}

من ثورة 1936 إلى المقاومة الرّاهنة

عمر شبانة عمر شبانة 22 مارس 2024
آراء من ثورة 1936 إلى المقاومة الرّاهنة
قوات الانتداب البريطاني تزحف للقدس أثناء الثورة الفلسطينية 1936(Getty)
أكثر من مئة عام مرّت على الصراع المسلّح بين الشعب الفلسطينيّ من جهة، والانتداب ـ الاستعمار البريطانيّ وربيبته الصهيونيّة في الجهة المقابلة. ففي 1918، كانت "الثورة" الأولى تحمل في رحِمها جَنين ثورة أولى، ستتلوها ثورات، وتتصاعد في ذروتها إلى ثورة 1936 الشهيرة، وإضرابها لثلاث سنوات. ولا ننسى أن حركة الهجرة والاستيطان الصهيونيّين كانا قد انطلقا في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ولكنّ الاستعمار البريطانيّ أعطى لتلك الهجرة اليهوديّة، وذلك الاستيطان، جرعة كافية لمستقبل فلسطين الذي سيتمثّل في دولة الكيان الصهيونيّ، دولة العصابات، بصفتها ذراعًا عسكرية لهذا الاستعمار الإمبريالي.
إن ما يجري اليوم من حرب على الشعب الفلسطينيّ بكلّ مكوّناته وقواه وفصائل مقاومته، وما تقوم به القوى العظمى وتابعوها ووكلاؤها من القوى العربيّة والإقليميّة، ليس سوى استمرار لذلك الدور الذي قامت به دولة الانتداب ـ الاستعمار البريطاني وربيبته الصهيونيّة منذ بدء الانتداب (1918)، مرورًا بكلّ "الهبّات" الشعبية، وترسيخ وتعميق لذلك الدور. لكنّ ما نشهده اليوم أشدّ همجيّة ووحشيّة، فهو عنف يفوق ما شهدته فلسطين والفلسطينيّون على مدى عقود من الصراع، لأنّه حرب مفتوحة على الشعب الأصليّ لتثبيت القوة الاستعماريّة وأدواتها في فلسطين والمنطقة.
وبالعودة إلى تلك البدايات، نقرأ ما يقول الشهيد غسّان كنفاني، في كتابه "ثورة 36 ـ 39 في فلسطين؛ خلفيّات وتفاصيل وتحليل"، إن الحركة الثوريّة الفلسطينيّة تلقّت، ما بين العامين 1936 و1939، ضربة ساحقة في ثلاث نقاط شكّلت المعضلة الأساسيّة التي واجهها شعب فلسطين، وهي: القيادات المرجعية المحليّة، ذات الطابع الإقطاعي الدينيّ، ومن خلفها الأنظمة العربيّة المحيطة بفلسطين، والحلف الإمبرياليّ ـ الصهيونيّ. وبالوقوف على حديث كنفاني نستطيع القول إن الحركة الثورية هذه، ولا نعني المقاومة المسلّحة فقط، بل نقصد الثورة الشاملة، ما تزال تتلقّى الضربات من القوى نفسها، ومع قليل جدًّا من التعديلات في التفاصيل، وليس في الاستراتيجيّات العميقة.
هنا يخطر السؤال الأساس: ما الذي اختلف منذ ثورة 36 حتى اليوم؟ وبماذا تختلف نكبة 48 عمّا يجري اليوم في غزّة والقدس ورام الله، وحتى مع عرب داخل الخط الأخضر؟ فهل تغيّرت القوى الرجعيّة المحليّة والعربية؟ أم تغيّرت القوى الاستعماريّة وحليفتها، بل ربيبتها الصهيونيّة؟ ما تغيّر حقًّا هو تراجع دور العشائر والعائلات ومصالحها المرتبطة بتحالف وثيق مع الإمبرياليّة ـ البريطانية آنذاك ـ والصهيونيّة، لصالح طبقة من الوكلاء المرتبطة مصالحهم بالصهيونيّة والإمبريالية الأميركية والأوروبيّة، من دون أن تخفي هذه الطبقة توجّهاتها، كما يبدو جليًّا في علاقة سلطة أوسلو بهذا الاستعمار المزدوج. وبينما كان الطابع الطبقيّ للصراع واضحًا في تلك الآونة، فإن تغييرًا ما قد حدث مع بروز قوى جديدة، بطابع دينيّ.
لعلّ من اللافت للنظر في مقولات كنفاني في كتابه المذكور تقديره لكون "الصراع" الذي خاضته القوى الفلسطينيّة في تلك الثورة، مع الصهيونيّة، كان صراعًا على التقرّب من الإمبرياليّة البريطانية، وليس في مواجهتها، فقد كانت تظنّ أنّها سوف تكسب الانتداب ـ الاستعمار البريطاني في مواجهة الصهيونيّة. وسواء كان هذا الظنّ سذاجة أم انتهازية، فهو في كلا الحالين تعبير عن طبيعة وعي تلك القوى ومصالحها. لذلك كانت صدمتهم بأنّ الصهيونيّة هي "العميل" الأقرب للاستعمار البريطاني، حين أنهت بريطانيا ذلك الصراع بتسليم فلسطين للصهاينة. والأدهى أن تلك القوى كانت تتصارع في ما بينها لتثبت كلّ منها قدرتها على خدمة الاستعمار أكثر من غيرها، جاهلة ـ أو متجاهلةً ـ أنها بذلك تخدم الاستعمار والصهيونيّة معًا.

دور الأنظمة العربيّة
وإذا كان مفهومًا دور الاستعمار ـ الانتداب البريطانيّ وربيبته الصهيونيّة في القضاء على تلك الثورة (36 ـ 39)، فإن مراجعة دور الأنظمة العربية المحيطة بفلسطين، في إجهاض هذه الثورة، لم يكن خافيًا. فقد كانت هذه الأنظمة تبذل كلّ ما في وسعها لكبح حركة جماهيرها العربية والفلسطينيّة. وهي بهذا الدور كانت تتماهى مع كلّ من الاستعمار البريطاني والصهيونيّة للقضاء على الثورة، مستندة إلى وعود بريطانية حينًا، وإلى أوهام بإمكانية الوصول إلى تسويات "سلميّة" حينًا آخر.




لكنّ المحرّك الأساس في ذلك كلّه هو مصالحها الضيّقة التي تبقيها في موقعها. ولولا هذه الأدوار كلّها، لما كانت حال الشعب الفلسطينيّ وثورته صارت إلى ما صارت إليه اليوم.
لننظر اليوم إلى ما يحدث في فلسطين عمومًا، وغزة خصوصًا؛ فنحن أمام شكل من أشكال المقاومة العسكريّة أساسًا، مقاومة تضمّ قوى عدّة، قوى مختلفة في المرجعيّات والرؤى، لكنّها تتفّق على نهج مواجهة الصهيونيّة، وإن اتّخذت في غالبيّتها طابعًا دينيًّا واضح الهويّة والمعالم، وليس المجال الآن للخوض في تفاصيل هذه الهوية وملامحها، ولا النظر في حلفائها، وما يمكن أن تفضي إليه في نهاية "الصراع"، فما يهمّنا هو طبيعة القوى المتحالفة ضدّ هذه المقاومة. فهي، كما يبدو جليًّا، لا تواجه الصهيونيّة والإمبرياليّة فقط، بل تجتمع عليها قوى الرجعيّة العربية أيضًا. وبما يذكّرنا بدور تلك الرجعيّة في قمع وإجهاض "ثورة 36".

المقاومة في محطّات ومراحل
ولعلّ هذا الوضع القائم حاليًّا ليس جديدًا أبدًا، فهو مشهود في محطّات ومراحل عاشتها المقاومة الفلسطينية على مدى عقود، وإن اختلفت القوى وأساليبها في مناهضة الشعب الفلسطينيّ ومقاومته، لكنّ القاعدة هي نفسها منذ ثورة 1918 حتى اليوم، مرورًا بانطلاقة المقاومة ـ ولا أقول الثورة ـ في 1965، وصولًا إلى اتفاقيّات أوسلو وما ترتّب عليها من مآلات. بل إن المهزلة تزداد سطوعًا، كما أنّ اللاعبين يزدادون إيغالًا في "لُعبتهم"، وولوغًا في دم الضحيّة.
في مسيرة هذا الصراع، يبدو أن ثمّة تحوّلات في كلا الطرفين، الحركة الفلسطينيّة، من جانب، والحركة الصهيونيّة من جانب، مع اختلافهما الجوهريّ بالطبع، ويمكن اعتبارها تحوّلات جذرية في بعض جوانبها، خصوصًا لجهة الانتماءات الدينية والعقَديّة والقوميّة، الأمر الذي يمكن أن نلحظه في التحوّل نحو اليمين "الجديد" لدى الطرفين، ووضع الأقصى مقابل الهيكل، واحتمالات حروب دينيّة بدلًا من السياسية والوطنيّة والقوميّة، وتراجع كبير في اليسار والوسط اللذين سادا منذ الخمسينيات والستينيات حتى مطلع التسعينيات، في ما يتعلّق بالحركة الوطنية الفلسطينية على وجه الخصوص. وهذه تحوّلات لا يمكن فصلها عن تحوّلات إقليميّة ودوليّة بصورة خاصة، وربّما أمكنت الإشارة في هذا الصدد إلى سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، من جهة، وصعود إيران و"ثورة" الخمينيّ، من جهة مقابلة.
أما في الكيان الصهيونيّ، فالتحوّلات الجارية هناك تبدو شديدة الجلاء لكلّ متابع لصعود اليمين المتطرّف، وتحكّمه ببعض مفاصل الكيان المهمّة والأساسية، بما يسمح لهذا اليمين بالدخول في تركيبة الدولة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وقد كان واضحًا منذ بداية إنشاء هذا الكيان أثر المعطيات والعوامل الفكرية والثقافية الصهيونيّة في تكوينه. لكنّ من الضروري أيضًا البحث في مآلات الصهيونيّة نفسها، وما بعد الصهيونيّة، كما يرى بعض المنظّرين الصهاينة. وهنا نستعير عبارة يشعياهو ليبوڨيتش (1903 ـ 1994) إذ يرى "إنّ النشوة القوميّة المتباهية بعد انتصار حرب الأيام الستّة ستتحوّل إلى قومية دينية متطرفة، تليها مرحلة البهيميّة المتوحّشة، ومن بعدها ستكون مرحلة نهاية الصهيونية". كما يرى وجود "خطر أن تصبح دولة إسرائيل فاشيّة. فلقد أصبح العنف جوهر دولة إسرائيل". ("ضفة ثالثة"، عدد 27  فبراير/ شباط 2024).
وكما بدأنا برؤية كنفاني للحركة الوطنية الفلسطينية وثورتها، نختم برؤيته لدور الثقافة والأدب الصهيونيّين في خدمة المشروع الصهيوني، إذ يرى في كتابه "في الأدب الصهيوني" أن "الأدب الصّهيونيّ كان جزءًا لا يتجزّأ ولا غنى عنه، استخدمته الصّهيونيّة السّياسيّة على أوسع نطاق، ليس فقط لخدمة حملاتها الدعائيّة، بل أيضًا لخدمة حملاتها السّياسيّة والعسكريّة. ولن يكون من المبالغة أن نسجّل هنا أن الصّهيونيّة الأدبيّة سبقت الصّهيونيّة السّياسيّة، وما لبثت أن استولدتها وقامت الصّهيونيّة السّياسيّة بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخطّطاتها ليلعب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة التي نُظِّمت لتخدم هدفًا واحدًا".
ويضيف "وإذا كانت الصّهيونيّة السّياسيّة هي نتاج للتعصّب وللعرقيّة، فقد كانت الصّهيونيّة الأدبيّة هي أولى إرهاصات ذلك التعصّب وتلك العرقيّة. ونلاحظ أن التيّار التعصبيّ العرقيّ، وتسييس الدين اليهوديّ، عبّرا عن نفسيهما أوّلًا بالأدب، وأن هذا الأدب قام، تحت ضغط نموّ العنصرية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بلَعب دورِ دليلِ العمل لذلك التيّار اليهوديّ المتعصب الذي ما لبث أن بلور نفسه في حركة صهيونيّة سياسية".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.