}

بالحب وحده

بلال خبيز 18 أبريل 2024
آراء بالحب وحده
محبوب أم كلثوم ليس محبوبنا الذي نراه اليوم (Getty)

"بالحب وحدو إنتا غالي عليا، بالحب وحدو إنتا ضي عنيا"- قد تكون هذه الجملة بين جمل أخرى غنتها أم كلثوم أصدق تعبير عن الحب. لن يكون المحبوب غاليًا إلا إذا كان محبوبًا. ولن تكون العين ضرورية إلا حين ترنو إلى المحبوب.

قد يرى كثيرون أن هذه الجملة لا تختلف في فحواها عن الكثير مما كتب شعرًا في الحب والهيام. وقد نجد الكثير من الجمل التي تؤدي معنى مشابهًا للمعنى الذي ذهبت إليه أغنية أم كلثوم. إنما مع ذلك، يسعنا أن نستقرئ هذه العبارة بوصفها مثلًا عن كل العبارات التي كتبت وغنيت وأنشدت.

ما تقوله العبارة حاسم في واقع أننا حين نحب، إنما نكون في حاجة للحب. الحب ينبع من وحدتنا، ومن ضجرنا وطول أيامنا التي نقضيها وحيدين. الحب هو منتج من منتجات أوقات الفراغ. وحين تثقل علينا الوحدة ويأكل ساعاتنا الضجر، نحسب أن آخرًا ما في مكان ما في الجوار، قادر، بحضوره، على أن يمنع عنا الضجر وأن يحقق لنا قدرًا من البهجة. ليست كل حكايات الغرام على هذا القدر من التبسيط. لكن ذلك لا يمنع أن يكون الحب بسيطًا في غالب الأوقات. لن نشعر بالحب حين نكون ملاحقين من عصابة، أو حين تطاردنا الطائرات الحربية. في هذه اللحظة لا نفعل شيئًا أكثر من محاولة النجاة. نشعر بالحب يفيض من قلوبنا حين نكون في لحظة الراحة، لحظة التذكر أو لحظة الاستسلام. والحق إننا نحب كل من يسمح لنا بأن نقلع عن الاهتمام بشؤون الدنيا الضرورية، ونحب كل من يسمح لنا أن نستعيد ذكريات متألقة، ونحب كل من يشعرنا أن الوحدة، التي لا تتحقق إلا في أوقات الفراغ، يمكن ملؤها بالرفقة المناسبة.

نرى المحبوب لأن العين في أوقات الوحدة تصبح عينًا رائية. قبل ذلك وبعده تكون العين حاسة تعيننا على تجنب المخاطر ومعاقرة النشاطات التي يتوجب علينا القيام بها. العين تصبح رائية، لأن وحدتنا تدفعنا لتحويل المحبوب من شخص عابر إلى شخص مقيم، ولأن المقيم طافح بالتفاصيل، وطافح بالمعاني، وعلينا أن نكتشف كل تفاصيله ونستقرئ كل معانيه. لكنه حين يكون عابرًا لا يمكنه أن يتجاوز حدّ إعجابنا بشكله أو جسمه الذي يحيل إلى أشكال وأجسام نعرفها وسبق لنا أن اختبرناها.

واقع الأمر نحن نستحسن كل ما هو جديد وغير مستعمل، أو الأصلح كل ما يبدو جديدًا وغير مستعمل. نستحسن النظر إلى الأجسام التي لم تستعمل بعد. الأجسام التي ليست ممتلئة ولا فاغرة. الأجسام التي قد تغير في تفاصيلها الحياة ومعاقرتها. لأن الجسم غير المستعمل هو جسم محايد ويمكنه أن يصبح في المستقبل شبيهًا بجسم المحبوب. الرشاقة بالنسبة لعين الباحث عن الحب والذكرى هي احتمال. جسم في وضع الاستعداد لأن يصبح حيًا. جسم ينتظر صاحبه رفقة ليتشكل على النحو الذي يشكله الحب. وهو بهذا المعنى محايد وغير شخصي. مع ذلك تريدنا المجتمعات المعاصرة أن نتخلى جميعًا عن ملكية أجسامنا ونسلمها للناظر العابر كي يتذكر ويحن ويشتاق.

بالعودة إلى جملة أم كلثوم، يبدو الجسم الذي يحوله الحب إلى ضوء العين، جسم مختار. بين كل الأجسام العابرة والمحايدة وغير المستعملة، ثمة جسم واحد يناسب نظرتنا إليه. جسم قد تكون هيأته مشكلة من ذاكراتنا وخبراتنا وأوقات أنسنا. لهذا تبدو أم كلثوم وهي تغني هذه الجملة باحثة عمن يعوض ما خسرته في حيوات وقصص غرام سابقة. جسم المحبوب في هذه الجملة هو جسم مكون من تفاصيل سبق لها أن ساهمت في تكوين نظرنا ورؤيتنا. وهو بهذا المعنى استعادة لقصص حب سابقة، وأجسام عبرت في حياتنا، وما زلنا نحن إلى زمنها، ونأمل أن ينجح جسم المحبوب الراهن بإبقاء ذكرياتنا حية ومعاشة على نحو من الأنحاء.

لكن هذا كله يقع في النظري والتأملي. إذ ما الذي يمكن أن نحسبه تذكرا شخصيًا في عالم اليوم؟ عالم طافح بالصور، إلى حد أننا نقيس الناس، كل الناس، بمقياس هذه الصور. صور ممثلين وممثلات تعودنا على حضورها وباتت جميلة بحكم هذا التعود، وصور أوضاع أجسام تعودنا على حضورها في يومياتنا وعلى شاشاتنا وباتت تشكل مقياسنا لتقبل الأجسام الحية التي تعيش حولنا. هذا العالم لم يعد شخصيًا، والأرجح أنه يعتدي على ذاكرتنا بتلقيننا ما يجدر بنا أن نظنه جزءًا من حيواتنا ويومياتنا. لهذا كله يبدو محبوب أم كلثوم آتيًا من زمن غابر. زمن كانت العين فيه تأخذ استراحات طويلة من النظر، ولا تكتفي بدورها كوسيلة لتجنب المخاطر. زمن كنا فيه، كأفراد، أكثر انجذابًا لوحدتنا، وحدتنا التي من دون تحققها لم نكن لننجح في أن نحسب كسر الوحدة حبًا، لأننا نخاف من وحدتنا ونحسبها تقربًا من الموت.

محبوب أم كلثوم هو محبوبنا الذي لم نعد نلمح له ظلًا في يومياتنا. هو المحبوب الذي كانه شركاؤنا ذات يوم، وبالتأكيد ليس محبوبنا الذي نراه اليوم. محبوب أم كلثوم هو أمس شركائنا. يومهم السابق، أما حاضرهم وراهنهم فلا وظيفة له إلا التهيؤ ليصبح غدًا يومًا سابقًا يمكننا أن نحوله إلى ضوء عيوننا. نحن على الأرجح ما زلنا نحب كما كان أسلافنا يختبرون الحب. لكننا بتنا نحب صورة المحبوب ويومه السابق، في حين أن أسلافنا القريبين كانوا يحبون حاضر محبوبيهم لا ماضيهم المصور.

ملاحظة: الجملة الواردة أعلاه من أغنية أم كلثوم "ليلي ونهاري" التي كتب كلماتها عبد الفتاح مصطفى ولحنها رياض السنباطي وأنتجت عام 1962.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.