}

البعد السردي في الشعر الشعبي التهامي

حميد عقبي 1 أبريل 2023
استعادات البعد السردي في الشعر الشعبي التهامي
رياضي من قبيلة الزرانيق يقفز على ثلاثة جمال (7/10/2009/Getty)
موقع إقليم تهامة باللون الأخضر على خريطة اليمن 


قد يكون الأدب الشعبي الأكثر صدقًا وبساطة وقوةَ عمق ومعان، فهو ليس نتاج صناعة، ولا تقليد. لا يعني هذا أنه مجرد تصوير وتوثيق لأحداث ووقائع حياتية يعيشها الشاعر، أو الحكواتي، ويقولبها بقالب أدبي. هو جهد إبداعي لمبدعه، وفيه حمولات ذاتية وفكرية وجمالية بديعية. فاللغة العامية كانت ولا تزال قريبة لشريحة كبيرة من المجتمعات.
سنحاول، هنا، تناول نماذج متفرقة ومتنوعة من الشعر الشعبي التهامي، لنتلمس بعض الأبعاد السردية وتأثيراتها الجمالية.
من أبرز سمات الشعر الشعبي قربه من الواقع المعاش، فالشاعر شخصية مبدعة، يتفاعل مع مجتمعه، ولا يعيش في برج عال. أغلب الشعراء الشعبيين لا يتقنون القراءة والكتابة، ولا يدونون شعرهم، ولا ينشرونه في شكل مطبوع. وإلى اليوم، لا نزال نتلقى الشعر الشعبي شفهيًا عن طريق حفاظه ومحبيه، أو نماذج تتناثر في بعض الدراسات النقدية. ولم أسمع بوجود ديوان ضم تجربة شاعر شعبي في تهامة، رغم وجود صحوة جيدة ومبادرات كثيرة ومتعددة لإحياء الموروث التهامي، وهي مبادرات تأتي في وقتها، لأننا نعيش موت كثير من رواة الشعر الشعبي، ممن اهتموا بجمع الموروث التهامي.
نعيد التذكير، هنا، ببعض الأسماء، مثل عبد الرحمن بعكر، وعبد الله خادم العمري، أحمد رسام، داود بازي، د. فهد الشعيبي، د. أحمد العزي، وعلون الجيلاني، خالد الأهدل، وغيرهم. وكذلك ظهور مجموعة من الشباب يوثقون وينشرون تسجيلات قديمة لشعراء قدامى، وينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي.


النموذج الأول:
دخلت بستان قصدي أشوف طيري
لقيت طيري يشرب من هوى غيري
فقلت يا طير ليه تشرب من هوى غيري
قـلي زمانك مضى، روح دوِّرْ على غيري.

هذا النموذج أصبح مشهورًا جدًا، ولا أعرف من قاله. كأنه صار حكاية قصيرة، أو لنقل أقصوصة بديعة وسهلة الحفظ، وهي متداولة كمثل شعبي يُستشهد به في حالة فقدان الحبيب. فالحبيبة والعشيقة يُشار إليها بصيغة مذكر، مثل طير، غزال، مزخم، جون، غصن، ظبي، قمر، خل، وغيرها من الألفاظ الذكورية الموجود في البيئة التهامية. وللتذكير، فجغرافية وبيئة تهامة شاسعة جدًا، من جبال ريمة في الشرق إلى سواحل البحر الأحمر غربًا، وهي أرض زراعية غنية بالثروات الحيوانية والسمكية، وذات مناخات متعددة، فالمناطق التي تحاذي البحر تتسم بالحرارة والرطوبة، والمناطق التي تحاذي الجبال تكون أكثر اعتدالًا، وجوّها أقل رطوبة. وفي تهامة الفل والياسمين، وعشرات النباتات العطرية، كما تُزرع فيها عشرات الأنواع من الحبوب والخضروات والفاكهة، وفيها أجود أنواع الحيوانات، ومناحل العسل. هذه البيئة المتنوعة جمعت بين سحر البحر وزرقته، وبين خضرة السهول والوديان وعطرها، حيث تضج الحياة وتتناثر المدن والقرى في كل مكان.
عودة إلى النموذج، يمكننا تلمس الحكاية وفهمها بسهولة، فالمفردات العامية واضحة، وأقرب للفصحى، وتحوي مشهدية درامية مكثفة جدًا، تحوي الشخوص، والمكان، والزمان والحوار، كذلك فكرة فلسفية، وشكلًا رغم الإيجاز والتكثيف، إلا أننا نستطيع تلمس البداية والوسط والنهاية، كما تحوي رموزًا ودلالات عميقة.
الشعر الشعبي يتميز بسرعة التأثیر والانتشار، ويتفرد بنوع من الذاتية الفنیة التي سرعان ما نتأثر بها وتدفعنا إلى البحث والسؤال لمعرفة تفاصيل أكثر عن المناسبة، فقد تكون الحكاية داخل القصيدة ومضات كضربات الرعد والبرق، وكثير من رواة الشعر الشعبي يروون قصصًا وحكايات مثيرة بعد رواية القصيدة.





كانت تهامة تزخر بعشرات المهرجانات الشعبية خلال مزارات الأولياء والصالحين، ونهاية المواسم الزراعية، حيث يمتزج الشعر والغناء والرقص والحكايات والمساجلات الشعرية. هذه المهرجانات تشبه المختبرات السردية والشعرية والنقدية. كما تزخر تهامة بعشرات الأسواق الشعبية، وتوجد فيها مقاه شعبية في كل سوق، والمقاهي ملتقى الشعراء والرواة ومحبي الشعر والسرد. وأغلب الشعراء المشاهير أولئك الذين كانوا يتجولون في هذه الأسواق والقرى. نضرب مثالًا الشاعر سي شعيب الأهدل من مدينة المراوعة. كان معالجًا نفسيًا وراقيًا يعالج أمراض المس والجنون، وهو صاحب مدرسة متفردة (أنظر مقالتنا: الشعر الشعبي التهامي اليمني... رومانسية ومشهدية وتدفقات جمالية ـ موقع صحيفة اليمني).

للشاعر الراحل عبد الله البردوني كتاب بعنوان "فنون الشعر الشعبي" 


وهنالك أكثر من فضاء متعدد للتلقي الشفهي. وعندما ظهرت مجلات أدبية لم تكن هنالك مجلة متخصصة في التراث الشعبي، وقليلة جدًا هي الدراسات التي نُشرت في فترة الستينيات من القرن الماضي. الشاعر الراحل د. عبد العزيز المقالح أنجز أطروحته للدكتوراة عن الشعر العامي في اليمن، وهنالك كتاب "فنون الشعر الشعبي" للشاعر الراحل عبدالله البردوني، وأيضًا الراحل د. محمد عبده غانم أنجز بحثه للدكتوراة بعنوان شعر الغناء الصنعاني.


النموذج الثاني
هذا النموذج أطول، وهو قصيدة من شعر الشاعر الشعبي التهامي الشهير أمحمد أحمد أمرامي الملقب أمرامي:

الناس سمورو وسالية
وخلي توافى ونشر
سنا مكة ووادي زلع
ورجع ليمن عطر
سنا أرض متخلفة
وبعدو بعيدو امسفر
سنا أرض متخلفة
ليلو وصبحو امطر
على اراضي امحبوش
قلسو توافى ونشر
ماذا العبار يمطره
على طاليا اميوم مر
وجوده يبان ظاهرو
وامليل رجع عطر
على أرض متخلفة
ماكد وصلها بشر
لو كان عينك ناظرة
سودا كجوح امسر
لو كان عينك ناظرة
والماء مخالط حجر
على ماي ربك ينزله
وغايثو بم امطر
والناس سمورو وسالية
وحدت كمبرق مر
على خبت متخلفو
يبرد وحينو يحر
على شعب ماحد يعلمه
ولا تعلمه ته البشر
على شعبين متقابلة
في امشعب امعلا نشر
على شعوب وودية
شعب الضيق شعب العكر
ووادي النار ما حد يعلمه
ولا توصلته البشر
وخلي نوى بالمسافرة
وكل ما دنى امليل هجر.

نجد حاليًا بعض التسجيلات الصوتية بصوت أمرامي مصحوبة بعزف القصبة، أي الناي التهامي، بعضها فيه تشويش، وبعض قصائده يلقيها شباب محبون للتراث، لكن الإلقاء سريع، أو فيه بعض الارتباكات. وقد تناوله الباحث الراحل عبدالله خادم العمري في كتابه "الشعر المغنى في تهامة"، وسرد تعريفًا عنه، وقدّم عرضًا لنماذج من شعره، وكثيرًا من الإيضاحات الشكلية والقواعدية، كما فعل مع بقية الألوان الشعرية التهامية. وأظن أن د. فهد الشعيبي تعرض لهذه الألوان من وجهة نظر موسيقية، خاصة في الإيقاعات، وكذلك فنية واجتماعية. وللأسف، الشعيبي نشر كتبه في اليمن، ولم تجد الانتشار، وبسبب عمله كملحق ثقافي في سفارة اليمن في أميركا، انشغل كثيرًا، ولم يهتم بنشر كتبه في السوق العربية، ولا توجد نسخ إلكترونية لمنجزه في عشرة كتب، كما أخبرني، وأرسل لي أغلفة بعضها، وطلب مني تولي مهمة طباعتها، لكنه انشغل أكثر وأكثر.
في نموذج أمرامي، نجد البداية بفعل، وليس بوصف، أو دعاء، أو صلاة على النبي، ثم تكون مجموعة من الأفعال تضج بالحركة والمتغيرات، وتُذكي العنصر الدرامي، والذات، أي أنا الشاعر، والحبيب أي نحن، مع شخوص وأماكن وحركة وحوار.
الشعر، كما في هذه القصيدة، یستمد كلماته ومفرداته وألفاظه وطریقة الوصف والحوار والمعاني والأسلوب من الحیاة الشعبیة من بيئته، ولا يستورد من خارجها. وقد نجد أحيانًا كلمة فصحى تكون أيضًا متداولة، فتهامة جزء من الجزيرة العربية، ومفتوحة أيضًا على عوالم أخرى متعددة، الشاعر لا ينتقي جزافًا، فهو يبدع المفردات العذبة المثيرة. ورغم تلقائية الشاعر، فهو يكتب اللحظة، أو أحاسيسه التي تتفجر من موقف حياتي خاص، أو حادثة يشاهدها، وهو لا يكتب مسودات ويراجعها وينقحها ليصنع نصه، بل يبدع بشكل عفوي، وكان هنالك رواة وحفاظ يحفظون أيضًا سريعًا.
في الشعر الشعبي التهامي، نكاد نكون مع نمط يزخر بأساليب قصصية سردية، لكنها تتميز بالتكثيف والحذف والإيجاز. الشعر أيضًا مرتبط بالمكان، وقد نجد أسماء قرى، أو مدن، أو وديان، أو أماكن مشهورة، وربما تكون أسطورية وخرافية، كما في قصيدة أمرامي:

وادي النار ما حد يعلمه
ولا توصلته البشر.

هنا وادي النار قد يكون مكانًا مشهورًا في حكاية خرافية، وما أكثرها في تهامة، خاصة حكايات الجن، وحكايات عن أكلة لحوم البشر، ونجد مفردات بيئية، كالطير. لنتابع هنا منطلق الحدث:

الناس سمورو وسالية
وخلي توافى ونشر
سنا مكة ووادي زلع
ورجع ليمن عطر
سنا ارض متخلفة
وبعدو بعيدو امسفر
سنا ارض متخلفة
ليلو وصبحو امطر
على اراضي امحبوش.

يقول: بينما الناس في سمرها وراحتها، فخِلِّي (أي الحبيبة) رحلت، إلى أين كان رحيلها؟ يعدد أمكنة كثيرة بعيدة، وقد لا يكون السفر هنا فيزيائيًا حقيقيًا جسديًا، كوننا مع مبالغة كبيرة جدًا، أي سفر الحبيبة لكل هذه الأماكن المتباعدة جدًا، وخاصة في ذلك الزمن، حين كان السفر صعبًا ومرهقًا، ويأخذ وقتًا كبيرًا. إن الواقعية لا يمكن أن نطبقها على النصوص العاطفية. كما أن الشاعر الشعبي لم يكن يلزم نفسه بواقعية مفرطة، ولم يمنع نفسه من التخييل، وهذا لا يناقض ما سبق قوله.
ويذهب أبعد من ذلك في قوله:

على ارض متخلفة
ماكد وصلها بشر.

أي على أرض لم يصلها بشر قط. وقد أكد هذه النقطة مرارًا، ليصور لنا أحداثًا عدة من البيئة، سقوط المطر على "الخبوت" (الأرض الجافة)، وعلى الحجر والشعاب، كأنه أيضًا يصف أن الحبيبة، بوصولها أو مرورها في أماكن قاحلة ومهجورة، بعثت الحياة فيها، وكأنه أيضًا يريدها أن تعيد إحياءه، لتعيد له فرحه وسعادته. ونشعر من خلال السياقات الصورية السريعة كأنه عرضة لكابوس مرعب، لأنه لم يجد الحبيبة، فيطلق لنفسه العنان لينقلنا إلى عوالم متضاربة، وأزمنة مختلفة.




قد يعرض الشاعر الشعبي التهامي أزمنة متضاربة ومتفرقة، ففي لحظة الهذيان، وفي وقت مناداة الحبيبة قد لا يلتزم بمسار زمني متسلسل ومنطقي، وعلينا أن نعيد فهم المغزى، وكأنه أسلوب مونتاجي يتعامل بحرفية إبداعية مع الزمن، ويمكن أن يجعله يتوقف للحظات، أو مدة، أو يذهب إلى الماضي البعيد، وقد ينطلق بقوة نحو المستقبل. هو يترك لنا فرصة استشعار الزمن، وخاصة أن نموذج أمرامي استخدم فعل السفر والتنقل إلى مدن (سنا مكة، ووادي زلع). ولا أدري إن كان يقصد بزلع ذلك الوادي الصومالي.
بعض النماذج من الشعر الشعبي العربي، مثل المصري، أو التونسي، أو العراقي، تثير دهشة مشهدية كما يحدث في السينما والمسرح، لكننا هنا في إقليم يمني نتحدث فيه عن شعراء لم يروا الكهرباء، حين كان اليمن الشمالي يغرق في ظلمة وتخلف وحكم إمامي مستبد يستمد قوته من الجهل والتخلف ونشر الخرافات. مع ذلك، نجد نماذج من عناصر الحركة والعرض عفوية وفطرية.


نقطة مهمة

الشاعر الراحل د. عبد العزيز المقالح أنجز أطروحته للدكتوراة عن الشعر العامي في اليمن


قبل أن ننتقل إلى النموذج الثالث والأخير، أود أن أستدرك نقطة مهمة للحديث عن الثقافة في إقليم تهامة، فتهامة تزخر بعشرات المدن التي كانت تتمتع بمظاهر مدنية وعلمية، من أهمها: زبيد، حيس، بيت الفقية، المراوعة، اللحية، والحديدة، وغيرها من مدن الشمال الذي يسمى الشامي، والمخلاف السليماني، ومدن تمثل حاليًا الجنوب السعودي، وكانت ذات أصول يمنية، وجزءًا من إقليم تهامة قديمًا، قبل إبرام معاهدة الطائف بين المملكة المتوكلية، والمملكة السعودية في عام 1934، حين سلمت السعودية إلى اليمن بعض الأراضي، وسيطرت على جزء كبير مقابل تفاهمات، وبضغوط بريطانية.
تهامة لم تكن خارج التنوير، وأغلب وأشهر الشعراء الشعبيين في تهامة من أصول ريفية من قرى قريبة من المدن، وهذا لم يمنع في طبيعة الحال زياراتهم للمدن. ويوجد في المدن رواة أيضًا للشعر الشعبي، وكثير من علماء تهامة تركوا آلاف المخطوطات العلمية الدينية وعلوم اللغة والشعر والتاريخ، ولم يهتموا كثيرًا بالشعر الشعبي إلا في استشهادات قليلة في كتب اللطائف والحكايات، وربما التاريخ.
فهل كان الشعر الفصيح هو شعر العلوم الدينية واللغة العربية والتاريخ، وهو خاص ببيوت العلم المعروفة في تهامة، بينما الشعر العامي مشاع شعبيًا للعوام؟! مع ذلك، نجد شعراء من بيوت علم وأصل ونسب، مثل سي شعيب الأهدل! وهذه نقطة تحتاج إلى دراسة وبحث.


نموذج من الشعر التهامي للشاعر عياش سالم جعل:

أمشي وأدور وأسالْ
بعد أمطير ايلو
مدريتشي على أمخللْ
دمع أمعين سايلو

سألت... قالوا لي زلْ
نفر من ايدي فْسلو

قالوا أميوم ذا انتشلْ
وأهله أمس حملو

تعبو جر بي وحصلْ
وشاهدت قُرب الأجلو

وبعد ما لقيت لا حلْ
بديت أمشي مسهلو

الناس تمشي لأولْ
وأنا أمشي مكربلو

ولا مش صابنا مخجلْ
يمين لا هب عملو

لكن ربك سَهلْ
سبحانه مسهلو


من بعدما مكحل زلْ
طعنونا... بنصلو

تبت في طيرو كحلْ
مثله... عيونه كحلو

يسمُج وينفُر لَوَّلْ
وأنا أجري محلحلو

أجري... أشى أمطير يخذلْ
يكون لزّمة سهلو

محادنا أمريش أسبل
شِينفُر جناحه بطَلو

وداخ وجِيده أسلْ
وتب شيمْوت فسلو

أمري إلى الله ما أفعلْ
قامة رقيقة وحلو

إذا هبيناه أمخيلْ
ييتي دونه أخيلو

بعدتْ عنه شكلْ
ورد بينه عقلوْ

قربت حاكيه وأسالْ
كذا كلامو سهلو

وقلت يا طير يا أكحلْ
مني الخير حاصلو

أنته ميان يا محلْ؟
ويان بلاد الأهلوْ؟

قال لي: أنا من بشكلْ
من الهند المأصلو

من أرض كستان مدخلْ
أرضو عليها الأملو

ما يصلهاش لا جَمَلْ
زوعو أمبوخر يصلُو

أرضو بها آدم حلْ
بو الآخر ولوًّلو

صفي مولانا جلْ
قبره على رأس جبلو

أرضو حازة وجبلْ
ممزوجة بساحلو

فوقه يومية أمخمَلْ
ريمة جود وأبلو

لا ممتمطرشي وشَّلْ
ودايم ربيده وحقلو

شِيو يقرب أمأجلْ
هل في كزية فضلو؟

فقلت بدي تسائلْ
وعاد بأقي مسائلو

قال لي: وخالق الأملْ
في سهلها والجبالو

إنه بلادي بشكلْ
فما لها لا مِثلو

أمورد كثرة وأنبلْ
فيه أمجنايا زلو
وأمعجوى بلا سللْ

معاردة... زنابلو

نخلو غير ذا النخَلْ
فوق الأرض موثلو

يحمل على غير معول
قُتبيين تبركْ جملو

لا هل أبو زيبة حملْ
بات أمقلب ذابلو

وأمعمبروت مكبلْ
وأمعمبا أشاكلو

وما طلبته يسهل
جنة رفيعة وفضلو

وأمسنكر بلا عدلْ
زرعه وقرَطه نبلو

وأمزهب وشَبْ وأثقلْ
قِرفه وزِرو وهيلو

حوايجو أمقع ترحلْ
ومخلوطه بفلفلو

أنا صدقت في الأمل
عيونه كبارو وكُحلو

ذأنا مريض مخلخلْ
وذأنا مجسم ناحلو

بعد عني كذاك وزلْ
وصارن دموعه حقلو

فقلت بالله تفضلْ
لي عندك مسائلو
أنته تشتر أمعسلْ؟
وإلا كُلك عسلو؟

حكيت شرغنا أمحل
وهو أمجفن مسبلو

بس... أنته ميا محلْ؟
ويان بلاد الأهلو؟

قال: قلت لك من بشكلْ
أنته شيبه مذَحلو

أنته بدءة أكحل
عاد في كمثلك كُحلو

جوبْ وقال بأقي أهولْ
وقامة رفيعة ونِبلو

وخصرو ونورو يشملْ
وخلقة رشيقة وشُغلو

وحِلة غير ته الحللْ
وأمخطرات تؤسمْلو

أنا آلا آخِر منفلْ
بِديت شناءه وإلوْ

الله لا واحد أللْ
حُسنه يزيغ عقلو

حسنه رمانا وندلْ
وذأنا معي نواتلو

أبو خير به يتمثلْ
وذهبه لصدره قفلو

وأمبطن في جوفه شلْ
وخُصره كطية سجلو
ورأسه كرأية الدولْ
من أجله تقاتلو

في صدره ثمان دُللْ
تحيي الذي مألولو

وتحيي الذي يابي أماكلْ
واللي كده مهصملو

وتحيي الذي معه أمسلْ
واللي أمعقل ذاهلو

وتحيي الذي أعرج وأقزلْ
واللي كده مهطولو.


مصدر القصيدة هو عبد الله الأهدل عن قناة يوتيوب تسمى "قناة شباب وقبائل الزرانيق"، وسبق أن ذكرت أن قنوات كثيرة تظهر ثم تختفي وتظهر غيرها، وبعض القنوات تنشط ثم تتجمد، بعضها يدار من اليمن، وبعضها من شباب تهامي في المهجر، وهذه ظاهرة جيدة لترويج الموروث التهامي، بجهد ذاتي.


تمظهرات السرد في هذه القصيدة


في نموذج الشاعر عياش سالم جعل، وهو شاعر مشهور له قصائد سياسية من ضمنها قصيدة يرثي فيها الشيخ أمحمد حسن الفاشق، الذي التقى الزعيم جمال عبد الناصر، وله قصائد كثيرة سمعت منها قصيدة بعنوان "خبشو"، يصف فيها جملًا من سلالة أصيلة، أي أننا مع شاعر معروف ومتنوع، ويعد من الشعراء الوطنيين في تهامة.
في النموذج الذي أوردته، وأتمنى ألا يكون هنالك خطأ خلال النقل، إذ بذلت جهدًا لنقل القصيدة التي كانت بصوت عبد الله الأهدل، موضوع القصيدة عاطفي رومانسي، فالشاعر يبحث ويسأل عن حال الطير، أي حبيبته، ولا يعرف سببًا لدموعه التي تسيل بغزارة. وعندما سأل عن "حبيبه" أخبروه أنه زلْ (ذهب وهاجر ونفر)... قالوا له: مع بداية اليوم، حمل أهله متاعهم وهاجروا. تعب وشعر بدنو أجله، وعندما لم يجد حلًا ذهب وغادر المكان. الناس تمشي بسرعة وخفة وهو كأنه مكربل، أي يمشي بصعوبة. ولولا الخجل لفعل حتى الأفعال المشينة، لكن الله سهل سبحانه المسهل.
ومن بعد زوال الأكحل، كأنهم طعنوه بنصل خنجر حاد، يصادف طيرًا أكحل، أي فتاة جميلة، والعيون كحل، تسمج بعينيها وتطير، ربما تمشي بسرعة وخفة وهو يظل محلحل، أي لا يزال في حالة الصدمة السابقة، ها هو يركض ويطارد الطير عساه يخذل ويتعب ويكون إمساكه سهلًا.




يسأل ماذا أفعل بقامة رقيقة وكلها حلاوة، إذا قلنا أمخيل، أي خيل أصيلة، فلا يمكن مقارنتها بأي خيل، كأنه ابتعد عنها قليلًا، فعاد لها عقلها. قال لها أيها الطير الأكحل سيحصل مني كل خير، ولست شريرًا، أنتِ من أي محل/ أي من أي مكان، وفين يسكن أهلك، قالت له إنها من "بشكل" من الهند الأصلية، أي من أرض باكستان، وهي أرض طيبة فيها الأمل، لا تصلها الجمال، وتصلها البواخر بصعوبة، أرضٌ كان آدم أبونا أول من وصل إليها، صفي ومبارك حل في الأرض، وقبره في أعلى أحد الجبال ـ تقصد أبونا آدم ـ على ما يبدو، أرض حارة، وجبال وسهول، كأنها أرض العجائب، المطر والطقس المخملي والوابل اللطيف من كل أنواع المطر، وإذا لم تمطر يومًا يكون الهتيل والرذاذ المنعش.
شيء غريب يجعل الشاعر يشعر كأنه يقترب من أجله، فقال له أريد أن أسأل، وبقيت لدي أمور تحتاج إلى فهم، فردت إنها بلاد الأمل والسهول والجبال، إنها بلاد ليس لها مثيل، خير وفير جعل الحصادين يتعبون من كثرة ثمارها، العجوة بلا سلل، ولا أكياس، وكميات ضخمة منه، نخل غير هذا النخل هنا، يُزرع بسهولة.
هنا يشعر الشاعر ويصدق هذا الأمل من ذات الكحل، ذأنا، أي هأنا، مريض مخلخل وجسم نحيل، لكن الطائر ابتعد، وصارت عيونه حقولًا من الدموع. قال لي تفضل بقت لي عندك مسائل ومطالب، هل أنت تشتري العسل، أم كلك على بعضك عسل، عندما حاول الشاعر يحكي أصيب بشرقة في الحلق بسبب الحلاوة الزائدة، ثم يعيد السؤال: من أين أنت؟
يرد الطائر، أي الفتاة: يوجد جمال ماهول بالخصر النحيف والطبع النبيل، خصور ونور ومخلوقات رشيقة فيها شغل، كأنها تريد القول إن الله أبدع في خلقها، وحلل وثياب. هنا، يدرك الشاعر أنه هو الآخر لا يملك حبيبة جميلة. الله على هذا الحسن والجمال الذي يزغلل العقل، لقد رماني بحسنه ويشعر الشاعر كأن سهامًا تنهش جسده.
كأنه الخير، ويحمل كثيرًا من الذهب والقلائد، في صدره ثمان دلل، ربما يقصد قلائد، أو جمال الصدر الذي يشفي المعتل، وتحيي الذي يرفض الأكل والمرهق، تحيي من عنده السل، وحتى المجنون، وتحيي الأعرج والأقزل، الذي أصبح ضعيفًا جدًا.
حاولت بشكل مختصر توضيح ماذا حدث، وشرح مفردات اللهجة، واكتفيت بعبارة قصيرة لكل بيت.


السمات العجائبية
من القراءة الأولى والسماع الأول، نشعر بسمات عجائبية كأننا في عالم "ألف وليلة وليلة". هذا الشاعر المنكسر، العاشق الحزين لرحيل حبيبته ومفارقتها بسبب رحيل أهلها، يتسمر في مكانه لا يدري ماذا يفعل؟ فيسأل المارة الذين يخبرونه برحيلها، يسير بخطوات ثقيلة ومتعبة ليقع بصره على فتاة غاية في الجمال والعذوبة. لا ندري قصة القصيدة، أقصد المناسبة التي جعلت الشاعر يفجر فيها إبداعه، ولا المكان. هذا المكان كان أخضر وفير العشب، حيث توجد فئة من الرعاة الرحل يبحثون عن الماء والكلأ، إذ توجد قصص كثيرة لشعراء أعجبوا وعشقوا، ويأتي يوم لا يجد العاشق عشيقته، لأنها ترحل مع أهلها، أو أننا مع حلم فانتازي رومانسي، وقد يحتمل النص تفسيرات متعددة، حتى التفسيرات السياسية ممكنة، لأننا مع شاعر سياسي اجتماعي ورومانسي.
نجد، هنا، كثيرًا من المفردات تصف الذات، ووصف الحالة النفسية، أولًا الشوق والحنين للقاء المحبوبة، تأتي الصدمة القوية في بداية القصيدة، ويأتي في ظننا أن القصيدة ستنتهي بردة الفعل، والبحث عن مخرج، لتنتهي بالعتاب والمناجاة، أو البكاء. يحدث الانقلاب الأكبر مخالفًا توقعنا بلقاء عجائبي يثير الشاعر ويعيد توازنه مع هذا الطير الجميل، أي الفتاة. فهل هي جنية، حيث يزخر الشعر الشعبي التهامي بحكايات لشعراء مع جنيات جميلات. وهنا نجد ملامح وعناصر سردية واضحة، وفيها مراوغات وتشويق مدهش، الفتاة هي من تثور عندها الرغبة، وعادة نجد أن الشاعر يبذل جهدًا كبيرًا ليحوز على نظرة، أو حتى لحظة حديث مع فتاة جميلة، ثم نجده ينجذب إليها ولا يكف عن طرح الأسئلة، وهي ترد بوصف بديع لأرضها وخيرات أرضها الوفيرة، وحتى جمال الفتيات هناك.


براعة رسم الشخصية
يلبس الشاعر شخصيته كل أثواب الجمال والرقة والحلاوة، وحتى البلاغة، وتذبذب المشاعر، تتقدم الرغبة خطوات، ثم تتراجع، لتقول له لقد أصبحت عجوزًا وشيبه منتهي الصلاحية مدحلو (دحل ويدحل الحديد عندما يصاب بالصدأ)، وهي شابة عنيفة الجمال مثقلة بقلائد الذهب، والصدر المغري، ووصفه ثمان قلل، أي قلائد، ولو كان قال أربع لتذكرنا أجمل النساء في المخيلة العربية (تقبل بأربع وتدبر بثمان).


سمات الشعر تتشابك مع عناصر السرد
نلاحظ أننا مع تدفقات شعرية توفرت فيها الشعرية الخلاقة، وكل مميزات الكثافة والإيحاء والإيجاز والتوتر والمجاز؛ والدلالات والرموز، وغيرها، كما أننا نتلمس ونشعر بتمظهرات سردية عديدة، كالسهولة والتتابع والصراع، وكافة العناصر التشويقية السردية الفعالة والمثيرة. ففي هذه النماذج الثلاثة المختارة نجد البوح الداخلي، كما نتلمس السردية، أو بعض عناصرها، فالشاعر يتحدث عن حالته، حيت تشترك النماذج الثلاثة في حالة ضياع الحبيبة، وتصوير لحظة الصدمة القاسية، ثم المكان، ثم تتوالى الأزمنة، ولكل شاعر أسلوبه في التعامل وهندسة الزمن، لتتفجر الحوارات من بعد. فلكل شاعر كيمائيته الخاصة في صهر وخلق الحوارات. كما نلاحظ أن طول البيت قصير ومحكوم بقافية ووزن، وبكلمات قليلة، فلا وقت للثرثرة. هنالك شخصيات متعددة وأماكن متعددة، وكل هذا يحدث من دون الانفصال الكامل عن الواقع، حتى أن القصيدة العاطفية الرومانسية يمكن أن يكون لها أكثر من قراءة، وتحتمل القراءة السياسية والاجتماعية، وكل شاعر امتلك سياق آلية السرد التصويري لما يراه، أو ما يحدث في الخارج من دون أن يهمل الداخل، وما يعصف به من حزن، أو غضب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.