}

ديونيسوس

حميد عقبي 28 فبراير 2024
قص ديونيسوس
"إله الخمر عند الإغريق" (Getty)

 

فعلها ديونيسوس، إله الخمر، بعد سبات عميق، ها هو ينهض، يجد نفسه عاريًا تمامًا في كهف مظلم والتراب على وجهه وجسده، ينفض كل هذه الأتربة والأوساخ، يخرج من كهفه بجيل شاهق لا حياة فيه، يرتعش جسده من هذه البرودة وغياب الشمس، يحرك يديه ثم يرى صقرًا جبليًا يميل لونه إلى الرمادي وتبدو أرجله صفراء، يتأمل ديونيسوس هذا الصقر الذي يمد جناحيه وكأنه ينتظر عشيقته، يفهم أنه في نهاية شهر فبراير وبداية موسم الحب والتزاوج للصقور وهذا الصقر ربما يتمرن لينشط قواه الجنسية أو يتدرب على أغنية غرامية ليغري عشيقته. 

يتحسس ديونيسوس جسده ويدرك من يكون وأنه إله الخمر والنشوة، يحرك ذراعيه ليطير ويعود إلى ملكوته ويستعيد قداسته، لكنه يفشل حتى في القفز لمتر واحد ويشعر بجوع غريب، ينظر إلى الصقر الشاب والقوي وهنا تأتيه فكرة أن يستعير جناح هذا الطائر ويتغدى بلحمه، ولكنه يشعر بالضعف ليصطاد هذا الكائن الشرس، يتأمل السماء وكأنه ينادي الآلهة الصديقة والشريكة، لكن السماء داكنة وكأنها فارغة.

يجلس ليفكر ويتذكر الزمن الماضي وتهطل في رأسه صور ومشاهد من الاحتفالات الريفية التي كانت تقدسه وتذبح له القرابين وترقص له أجمل الفتيات البكر وما كان يمنحه للكون من نشوة ولذة وأشعار، ويسأل:

ـ كيف يمكن أن أستعيد مجدي وقداستي وكيف حال الشعر والفن بدون خمر ونشوة؟

يهمس بصوت خافت:

ـ كل روائع الحضارات وفنونها أنتجها الخيال، وكنتُ أنا ديونيسوس من يمد الإبداع الإنساني بالنشوة والحلم.

لم يكن يتصوّر نفسه أن يكون صيادًا أو وحشًا، لكنه يحاول أن يقنع نفسه بأن الضرورة تبيح المحظورات.

مئات الأفكار تتصارع في رأسه المتعب، فهو يريد أن ينقذ الكون من التفاهة وجمود الخيال. ولكي يحدث ذلك، عليه أن يعود الإله القوي وليس الكائن الضعيف الجائع.

يهمس لنفسه:

ـ قتل وأكل هذا الصقر لهدف نبيل.

 يحاول أن يقنع نفسه وأن يفعلها.

يظل يفكر ويهتدي لفكرة لطيفة حيث يقترب من الصقر ويسأله:

ـ يمكنني أن أساعدك فأنا ديونيسوس، إله الخمر والنشوة والخيال.

يتراجع الصقر خطوات حذرة إلى الوراء ويرد:

ـ ديونيسوس، إله الخمر والنشوة والخيال، سمعت بأساطير وحكايات عنك من آبائي وأجدادي ولكن غيابك لسنوات طويلة أحدث بالكون كوارث كثيرة فلم تعد للنشوة مذاقها وللخيال سحره وأغلب ما يقال ويُكتب ويتم إنتاجه يخلو من روح الإبداع وهأنا منذ أيام هنا وأجدني عاجزًا عن أن أبدع أغنية أغري بها عشيقتي وأخاف أن يفوتني موسم التزاوج.

يبتسم ديونيسوس ويبدأ يخطو خطوات هادئة نحو الطائر العاشق:

ـ حسنًا، أشعر بجمال روحك وسوف أباركك لتكون أعظم شاعر ومبدع لتكسب مئة عشيقة إن أحببت... هذا يوم حظك الأنيق.

يتجمد الصقر في مكانه ثم يصدق ما يسمعه، كأنه الآن يشاهد الحسنوات من الإناث يستعرضن جمالهن ليختار ما يشاء منهن ويتلذذ، وهنا يُسرع للتقرب من ديونيسوس، كانت أقل من لحظة خاطفة فإذا برقبة الصقر بين فكي هذا الإله.

فعلها ديونيسوس، وها هو يتلذذ بمص دم العاشق، هذا الدم الساخن والساحر، سرعان ما أحدث تأثيرات غير متوقعة، لم يكترث ديونيسوس بقداسته وصفاته الألوهية وتعامل مع جسد الصقر العاشق كوحش.

أكل اللحم وشرب الدم ولبس الريش والأجنحة، الآن يشعر بقوته وعظمته ويضرب على صدره ثم يطير إلى السماء الأولى، يجدها فارغة فلا حرس ولا ملائكة ولا مخلوقات سماوية، هنا يحرك يديه وينفث بفمه فتعود الروح إلى الريح والتي تسارع لتسجد له وتذعن بالطاعة والخضوع، يلطم خدها بقسوة ويصرخ فيها:

ـ أريد أن يحل بالكون ريح عاصفة وأريد عواصف مخيفة تبشر بانقلاب كوني وعودتي أنا ديونيسوس، إله النشوة والخمر والإبداع، أيتها الريح أهدمي كل الأبراج الأسمنتية الفاخرة والخالية من الخيال وأطمسي كل المدن التي لا تقدس الفن والشعر والإبداع، يجب أن نعيد هيكلة هذا الكون وننقيه من التفاهة والغباء.

يتأمل ديونيسوس ما حوله فلا يجد إلا الفراغ والضياع، هنا يصرخ ليستدعي السحب، جاءت فارغة البطن وسرعان ما نفخ في بطونها بالنبيذ والخمر المعتق وأمرها أن تبلل الكون وتسقي الأرض بما تحمله.

كنت الكائن الضائع الباحث عن العشيقة التي لم تعد تأتي كعادتها بالسابعة مساء، كانت تدخل متعرفة وتشتاق إلى قبلاتي، ترتمي في حضني وتشم رائحة خمري ونبيذي ورائحة التبغ، كنت أحاول أن أخدع عشيقتي برائحة البخور اليماني والشموع المعطرة، وهذياناتي، تلك القصائد التي تجعل العشيقة كالماء وأنا التراب فنمتزج لنكون طينًا. 

كنت أكثر الكائنات فرحًا بعودة ألوهية ديونيسوس، ها هي تمطر نبيذًا وخمرًا، أنا الكائن الذي يحلم أن يكون شاعرًا، هنا بهذه المدينة النورماندية قرب المحيط والبحر والتي لا تبعد كثيرًا عن الجبل، كنت أبحث عن مهيج لأحلامي التي أصابها البرد، قرأت عن الآلهة القوية التي تقوي الخيال وتخلق لأحلامنا أجنحة وسمعت بمحبس ديونيسوس وفقدانه القوة والقداسة.

تُمطرُ الآن بمدينتي، تُمطرُ خمرًا ونبيذًا معتقًا، تفوح رائحة الورود الزرقاء وأسمع الآن صيحات النوارس، ها هي الشمس تسير ثملة وتكشف عن صدرها وترفع فستانها الخفيف إلى نصف فخذيها.

أهز رأسي وأهرع للكتابة وأشرب، أشرب من هذا المطر النبيذي الخمري، أترنح وأهذي، الآن يمكنني أن أكتب قصيدة غزلية وأستعيد عشيقتي، أستعيد كل شيء، أستعيد ذاتي كشاعر وأرتمي في بركة الخيال.

يقهقه ديونيسوس وهو يستعيد كل قوته، ها هي تمطر نبيذًا وخمرًا، تعود للطبيعة حياتها وألوانها وتعود خيالاتي لتنهض من جديد، أبحث عن العشيقة والكلمات، أخلق قصيدتي الأولى بعد سنوات من الجفاف والجمود، يتحرك قلبي لتنبت فيه الزهور، أشم روائح التين والزيتون والبخور، أخرج إلى الشارع المبتل وأتامل ضرع السماء المتدفق بالمطر. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.