}

في ذكرى رحيله الأربعين: شارلي شابلن عبقري المتعة

أحمد عبد اللطيف 3 يناير 2018
تغطيات في ذكرى رحيله الأربعين: شارلي شابلن عبقري المتعة
شارلي شابلن

 

ثمة كتابات كثيرة متناثرة حول شارلي شابلن (16 إبريل 1889- 25 ديسمبر 1977) أعيدت للحياة من جديد في ذكرى رحيله الأربعين، آراء كُتّاب ونقاد وسينمائيين في تجربة الفنان العبقري ويعبّرون عن انطباعاتهم عنه، آراء جمعتها جريدة الإسبيكتادور الكولومبية على طريقة الاحتفاء به.

يرى الروائي الكوبي كابريرا إنفانتي أن شابلن "أكثر الفنانين ثقلاء الظل" حتى أنه لم يستطع حتى إكمال سيرته الذاتية. أما السارد الشهير خورخي لويس بورخس فيقول إنه "أحد آلهة الميثولوجيا بعصرنا" لكن كسينمائي يرى أنه "بلا قيمة". الإسباني فرناندو ترويبا لا يرى أنه كوميدي ولا يثير الضحك، أما لويس بونويل فلم يره أكثر من "مهرج لن أشاهده مرة أخرى". لكن الحقيقة أن شابلن كان ممثلًا وموسيقيًا ومنتجًا وسينمائيًا ومؤلفًا حقق شهرة عالمية بأفلام صامتة ويعتبر أحد أكبر المبدعين في تاريخ السينما.

 ولد شارلي في لندن، في عائلة يهودية لها علاقة بالتمثيل الموسيقي وبدأ التمثيل في السادسة في عروض موسيقية وبانتوميمية. عاش طفولة بائسة بين أب مات بسبب إدمانه الكحول وأم مريضة نفسيًا انتهى بها المطاف في مصحة نفسية. وبفضل أخيه سيدني، دخل شارلي في فرقة فريد كارنو التي كانت تحافظ على البانتوميمية الإنكليزية. وفي عام 1910 انتقل إلى الولايات المتحدة، حيث تطورت مسيرته كفنان. ولعل الفرنسي ماكس ليندر أحد آباء شابلن الذي منحه الكثير من موهبته، وتقديرًا لهذا العطاء كتب له شابلن على إحدى الصور: "إلى ماكس الفريد، الأستاذ، من تلميذك، شارلي شابلن". كان ليندر، الأقل شهرة، قد أبدع نمطًا عالميًا لـ داندي أنيق قادم من مسرح بوليفارد، في المقابل أبدع شابلن نمط الصعلوك بملابسه المهلهلة المنحدرة من الميوزيك هول بقاع المجتمع اللندني، بهيئة رجل قصير وشارب وبابيون وبنطلون قصير وواسع ومخطط، بالإضافة إلى عكاز من البامبو وجاكت ضيق وحذاء واسع وكبير ومقطوع وقبعة، وطريقة سير تشبه البطة، مع الشعور والتفكير كإنسان.

 كان تكنيك شارلي يقترب من الكمال، يتمثل ذلك في حفاظه على الإيقاع طوال الوقت والقدرة على إنتاج مادة ساخرة يشعر المشاهد في الحال بأنها تمسه وتعبر عنه، بالإضافة إلى أنه كان عملًا جديدًا، زاخرًا بكثير من التهكم والجاذبية في ذات الوقت، رغم أن سينما تلك الفترة كانت أكثر جدية.

أيديولوجية شابلن

 تعرض شابلن لكثير من المضايقات الأمنية في الولايات المتحدة، منها اتهامه بالشيوعية، وانتهت بطرده، حتى أنه صرّح: "لست شيوعيًا، لم أنضم في حياتي إلى أي حزب سياسي ولا منظمة. أنا ما يمكن أن تسموه تاجر السلام"، ثم أعلن "أنا أؤمن بالحرية، هذه سياستي، أنا من حزب الناس، وهذه طبيعتي. لا أؤمن بالتكنيك، ولا بحركة الكاميرا أمام أنف النجوم، أؤمن بالإشارة، وأصدق في الأسلوب. ليس لديّ أي مهمة: هدفي هو منح المتعة للناس"، وهو ما انتقده عليه بعض النقاد الذين رأوا غياب العنصر الجمالي والأخلاقي من فنه. لكن تصريحات شابلن كانت ضد الـ "استابليشمينت" وضد الصناعة الهوليوودية المشغولة دائمًا بالنجوم والأخلاق والعادات الحميدة بهدف الحفاظ على الضمائر الطيبة.

بالإضافة للتمثيل   

 ورغم شهرة شابلن الكبيرة في التمثيل، إلا أنه أخرج العديد من الأعمال، من بينها "امرأة من باريس" و"كونتيسة هونج كونج" حيث قام بدور صغير. كما صنع موسيقى أغلب أفلامه. في الإخراج، ابتدع أسلوبًا شخصيًا جدًا مستلهمًا من كاراكتر بهلوان السيرك منصهرًا مع أناقة أكروباتية وتعبيرية إيمائية وبلاغة في ملامح الوجه، بالإضافة لحركات إيقاعية مؤثرة وملفتة. وكان ابتداعه لشخصية الصعلوك شارلوت رمزًا عالميًا للفردية الصلبة والقوية في مواجهة المطاردات والنكبات، البشرية منها والقدرية. وهو الكاراكتر الذي منحه شهرة كفنان كوميدي وممثل دراماتيكي. واعتمد شابلن الموسيقى التصويرية التي لم تؤثر سلبًا على أدائه البانتوميمي، بل ربما تأسس جزء لا بأس به من إبداعه عليها.

تميز شابلن بانشغاله الدائم بالقضايا الاجتماعية لعصره. ولم يكتف بدور الصعلوك الذي انطلق منه كفنان، إنما راح ليصنع شخصيات أخرى مميزة كانت بالنسبة لمسيرته الفنية مرحلة انتقالية فارقة. يتجلى ذلك في فيلمه "الديكتاتور العظيم" الذي قام فيه بدور هتلر، واستخدم فيه كل الوسائل الصوتية المناسبة لفنه. في هذا العمل، كأعمال أخرى، جمع شابلن بين التهكم والميلودراما، في تركيبة تعبّر عن الحب للإنسانية وحب الحرية الفردية في نفس الوقت. وهو ما تعكسه كتابته في "سيرتي الذاتية" الصادر عام 64، و"حياتي في السينما" عام 75.

شابلن في مواجهة الجميع

ما أهمية ألا يستلطفه بورخس أو كابريرا إنفانتي أو ترويبا؟ فالعبقري نادرًا ما يكون لطيفًا مع الآخرين، إنه رجل منطوٍ، مكتئب، فردي، خارج عن الجماعة والقطيع. وشابلن، بالإضافة لذلك، كان مغرورًا، كان بارانويد، لكن، كما يقول المؤرخ الفني إلي فور: "إذا كان شابلن قد اختار الضحك، كما اختار شكسبير الرؤية الشعرية، فذلك لأن شابلن، مثل شكسبير أيضًا، كان يهرب من الواقع القاسي". وصفات شابلن لم تكن صفات الجماعة، بل الفرد المنفرد، المعارض للمجتمع، والفنان المهمش. والعبقري عادة ما يكون متطفلًا على المجتمع. وشابلن عثر في فنه على مكان له في العالم، ومن خلال هذا المكان شيد جسرًا للتواصل مع المجتمع. مرة أخرى يقول إلي فور: "ماذا يجب أن نقول حول طريقة مشيه بإيقاعه الموسيقي، وعن قفزاته الاحتفالية والبهلوانية، وعن حركاته البهلوانية الميكانيكية التي أطلقت ضحكة البشرية جميعها". 

شابلن شاعرا     

 لكن على عكس ما يقال، فـ شابلن شاعر قبل أن يكون مهرجًا. الشاعر يجعلنا نشعر ونفكر، لذلك فـ شابلن في رأي إلي فور "رؤيوي" بالمعنى الفلسفي، فنان يستخدم الجسد لخدمة الأفكار. إنه أحد منظري الفكاهة، وأحد القادرين على إبكاء المشاهد بوجه خشبي. بهذا التكنيك استطاع شابلن مجاورة الكوميديا مع الدراما، إحداهما لا وجود لها بدون الأخرى، كما يقول الإغريق. بهذه العناصر تمكن شابلن من تمثيل حالات نفسية متنوعة تعكس همًا اجتماعيًا وسياسيًا، رغم أنه من المشروع أن نفكر أن السياسة لا علاقة لها بالفكاهة.

هل كان شابلن المهرج المثقف؟

لا أحد مثل إلي فور، باستثناء باستر كيتون، اقترب بعمق من فن شابلن، لذلك يجب أن نضع آراءه في الاعتبار. قال فور: "أخاف أن تؤثر موجة المديح في إخراجه اللامع على شابلن ذاته. فأكبر كوارثه أنه صدق ما كتبه عنه النقاد. قالوا إنه عبقري، وأنا آخر واحد قد أنكر ذلك، لكن بداية من تلك اللحظة حاول شابلن المهرج الإلهي أن يتصرف ويفكر ويتكلم كمثقف". لكن ربما أدى ذلك إلى ميلاد عبقري آخر. قال لويس بونويل عام 29: "شارلوت لم يكن يضحك إلا المثقفين، لقد كان مملًا جدًا للأطفال. الفلاحون لم يفهمونه. لقد انتقلت عيناه من النظر للأطفال إلى الفنانين والمثقفين"، ويضيف: "لكن في الفترة التي كان فيها مهرجًا، نحتفظ له بأعمال عظيمة لن نشاهدها مرة أخرى". لكن بونويل أخطأ في تأويله وتسرعه، إذ بعد ذلك ظهرت الأعمال الأهم لشابلن: "أضواء المدينة" "الأزمنة الحديثة" و"الديكتاتور العظيم"، ثلاثة أفلام لا يمكن عدم مشاهدتها لشابلن.

 لقد تمتع شابلن بوعي مكّنه، في فترة قصيرة، من الانتقال من ممثل في شركة كيستون، حين وصل إلى أميركا عام 1913، إلى تأسيس عالمه الفني الخاص من الألف إلى الياء ليغدو مؤلفًا كاملًا لعمل، بمعنى أن يكون رائدًا في سينما المؤلف أو ما سُمي بعد ذلك "الجديدة" في فرنسا: أن يكتب ويخرج وينتج ويمثل العمل، وبالجودة التي يريدها من دون تدخل أحد، وحقق ذلك نجاحًا ملفتاً في سينما جديدة هي السينما التهكمية. هذه الحرية والاستقلال سمحت له بعمل فيلم "المهاجر"(1917) الذي انتقد فيه ما كانت في ذاك الوقت أرض الميعاد: الولايات المتحدة، المؤلم لأميركا أن تهكم شابلن جاء في لحظة كانت فيها ترسم صورة البطل الشاب والجذاب الذي يطمح لإنقاذ ما يسمى بالديمقراطية عبر تحويل الحرية إلى قانون.

 وما بين أسطورة الديمقراطية البورجوازية والواقع القامع، تحرك عمل شابلن كممثل/شخصية، وبالتهكم والسخرية والفكاهة تمكن من تدمير صورة المؤسسات الموقرة: الشرطة في فيلم "المغامر"، الموظف الحكومي في "المهاجر"، السلطة الدينية ونفاقها وتطهيريتها في "الحاج"، لكنه في الوقت نفسه فجّر عنف الحرب وانتقد برود البطولة في "أسلحة على الكتف".

سياسة شابلن    

كان شابلن بوضوح مؤلفًا سياسيًا بكل معاني الكلمة، مؤلف فقد براءته مبكرًا من قبل حتى الهجرة إلى أميركا. ورغم ما يقوله عنه نقاده، إلا أن شابلن قد تعب، ربما، من تحقيق كل ما أراده ومن أجل ذلك هاجر إلى سويسرا. وعقب وفاته، بدأ العديد من النقاد في تشييد أبراج من الحقد عليه عندما لم يكن شابلن يطمح إلا إلى إضحاك الناس. عندما أدرك أن الكاميرات تسلط على أنوف النجوم من قبل أن يستمتعوا بالحياة. وأن العنف أحد أكثر متع الكائن البشري، لذلك نميل إلى السادية أكثر من البهجة، إلى المازوخية أكثر من المتعة. إلى التراجيديا أكثر من الكوميديا.

رغم ذلك استطاعت فكاهة شابلن أن تداري مرارات طفولته وكانت عبقريته هي الوسيط بينه وبين جمهوره.  

________

 

(مادة معدّة من دراسة عن شابلن بجريدة الإسبيكتادور الكولومبية)

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.