}

"إلى لزلي": عن جسم الأنثى وهو يطرد رغبة الآخر

بلال خبيز 28 مارس 2024
سينما "إلى لزلي": عن جسم الأنثى وهو يطرد رغبة الآخر
أندريا رايزبورو في مشهد من الفيلم

منذ المشاهد الأولى يجرّك فيلم "إلى لزلي" (To Leslie) إلى عالم لم نعتد على وجوده في عوالم الصور. ليس ثمة ألوان زاهية ومبهجة، ولا أمكنة وشوارع منارة تثير حسرة الممثلين والمشاهدين على حد سواء. أيضًا، ليس ثمة كثيرون ممن يظهرون في المشاهد الأولى ممن يمكن أن نطلق عليهم صفة الأصحاء. جميعهم، أو أغلبهم على أقل تقدير، مصابون بلعنة ما. لعنة تصيب الحياة الحديثة في قلبها تمامًا. ما يجعل إصلاحها وتشغيل ماكينتها مجددًا بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلَا.

لكن قوة الفيلم ليست في تصويره للبؤس المعاصر. قوة الفيلم تتجلى في قدرات ممثلته الرئيسية أندريا رايزبورو (Andrea Riseborough) على ابتكار وتمثيل بعض الحالات النفسية والاجتماعية المعاصرة، بوجهها وجسمها على حد سواء، أمام الكاميرا. هذه القدرة هي التي جعلت ممثلة قديرة ككيت وينسلت تقول عن دور أندريا بأنه أفضل تجسيد لدور نسائي على مر التاريخ. والحق أن الرغبة في موافقتها الرأي شديدة وعارمة. مع أن مُشاهد الفيلم (أي مُشاهد) لا بد وأنه لم يكن يرغب في وقت فراغه في أن يختبر مصاعب حياة لم يكن هو نفسه يعرف كيف يتعامل معها. بل ويرغمه الفيلم على التيقن من أن حل هذه المشكلات ليس متيسرًا، وليس ثمة بدائل مقبولة لأوهامنا التي درجنا على الافتراض بأنها حقائق.

نبدأ بالجسم الأنثوي: بخلاف ما فعل روبرت دي نيرو في الثور الهائج حين اضطر لزيادة وزنه بشكل ملحوظ لتأدية الدور على أحسن وجه، لم تبذل أندريا أي جهد صناعي، جسمها هو نفسه قبل وبعد الفيلم. لكن إيحاءاته تختلف، فجسم الأم المدمنة في الربع الأول من الفيلم يبدو بلا انحناءات. إنه هيكل يمشي على قدمين، وجسم المرأة اليائسة من كل شيء، في منتصف الفيلم يبدو مستسلمًا على نحو تام، فالمشاهد يغالب الإحساس بأن الممثلة ستغفو على البار بعد لحظات، في الوقت نفسه الذي تسعى فيه لاستمالة رجل جنسيًا، أي رجل. ذلك أنها وهي الفارغة من كل أمل، تأمل في أن تؤدي بجسدها خدمة لرجل ما مقابل دفع ثمن ما شربته أو إيوائها على سرير عابر. الجسم نفسه، من دون إضافات عليه، يتحول إلى جسم من الماضي حين ترتدي فستانًا حريريًا خلال مشاركتها في احتفال البلدة، جسم كان له في زمن من الأزمان صولات وجولات، وما حضوره الآن إلا تذكير بما كانه. هذا الجسم أيضًا يتحوّل في آخر مشاهد الفيلم إلى جسم امرأة ناضجة، مرغوب ومثير، لكنه مهجوس بغده، إلى حد أنه لا يجد وقتًا للاستجابة لرغبات الآخرين أو ملاحظة وجودها أصلًا.

الممثلة  الرئيسية أندريا رايزبورو والمخرج مايكل موريس  (Getty)


في لحظة من لحظات يأس لزلي في الفيلم تراود أملًا في إغراء أحد زوار البلدة الذي يجلس في البار مع صديقه. توضح له أنها مستسلمة وموافقة، بحركات يديها واستسلام نظرتها وتقديم شفتيها، ولا تناور قيد أنملة. لهذا يجد الرجل نفسه في موقع من يرفض الدعوة برمتها ويتمنى لها حظًا سعيدًا. ذلك أن الإغواء النسائي، يتمحور، كما يوضح تجنب لزلي لمندرجاته، حول تردد المرأة بين الرفض والقبول. تبتسم ثم تتراجع عن ابتسامتها، تنظر إلى الرجل الذي تفكر في قبول دعوته، ثم تنحرف ببؤبؤيها نحو الجهة المقابلة أو تخفض نظرتها، كما لو أنها تقول له، إنها لم تحسم أمرها، أو إن ما كان منها قبل لحظة لم يكن إلا بداعي الفضول. تعانق رفيقها في الرقصة لأنها تريد أن تختبر لمسته، وإن كانت ستوقظ في داخلها شيئًا مميزًا تريد اختباره. لكن المعانقة لا تعني استسلامًا. كل هذه الحالات التي تمر في لحظات الإغواء لا تعبر في جسم لزلي، ذلك أنها مستسلمة منذ البداية، ليس لأنها راغبة بتدليل جسمها مع رجل، بل لأنها راغبة في حمايته من البرد والجوع والعطش والحياة المعاصرة. هكذا يتبدى الجسم المعاصر بأنقى حالاته وضوحًا. الإغواء المعاصر بات يحتاج إلى تعريف جديد. قد تكون لزلي واحدة من اللواتي أضأن مراحله وأوضحنها. نساء اليوم كما نعرف، لسن منتظرات، ولا وقت لديهن لإنفاقه في جعل رغبة الرجال متقدة. إنهن عاملات ومتعبات، ويغالبن الرغبة في الاستلقاء بلا حراك لأيام وليال طويلة. ولأنهن متعبات، كمثل كل البشر المعاصرين، فإنهن أيضا لسن مستعدات لبذل جهود مضنية من أجل كسب ود الرجال. لقد اكتشفن على نحو ما أن البهجة في هذا العالم ضئيلة إلى حد مفزع، وليس ثمة من داع لنبذل جهودًا جبارة بغية تحققها لثوانٍ معدودة. والأرجح أن هذا المسلك هو ما لم يفقه معناه الرجال بعد، ولم يستعدوا للتعامل معه على أي نحو.

لزلي في هذا الفيلم تدعونا كل لحظة إلى التعود على واقعنا الجديد. الواقع الذي يضطرنا إلى تفضيل الألفة والصحبة وتبادل الحديث على كل ما عداها في العلاقات. وفي هذا التفضيل ما لا يعطي أفضلية لجسم شاب على جسم كهل. ذلك أن الأجسام كلها، كائنة ما كانت درجة تعبها، قادرة على الألفة والرقة ومباشرة حديث، وربما تكون الأجسام المتعبة أشد إثارة من تلك التي لم تقربها الكهولة بعد.

لزلي في فيلم "إلى لزلي" تجبر مشاهدها على الخجل من افتراضه أن المرأة ناقصة من دون تحضير نفسها، وأنها لا تصبح كاملة إلا حين تتزين وتستعد. وتدفعنا دفعًا لأن نحب كل النساء، في كل حالاتهن. ذلك أن ما يبقى في حقيقة الأمر ليس منحنيات الجسم المثير، بل قدرة هذا الشخص الذي يقابلنا على الإثبات بأنه كائن غني إلى درجة يصعب معها الإحاطة بكل ما يختزنه من غنى وخبرات.

"إلى لزلي" فيلم أنتج عام 2022 مستندًا إلى أحداث حقيقية، من إخراج مايكل موريس عن نص لراين بيناكو، تمثيل درو يونغ بلاد وأندريا رايزبورو التي رشحت لأوسكار أفضل ممثلة عن دورها في الفيلم.

مقالات اخرى للكاتب

آراء
18 أبريل 2024
اجتماع
8 أبريل 2024
تشكيل
18 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.