكيت المعلق على ذراعه يمكن أن يُستنبط أن اليوم رطب، إذ إن ليونثيو لا يحتمل البرد مهما كان خفيفًا. لقد خرج من المكتب منذ دقيقة واحدة، والساعة الآن السادسة ودقيقة وهو يتوجه نحو محطة الباص. ومثل كل الناس، يسير مسرعًا في محاولة أبدية وأحيانًا عبثية، ليلحق مقعدًا خاليًا. ورغم أنه لا يفكر إلا في ذلك، ينتبه في الحال لوجود كلب بجواره. غير أنه لا يبدي اهتمامًا ويواصل خطواته الواسعة، مسرعًا أكثر مع كل خطوة. ثم يشعر أن الكلب يتبعه فيهشه بالجاكت. يتوقف الكلب مطرقًا رأسه في إيماءة خضوع، فيما لا يهدئ ليونثيو من خطوته ولا يتذكر حتى الكلب حين يصل إلى المحطة. يقف في الصف ويشعر حينئذ بشيء يتحسس بنطلونه. يراقبه الكلب كأنه يتفحصه. هذه المرة يحدق فيه ليونثيو: كلب صغير، هزيل، أصفر، مكسو تمامًا بشعر كما بجروح. يفكر ليونثيو أنه سيرحل الآن مع الباص فيما سيختفي الكلب، فيشرع في قراءة الجريدة. يستمر هدوؤه عدة ثوان بالكاد، حتى ينتبه إلى أن المنتظرين في الصف ينظرون إليه بنفس الاحتقار الذي ينظر به إلى الكلب. لا يهمه أن يعتقدوا أن الكلب كلبه، ويبرهن على ذلك بانشغاله مرة أخرى بالجريدة إن بقي الكلب ساكنًا. لكن الكلب يعاود تحسسه للبنطلون ويبدو أن لديه نوايا للتبول على ساقه. ربما لو ذاب بين الناس سيختفي عنه، لكن الوقت قد يهرب منه وقد يفقد الباص ويضطر للانتظار دقائق أخرى قد تصير نصف ساعة. في النهاية فضّل هذا الحل وشرع في السير السريع، والكلب يتبعه، محاولًا الذوبان حيث تتزاحم الناس فلا يستطيع الكلب أن يرتاب في أي مكان يمكن أن يكون. وبعد مئتي متر يبتسم برضا: يدير رأسه فلا يرى الكلب في أي جانب، فينهي جولته بخطوة أقل سرعة، ويقف في صف محطة الباص. لا يرى وجوهًا أليفة، إذ الباص المعتاد قد فاته وعليه انتظار آخر، فيفرد الجريدة. وفيما يقرأ ويفكر في الغداء الذي ينتظره، شيء للمرة الثالثة يلعق بنطلونه ويترك ثقلًا على ساقه. وقبل أن ينظر ويبتسم، يقول لنفسه إنه مجرد انطباع، لكن بمجرد أن يلتفت لا يملك إلا أن ينفض الجريدة، مصدرًا صخبًا لا يسبب أدنى خوف للكلب. ثم يلتقط نفسًا عميقًا يمنحه الهدوء لثانية، رغم أن نَفَسه بدا متأثرًا. 

بعد دقائق يصل الباص. يصعد ليونثيو ويبحث هباًء عن مقعد خالٍ. حتى الآن لا يفسر لنفسه ماذا يريد الكلب الذي يراقبه من الأسفل، لا يشغل نفسه به ويواصل قراءة الجريدة ويده معلقة بماسورة الباص العلوية. والشارع المزدحم يجبر الباص على السير ببطء، لكن ذلك لا يوتر ليونثيو إذ هو أعزب وأنشطته محددة. يرفع رأسه ليتحقق ما إذا كان ثمة مقعد خالٍ، لكن الباص، على العكس، كان أكثر ازدحامًا. ينظر شاردًا حد أنه لا ينتبه لهذه التفاصيل. وحين يعيد وجهه للجريدة تكسوه دهشة مصحوبة بتعجب طفيف: بمحاذاة الباص، ومراقبًا من حين لآخر ليتحقق من أن ليونثيو في مكانه، يركض الكلب. وليونثيو يتحصل على سكينته بعد برهة. يفكر حينئذ أنه شيء تافه، فحين ينزل سيدخل مسرعًا شقته وستنتهي المطاردة. واستمر الكلب في متابعته حتى الشقة دون أن يغيب عنه للحظة، وما لا يمكن أن يفهمه ليونثيو كيف استطاع الكلب أن يدخل قبل أن يغلق الباب. يفتح ليونثيو الباب مرة أخرى ويحاول طرده بالجاكت. في هذه اللحظة تهبط سيدة من شقة أخرى وتسأله عما يحدث، فيغلق الباب دون رد. ثم ينشغل بالكلب من جديد. وتأتي لحظة الذروة حين يضطجع على السجادة وينظر إليه بثقة.

يلقي ليونثيو بغضب الجريدة والأكلاسير والجاكت على كرسي، ويتجه للمطبخ ليسحب مكنسة ويقف يتحدى الكلب الذي يواصل نظراته المستخفة ويتجاوز الضربات بأستاذية لا تصدق. ومنهكًا، يلقي ليونثيو المكنسة في جانب ويجلس. يفكر للحظة أن يتصل بالشرطة، لكن يعتبر من العبث أن يعجز عن الانتصار على خصمه وحده. فيعاود فتح الباب ليجر الكلب وليلقي به للخارج بكلتا يديه. دون فائدة، فبمجرد أن يلمسه يشعر بتقزز عميق. يتجول في الصالة بينما لا يكف الكلب عن النظر إليه بفضول، فيقرر أن يتركه في مكانه. في الصباح لابد سيتخلص منه بأي طريقة، إذ سيكون مستريحًا أكثر. ثم بهدوء يتجه للنملية، يسحب بيضتين، خبزًا، شوكولاتة، ويسحب قطعة لحم من الثلاجة، ويضرب المنضدة بقوة: مستحيل الأكل في وجود هذا الحيوان. وبقطعة اللحم في يده يظن أنه امتلك الحل. يضعها خارج الشقة، على بعد مترين، ويدعو الكلب للطعام. وبمجرد أن يخرج سيغلق الباب كسهم. لكن خصمه محتاط فلا يتجاوز إطار الباب. لا يهم، يمكنه أن يركله ويسحبه إلى هناك، لكن عند البدء في المحاولة، يبتعد الكلب فتصطدم قدم ليونثيو في الحائط. يصك الباب بضربة قوية وبوجه مكسو بالعنف ينقض عليه مرة واحدة. لكن رصانة ليونثيو تدفعه للتوقف ليفكر في الأمراض التي قد تنتقل إليه. فيما ينظر الكلب إليه بعناد، بقسوة، بتهكم. وليونثيو يدور في البيت بحثًا عن حل، وبعد أن يضرب الجدران يأخذ الأكلاسير ويخرج بعض الأوراق إذ عليه أن يعمل في مسألة لم تنته في المكتب، ويتجه للمنضدة ويركز في ورقه. وما أن يسجل بعض الأرقام ينحي القلم جانبًا ويقترب من الكلب ويشتمه، ملقيًا عليه ذنب عدم قدرته على إنهاء عمله. ودون أن يتوقف عن السب يتوجه للغرفة ويحضر بطانية، يقف على بعد ثلاث خطوات من الكلب ويمسك البطانية من طرفيها ويفتح ذراعيه، يقوم بحركات خفيفة ليأخذ وضع الاستعداد، يجأر، ثم يجأر أكثر ويلقي بنفسه بحركة جميلة ينتهي مآلها لسوء الحظ بضربة قوية في أرضية الشقة. ينهض وهو يعوي، يضغط على شفتيه اللتين تنزفان عدة قطرات دموية، يمرر لسانه بأسنانه ويختبر ملمسًا غريبًا، خشنًا. يركض للحمّام وأمام المرآة يختبر فمه من الداخل والخارج ويكتشف أن سنتيه العلويتين، البيضاوتين واللامعتين، الأكثر لفتًا واللتين لم تحتاجا أبدًا لطبيب أسنان، قد تهشمتا.

يشعر برغبة في البكاء غير أنه لا يبكي. وبصعوبة يخلع الكرافت، يتركها تسقط على الأرض، يفتح أزرار القميص ويتوجه للصالة مرتجفًا ويرتمي فوق كرسي. ربما يبقى هناك حتى الفجر، ينام بعمق، ولابد سيفعل ذلك دون تقطعات وسيحلم بحكايات جميلة، لكن ذلك سيكون خسارة المعركة، الاستسلام لعدو يحتقره. وبقفزة واحدة ينهض ويقف متصلبًا، راسخًا، بعينين لامعتين ووجه عدواني. يتخلى عن تقززه ويشمر قميصه، يقترب من الكلب بصلابة ويصرخ فيه سأنتصر عليك، يا بائس. في هذه اللحظة يشعر بالندم لأنه لم يشتر هذا المسدس الذي عرضه عليه ابن عمه. مع ذلك لا يبالي إذ سينتصر بكل الطرق. يهدد الكلب بقبضة يديه ويجاهد ليطمئن ذاته: هذا ضروري حتى يعثر على السلاح المناسب لتحقيق النصر. يفكر في سكين لكنه يعتبره غير فعال، فالكلب رشيق جدًا، تحقق من ذلك في هجوم المكنسة، لذلك يجب تجنب الهجوم المباشر. كان على وشك أن يفقد صبره مجددًا بعد ساعة لم يخطر فيها شيء على باله، حين واتته فكرة تجلت بحدة واضحة: استخدام سم الفئران. نهض ليبحث عنه بلهفة وعند العثور عليه يفحصه كأنه كنز، فيخرج ويحضر قطعة اللحم، ويعود بها إلى غرفته وهو يداريها حتى لا ينتبه لها الملعون، ويضعها في طبق ويعود بها إلى الصالة. لا يرى الكلب. يبحث عنه تحت الكراسي، حتى أنه يرفعها عدة مرات، لكنه غير موجود. تحت منضدة الطعام، مستحيلًا.

في الكومودينو، فارغًا. في الحمّام، خاليًا. في الغرفة، تحت السرير وتحت المكتب، هباءً. في المطبخ، ولا أثر له. يصل إلى هدفه، تفتيش النيش. لا يترك دون التمحيص والفحص أي ركن وهو يصرخ لا تهرب، لا تهرب. يشعر بخيبة الأمل في نفسه، والآن ينهنه، يلقي بنفسه مجددًا على الكرسي الكبير، ويضع وجهه بين يديه بشعور مخجل بالفشل، حين يرى أنه ترك الباب مفتوحًا. يوبخ نفسه، يوجه لها الإهانات مرة تلو الأخرى، ويأخذ قطعة اللحم مجددًا. وبقطعة اللحم في يده، يخرج للشارع بحثًا عن الكلب في كل الأماكن.   

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.